عرفت المسيحية طريقها إلى مصر على يد القديس مرقص في منتصف القرن الأول الميلادي، ولم يمر وقت طويل حتى انصرف المصريون عن أديانهم الوثنية، وتحولوا بشكل كثيف لاعتناق الدين الجديد. تدريجياً، وقع نوع من أنواع الارتباط والامتزاج بين العقائد المصرية القديمة الموروثة من جهة، وبين الأفكار المسيحية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي نتج عنه ظهور نسق من التديّن القبطي المميز، والذي تفرّدت به مصر على مرّ العصور.
هذا النسق الفريد من نوعه، مكّن الأقباط من إثبات هويتهم الجمعية في العديد من اللحظات التاريخية الحرجة، وذلك من خلال مجموعة كبيرة من الشعائر والطقوس، والتي لم تلبث أن دخلت في بنية الفلكلور الشعبي المصري، واحتفظت بآثارها في الأعياد والأمثال والمناسبات الشعبية، فضلاً عن بعض الكلمات والمفردات المتداولة في لغة المصريين حتى اللحظة.
في مصر القديمة، عبّر المصريون عن هويتهم من خلال المعبود الإقليمي الخاص بكل مدينة، والذي نُسجت حوله القصص التي تربطه بمحيطه الجغرافي
قصص القديسين
في مصر القديمة، عبّر المصريون عن هويتهم من خلال المعبود الإقليمي الخاص بكل مدينة، والذي نُسجت حوله القصص التي تربطه بمحيطه الجغرافي، أما بعد اعتناق المصريين للمسيحية، فقد التمس أهل كل مدينة هويتهم الخاصة، من خلال بعض الشخصيات الدينية التي تحيط بها هالات التقديس والتبجيل، كالقديسين والشهداء، وهو الأمر الذي تناغم مع النزعة التوحيدية في المسيحية، والتي لم تكن لتسمح بتعدد المعبودات والأرباب. هذا الملمح يمكن تمييزه بوضوح في سير وقصص القديسين والرهبان، من أمثال مار جرجس، مريم العذراء وبرسوم العريان.
على سبيل المثال، اعتاد المسيحيون المصريون الاحتفال بمولد البطل مار جرجس الروماني، الذي عُرف ببطولته واستشهاده زمن حكم الإمبراطور الروماني دقلديانوس. أطلق الأقباط اسم مار جرجس على ما يزيد عن 135 كنيسة في شتى أنحاء وربوع مصر، وأقاموا الاحتفالات العظيمة بمولده في بعض الأماكن التي عرفت تقديس أوزير وحورس قديماً، ومن أهمها قرية ميت دمسيس بالدقهلية، وجبل الرزيقات بقنا.
بعد اعتناق المصريين للمسيحية، التمس أهل كل مدينة هويتهم الخاصة، من خلال بعض الشخصيات الدينية التي تحيط بها هالات التقديس والتبجيل، كالقديسين والشهداء، وهو الأمر الذي تناغم مع النزعة التوحيدية في المسيحية، والتي لم تكن لتسمح بتعدد المعبودات والأرباب
في السياق نفسه، نُسبت لمار جرجس العديد من المعجزات والخوارق التي تتشابه مع قصص معبودات مصر القديمة، ومنها إخراج الشياطين والأرواح الشريرة وتعطيل السحر، كما جرى ترسيم الصورة الأيقونية الشهيرة لمار جرجس أثناء صراعه مع الشيطان، بما يتناغم مع الصورة المعروفة التي رسمها المصريون القدامى على جدران معابدهم، والتي يظهر فيها الإله حورس راكباً حصانه، وقد غرس سيفه في جسد الإله ست.
الحالة نفسها تظهر فيما يخص التصور القبطي الشعبي عن السيدة مريم العذراء، فعلى سبيل المثال، تذكر الروايات الكنسية أن الماء قد تفجر تحت أقدام المسيح والعذراء أثناء جلوسهما تحت شجرة وارفة الظل، في ناحية من نواحي مصر القديمة، وأن العذراء قد وضعت يدها في الماء المتفجر وقالت: "الماء طرية"، وهي الجملة التي سيشتق منها فيما بعد اسم المطرية، وهو الاسم الذي سيطلق على تلك الناحية.
هذه الأسطورة، تتشابه كثيراً مع بعض الأساطير القديمة عن إيزيس وحورس، كما تتشابه مع روايات إسلامية مماثلة ستظهر فيما بعد، وستحل فيها السيدة هاجر والنبي إسماعيل في مواقع البطولة.
نُسبت لمار جرجس العديد من المعجزات والخوارق التي تتشابه مع قصص معبودات مصر القديمة، ومنها إخراج الشياطين والأرواح الشريرة وتعطيل السحر، كما جرى ترسيم الصورة الأيقونية الشهيرة لمار جرجس أثناء صراعه مع الشيطان، بما يتناغم مع الصورة المعروفة التي رسمها المصريون القدامى على جدران معابدهم
أيضاً من الممكن أن نلمس تشابهاً واضحاً في قصص إيزيس ومريم والسيدة زينب، فثلاثتهن مثّلن النموذج الأكمل والأتم للأم الحنون التي تحمي ابنها من الأخطار، وثلاثتهن خضن رحلة ملحمية شاقة، إلى أن استقر المقام بهن في أرض الكنانة.
أما في قصة القديس برسوم العريان، والذي يحتفل الأقباط بمولده بشكل سنوي في حلوان، فنجد أن العقل القبطي الشعبي قد عقد تقارباً واضحاً ما بين القديس العريان والقطب الصوفي الشهير أحمد الرفاعي، إذ اشتهر كلاهما بالتعامل مع الثعابين والأفاعي، وهو الأمر الذي أشار له الباحث المصري عصام ستاتي، في كتابه "مقدمة في الفلكلور القبطي"، عندما ذكر أن هناك تشابهاً ملحوظاً في الأغاني والأناشيد التي يرددها المريدون في موالد العريان والرفاعي على وجه الخصوص، ومن أبرزها "عم يا عريان يا طب التعبان"، و"عم يا رفاعي يا طب الأفاعي".
كل تلك التشابهات توضح كيف تغلغلت السير المسيحية في الفلكلور الشعبي المصري، إذ احتلت مكاناً وسيطاً بين الذاكرتين المصرية القديمة والإسلامية، ما ضمن لها حضوراً لا يمكن إنكاره أو التغافل عن تأثيره في الواقع المصري عبر القرون.
اللغة والأمثال
على الرغم من تحول أغلبية المصريين لاستخدام اللغة العربية بعد عدة قرون من استيلاء العرب على مصر، إلا أن اللغة القبطية قد ظلت حاضرة ومؤثرة في الوجدان المصري الجمعي، وذلك من خلال الكثير من الكلمات ذات الأصل القبطي، فضلاً عن بعض الأمثال والتراكيب اللغوية المتداولة.
بحسب ما يذكر الباحث المصري، روبير الفارس، في كتابه "من الفلكلور السياسي للأقباط"، فإن الكثير من المصريين قد حافظوا على استخدام اللغة القبطية في تعاملاتهم اليومية حتى القرن السادس عشر الميلادي، ورغم إهمال تلك اللغة في عصرنا الحاضر، فقد بقي ما يقرب من 3000 كلمة قبطية مستخدمة على نحو واسع في العامية المصرية حتى اللحظة.
نلمس تشابهاً واضحاً في قصص إيزيس ومريم والسيدة زينب، فثلاثتهن مثّلن النموذج الأكمل والأتم للأم الحنون التي تحمي ابنها من الأخطار، وثلاثتهن خضن رحلة ملحمية شاقة، إلى أن استقر المقام بهن في أرض الكنانة
من أشهر تلك الكلمات، "أراجوز" والتي تعني عمل الكلام، و"الهبر" التي تعني القطع الكبيرة من اللحم، و"إمبو" بمعنى الشرب، و"تنيح" بمعنى مات، ومنها اشتقت كلمة مناحة بمعنى كثرة الحزن والبكاء.
أيضاً من التراكيب القبطية الشائعة، جملة "واحوي يا واحوي"، التي يستقبل بها الأطفال شهر رمضان، وهي في الأصل دعاء للقمر، بمعنى استقر أيها القمر، وجملة "حلالي بلالي" والتي تعني يا هنايا يا فرحتي، وجملة "كاني وماني" والتي تعني السمن والزيت.
الثقافة القبطية المسيحية تظهر بشكل مكثف في مجموعة متنوعة من الأمثال المصرية ذائعة الصيت التي يذكرها عصام ستاتي في كتابه، والتي قدمت المسيحي بأشكال مختلفة إلى حد بعيد.
من ذلك المثل القائل "بالعمارة والتمارة وجيزة النصارى"، والذي يُمتدح فيه شكل الزواج المسيحي الأرثوذكسي، الذي لا يقبل الطلاق أو الانفصال إلا لعلّة الزنا، ومثل "لقمة النصراني، تنزل البطن تقول لا إله إلا الله"، والذي يشير لحالة التسامح الاجتماعي بين المسلمين والمسيحيين، ومثل "أسلمت سارة، لا زاد المسلمين ولا قل النصارى"، وهو مثل يدعو للبعد عن المشاحنة والتعصب الطائفي، ومثل "اتكل عيسى على موسى، وضاعت الجاموسة"، وفيه مضاهاة ومشابهة واضحة للمثل العربي "ما حك جلدك مثل ظفرك"، ويدعو للاعتماد على النفس ولكن من خلال مسحة مسيحية واضحة.
على الرغم من تحول أغلبية المصريين لاستخدام اللغة العربية بعد عدة قرون من استيلاء العرب على مصر، إلا أن اللغة القبطية قد ظلت حاضرة ومؤثرة في الوجدان المصري الجمعي، وذلك من خلال الكثير من الكلمات ذات الأصل القبطي، فضلاً عن بعض الأمثال والتراكيب اللغوية المتداولة
في سياق آخر، قد تبرز الأمثال بعض الاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون في بعض الأوقات، ومن ذلك "اسلمي يا كنيسة، واللي في القلب في القلب"، وهو مثل يعكس حالة التقية التي لجأ إليها الكثير من الأقباط عندما أجبروا على اعتناق الإسلام في بعض المراحل التاريخية الدقيقة.
الذاكرة القبطية اهتمت أيضاً بتسليط الضوء على التقويم القبطي، الذي ابتدأ في سنة 284م، مع اعتلاء الإمبراطور دقلديانوس لكرسي الإمبراطورية الرومانية، إذ عدته تقويماً للشهداء الذين قضوا حياتهم في سبيل الدفاع عن معتقداتهم المسيحية.
الشهور القبطية المرتبطة بأعمال الزراعة والحصاد والفيضان، حازت أيضاً مكانة مهمة في الفلكلور الشعبي المصري، إذ تم تخليد تلك الشهور في مجموعة من الأمثال المشهورة، والتي تمكنت من إثبات وجود الشهور القبطية القديمة مقابل الشهور الميلادية والسريانية والهجرية، والتي عرفها المصريون فيما بعد.
من تلك الأمثال، "غطستم صيفتم ونوزتم شتيتم"، وفيه تتم الإشارة لمناسبتي الغطاس والنيروز، وهما من بين المناسبات المسيحية المهمة، في إبداء التعجب والاندهاش ممن يرتدي الملابس الخفيفة في الشتاء بينما يرتدي الملابس الثقيلة في الصيف، ومن تلك الأمثال أيضاً "عاش النصراني ومات ومأكلش لحمة برمهات"، والذي يلمح لفترة الصوم الكبير عند المسيحيين.
من جهة أخرى، خلدت الذاكرة القبطية مجموعة كبيرة من الأمثال التي تتعرض للتغيرات المناخية في كل شهر، ومنها على سبيل المثال "زرع هاتور خلى الأرض تبور"، "توت يقول للحر موت"، "طوبة تخلي العايقة كركوبة"، و"كهيك، صباحك مساك".
الأعياد الشعبية
على الرغم من تحول أغلبية المصريين لاعتناق الإسلام، إلا أن طقوس وشعائر الأعياد المسيحية القبطية ظلت حاضرة في الوجدان الشعبي المصري، الأمر الذي ساعد في التأكيد على الهوية القبطية.
بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، فإن الأقباط اعتادوا الاحتفال بمجموعة كبيرة من الأعياد والمناسبات الدينية في العصر الفاطمي، وكان من المعتاد أن يشاركهم المسلمون تلك الاحتفالات بشكل أو بآخر.
يتحدث المقريزي عن بعض مظاهر تلك الاحتفالات، فيقول: "كان الأقباط يوقدون المشاعل والشموع العديدة ويزينون الكنائس، وكانت الشموع بألوان مختلفة وفي أشكال متباينة، فمنها ما هو على شكل تمثال عمود أو قبة، ومنها ما هو مزخرف أو محفور، ولم يضيئوا الكنائس والمنازل بها فقط، بل كانوا يعلقونها في السوق وأمام الحوانيت وأمام محلاتهم...".
أعياد الأقباط شهدت استمرار العادة القديمة التي تشجع على صناعة "الكحك" المكوّن من خليط الدقيق والسمن والعسل، والذي يأخذ شكل قرص الشمس، كما شهدت بعض تلك الأعياد، ولا سيما الميلاد والغطاس والقيامة، عادة زيارة المقابر وأماكن دفن الموتى، في محاكاة واضحة لطقوس استذكار الموتى في الثقافة المصرية القديمة.
الكثير من الطقوس الاحتفالية القبطية ظهرت في بعض الطقوس الإسلامية، ومن ذلك الحلوى المعروفة باسم "عروسة المولد"، التي اعتاد المصريون شراءها في المولد النبوي، والتي كان اسمها القديم هو "عروسة القمح"، وكانت تُباع على نطاق واسع في فترات الاحتفال بالآلهة أوزير وإيزيس
الأمر المثير للدهشة، أن كتابات المؤرخين القدامى تتفق بشكل كبير مع ممارسات الأقباط المعاصرين في وصف شكل الاحتفال بالكثير من تلك الأعياد، من ذلك أن المسيحيين اعتادوا الخروج إلى شاطئ النيل وتناول القلقاس والقصب وقت عيد الغطاس، وأنهم اعتادوا الاكتحال يوم سبت النور، وهو ما يمكن فهمه على كونه نوعاً من أنواع الحماية من أمراض العيون التي تنشط بدرجة كبيرة في فترة رياح الخماسين في فصل الربيع، وهو الوقت الذي تحل فيه ذكرى سبت النور في كل عام.
في السياق نفسه، حافظ المسيحيون المصريون على الاحتفال برفع سعف النخيل وصناعة المجدولات المصنوعة من السعف يوم أحد الشعانين من كل عام، وذلك تشبهاً بما ورد في العهد الجديد عن مظاهر استقبال أهل أورشليم للمسيح رافعين السعف بأيديهم.
أيضا اعتاد المسيحيون تناول أطعمة معينة خلال أسبوع الآلام، ومن أبرز تلك الأطعمة، العدس وفتة الفول النابت والفريك والسلطة الخضراء، وربما كان القول المشهور "أنا الفريك محبش شريك"، راجعاً لعادات الأقباط الغذائية في تلك الفترة بالذات، بحسب ما يرجح عصام ستاتي في كتابه.
الأمر المثير للإعجاب أن الكثير من الطقوس الاحتفالية القبطية قد ظهرت في بعض الطقوس الإسلامية، ومن ذلك الحلوى المعروفة باسم "عروسة المولد"، فبحسب ما يذكر روبير الفارس في كتابه سابق الذكر، فإن تلك الحلوى التي اعتاد المصريون شراءها في المولد النبوي، كانت في الأصل إعادة إنتاج لبعض التماثيل المسيحية التي ورثها المسيحيون المصريون بدورهم عن أجدادهم المصريين القدماء، إذ كان اسمها القديم هو "عروسة القمح"، وكانت تُباع على نطاق واسع في فترات الاحتفال بالآلهة أوزير وإيزيس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...