في أواخر شباط/ فبراير الماضي، قدَّمت الشرطة في إنكلترا تجربة لحجاب عملي مصنوع من نسيج يسمح بالتحرك بحرية وسهولة. وفي وقت سابق من الشهر نفسه، أعلنت شرطة نورث يوركشر في اسكتلندا اعتمادها حجاباً للشرطيات المسلمات صُمِّم بمواد تُستعمَل في صناعة المنتجات الرياضية.
من بين اللواتي انضممن إلى جهاز الشرطة البريطانية بهذا النوع من الحجاب الجديد، خديجة منصور. تقول إنها تستطيع القيام بمهامها تماماً مثل أي شرطية أخرى، وتضيف أنه "من المهم أن يكون الحجاب جزءاً من زي الشرطة الرسمي لتشجيع مسلمات أخريات على الانضمام إلى هذا الجهاز".
في قطاع آخر، تبنى مستشفى Royal Derby Hospital البريطاني في أواخر عام 2019 فكرة لطبيبة ماليزية تُدعى فرح رسلان تقضي بارتداء الطبيبات المسلمات داخل غرف العمليات "حجابا معقَّماً" يُستخدم لمرة واحدة.
واقترحت رسلان هذه الفكرة بعد تخوّفها من انتقال العدوى بسبب حجابها الذي ترتديه طوال الوقت خلال عملها داخل هذا المستشفى.
وأشارت إلى أنها كانت بحاجة إلى حل وسط يحترم "العقيدة ومعايير الزيّ المهني"، ما دفعها إلى التفكير في مواد مناسبة لتصنيع هذا الحجاب الذي تتمنى أن يزيل بعضاً من العراقيل التي تقف أمام جذب مزيد من المواهب إلى مجال الجراحة.
هذان المثالان عن اعتماد الحجاب في جهازين حيويين في بريطانيا، هما الشرطة والصحة، يُعَدّان من أقوى الأمثلة على اختلاف هذه الدولة عن دول أوروبية أخرى، من حيث مقاربتها لموضوع أثار ويثير سجالات مستعصية حتى في بلدان إسلامية.
حققت المرأة المحجبة في هذه الجزر خطوات مهمة للوصول إلى مراكز ووظائف سامية في البرلمان والمحاكم والقنوات التلفزيونية والمؤسسات العمومية وغيرها، وهي سيناريوهات مستبعدة للغاية في بعض الدول الأخرى، إذ لا يمكن تخيّل وجود شرطيات أو قاضيات محجبات في فرنسا أو النمسا مثلاً.
وكان موقع "سلايت" بنسخته الفرنسية قد نشر تقريراً أشار فيه إلى أن كثيرات من المحجبات صرنَ يفضلن مغادرة فرنسا في اتجاه إنكلترا للعمل، بحكم أن هذا البلد الأوروبي الأخير لا يفرض شروطاً تخص الحجاب، بعكس فرنسا التي تملي شروطاً كثيرة، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بوظائف في القطاع العمومي.
ولعل هذا التعامل الإيجابي مع الحجاب في بريطانيا مرده إلى تجذر الإسلام في هذه الجزر فالإسلام يُعَدّ ثاني أكبر ديانة في بريطانيا، والمسلمون يشكلون 4.4% من إجمالي سكان البلاد.
وكان استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب قد أكد أن الجالية المسلمة ترى أنها أكثر وطنية من باقي السكان تجاه بريطانيا، كما أن حوالي 83% من المسلمين يفخرون بكونهم مواطنين بريطانيين مقارنة بـ79% من عامة البريطانيين، بينما وجد استطلاع آخر أن المسلمين يؤكدون أنهم يدعمون دور المسيحية في الحياة البريطانية أكثر من المسيحيين البريطانيين أنفسهم.
تقول شيماء، وهي طالبة مغربية تدرس إدارة الأعمال في لندن وتبلغ من العمر 28 سنة، لرصيف22 إن بريطانيا، في رأيها، قد لا تكون مثالية ولكنها تظل أفضل بكثير للمرأة المحجبة، لأنها تسمح لها بالحضور بقوة في الفضاء العام.
اعتماد الحجاب في جهازين حيويين في بريطانيا، هما الشرطة والصحة، يُعَدّ من أقوى الأدلة على اختلاف هذه الدولة عن دول أوروبية أخرى، من حيث مقاربتها لموضوع أثار ويثير سجالات مستعصية حتى في بلدان إسلامية
وتحدثت عن صعوبات تواجهها نساء اخترن ارتداء الحجاب في دول أوروبية أخرى يوجد بعض من صداها في قصص وحكايات نُشرت وتُنشر في مجموعات خاصة على فيسبوك، بعضها مغلق، مثل مجموعة Surviving Hijab التي انطلقت عام 2014 بهدف دعم النساء اللواتي يرتدين الحجاب أو يفكرن في ارتدائه حول العالم. وتضم المجموعة الآن نحو مليون عضوة معظمهن من العالم العربي لكن تجاربهن تتوزّع على دول كثيرة، لا سيما في الغرب.
في تحقيق أجرته "بي بي سي" وعَرَض تجارب بعض المحجبات في بريطانيا، خلص بعضهنّ إلى القول إن تجربة ارتداء الحجاب أكثر سلاسة ويُسراً في لندن مقارنة بمدينة في عقر العالم العربي، وأكّدن أنهن يشعرن في المطاعم والمنتجعات في الغرب براحة أكثر مقارنة مثلاً بالساحل الشمالي لمصر.
محجبات "فرضن أنفسهن"
من ضمن النماذج التي يقدّمها الإعلام البريطاني كدليل على مدى عمق اندماج الحجاب في الحياة اليومية في هذه الجزر، نموذج نادية حسين، المختصة في إعداد الحلويات البريطانية والتي اختيرت لتعدّ حلوى عيد ميلاد الملكة إليزابيث الثانية عندما بلغت من العمر تسعين سنة.
وكذلك، هنالك نموذج رافية أرشد التي كانت أول بريطانية مسلمة تصبح قاضية بحجابها، وراقية إسماعيل، ذات الأصل الصومالي، والتي كانت أول محجبة تتولى منصب عمدة منطقة إزلنغتون، شمال العاصمة لندن.
رافية أرشد
كما سُمح لطالبة قانون محجبة تدعى سارة افتخار بالمشاركة في نهائي ملكة جمال إنكلترا في موسم 2018، بجانب 49 متسابقة أخرى، وهي ترتدي زيها الباكستاني التقليدي.
كما كانت إكرام عبدي عمر، من مدينة بريستول جنوب غرب إنكلترا أول عارضة محجبة في المملكة المتحدة تظهر على غلاف مجلة "فوغ" Vogue في عمر الحادية والعشرين، وأول وجه لعلامة بِربري للأزياء Burberry عام 2019.
إكرام عبدي عمر
ومن الجوانب الإيجابية التي يمكن رصدها في قضية الحجاب في بريطانيا وجود نهج حكومي وآخر شعبي للدفاع عن الحجاب. فهيئة أوفكوم لتنظيم الاتصالات، وهي الهيئة التي تنظّم وتراقب محتوى البث في المملكة المتحدة وبإمكانها معاقبة أي وسيلة إعلامية بحال أساءت للمرأة أو دعت إلى الكراهية أو ازدرت الأديان، رفضت كل الشكاوى التي رفعها يمينيون، والبالغ عددها 17، ضد القناة الرابعة الإخبارية بعد سماحها للمحجبة فاطمة مانجي بالظهور على شاشتها للقيام بتغطية حيّة لهجوم نيس الفرنسية في تموز/ يوليو 2016، والذي خلّف أكثر من 80 ضحية بعدما اقتحم إرهابي شارعاً يقابل البحر بسرعة كبيرة، ودهس مَن وجدهم في طريقه قبل أن تقتله الشرطة.
تجربة ارتداء الحجاب في لندن أكثر سلاسة ويُسراً مقارنة بمدينة في عقر العالم العربي، والمحجبات يشعرن في المطاعم والمنتجعات في الغرب براحة أكثر مقارنة مثلاً بالساحل الشمالي لمصر
كما شهد شهر شباط/ فبراير الماضي توقيع أكثر من 100 سياسي وكاتب وشخصية بارزة رسالة مفتوحة للتنديد بالطريقة الفظة التي انتهجتها إيما بارنيت، مقدمة برنامج "الساعة النسائية"، على "بي بي سي"، في محاورتها لزارا محمد التي كانت أول امرأة تترأس المجلس الإسلامي في بريطانيا، إذ اتُّهمت المذيعة بطرح أسئلة "عدائية" على ضيفتها وإدارة الحوار بأسلوب المحاسبة، بدل التواصل.
الحجاب.. "بيزنس رابح"؟
يشبّه أحدهم نظرة البريطانيين البراغماتية للحجاب بنظرتهم لتجارة اللحم الحلال الذي تتهافت كبريات المتاجر على بيعه، ولا أدلّ على ذلك من إقدام سلسلة متاجر جون لويس التي تُعَدّ من بين الأشهر والأكبر في بريطانيا، على إدراج الحجاب، لأول مرة، ضمن الملابس الموسمية التي تعرضها لطالبات المدارس مع الزي الرسمي.
وبدأت هذه المتاجر ببيع الحجاب لطالبات المدارس بعد أن أبرمت عقداً مع "المدرسة الإسلامية للبنات" في شمال غرب لندن لتزويدها بالحجاب، وهذه المدرسة هي واحدة من أكبر وأشهر المدارس الإسلامية في المملكة المتحدة، وأسسها المنشد وكاتب الأغاني يوسف إسلام (Cat Stevens سابقاً)، عام 1983، بعد ست سنوات على اعتناقه الإسلام.
ويتناسق الحجاب لدى جون لويس في تصميمه ولونه مع الزي المدرسي الذي يحمل أيضاً شعار المدرسة واسمها.
وسارعت مجموعة "ماركس آند سبنسر" لتقليدها، فبدأت ببيع حجاب مخصص للفتيات الصغيرات، بعد طلبات تلقتها من مدارس بريطانية. وكانت صحيفة صنداي تايمز قد أجرت مسحاً عام 2017 شمل 800 مؤسسة تعليمية وخلصت إلى أن 18% منها أدرجت الحجاب في قائمة الأزياء المسموح بارتدائها، بدءاً من سن الخامسة.
وأشار استطلاع رأي آخر أجرته The National Secular Society عام 2017 أيضاً إلى أن 42% من المدارس الإسلامية، بينها 27 مدرسة ابتدائية، تُلزم الطالبات بارتداء الحجاب.
وعن علاقة التعليم بالحجاب، اندلع نقاش محموم بعد اعتراض مدرسة سانت كليرز الكاثوليكية في مدينة برمنغهام البريطانية على قبول طفلة لا يتجاوز عمرها الرابعة لأنها ترتدي الحجاب، وذلك التزاماً بقواعد المدرسة، إذ احتج أهل الطفلة على الأمر، وساندهم عضو في مجلس المدينة متهماً المدرسة بانتهاك قواعد المساواة.
لكن الانتصار في هذا النقاش كان لصالح المدرسة التي دافع عنها بعضهم بالقول إنها لم تنتهك أيّة قواعد، فالإسلام "لا يفرض على الأنثى الحجاب في هذا السن".
أعراض جانبية "للاستثناء" البريطاني
الإحاطة بقصة الحجاب في بريطانيا قد لا تكون وافية دون التطرق إلى بعض القضايا التي ناقشها الرأي العام وخلقت جدلاً واسعاً، بدءاً من اتهامات التطرف والإسلاموفوبيا والتمييز وصولاً إلى الإقصاء.
فقد قدّمت العمدة راقية إسماعيل استقالتها من منصبها الذي تولته لمدة ثماني سنوات بسبب العنصرية، واتهمت القيادة المحلية في مجلسها في شمال لندن بالتمييز والإسلاموفوبيا.
وللحجاب أيضاً قصصٌ في المطارات كان أشهرها في الآونة الأخيرة قضية إجبار شرطة متروبوليتان اللندنية، أثناء تفتيش عشوائي، في مطار هيثرو في 2018، شابة عُرفت باسم "آسيا" على خلع الحجاب حتى تتمكن من تصويرها.
وقالت "آسيا" التي كانت مسافرة مع عائلتها لزيارة أختها في البحرين، إن أوامر الضباط لها بخلع الحجاب "كانت بمثابة إخبارها بخلع ملابسها كاملة"، ولا سيما بعدما أخبرها أحد الضباط أنه لا يستطيع التعرف عليها وهي مرتدية الحجاب.
وانتهت القضية بانتصار آسيا التي ربحت القضية بعد أن قدّمت مراجعةً قضائية ضد شرطة العاصمة التي وافقت على دفع 18,500 دولار كتعويض لها، واعترفت أن ما أقدمت عليه كان انتهاكاً لحقوق الإنسان الخاصة بها وانتهاك لحق المرأة في ممارسة الشعائر الدينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون