خلخلت عشر سنوات من الحرب في سوريا مفهوم الأسرة التقليدي، وأعادت تشكيل العلاقات الاجتماعية بطريقة مختلفة، كما أفرزت أنماطاً جديدة في التواصل والتكافل والروابط الأسرية، لاسيما في ظل الموت الذي انتشر على كامل الخارطة السورية، إضافة للنزوح والهجرة وتغيرات المسكن نتيجة عدم الإحساس بالأمان، فقدان المعيل، تشتت الأخوة والأبناء في بقاع الأرض المختلفة، إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة لمن هم داخل البلاد.
كل ذلك أدى لتآكل النسيج الاجتماعي إن لم نقل تهشُّمه، إذ لم يعد هناك استقرار يمكن أن يعوَّل عليه في بناء مجتمع متماسك، خاصة أن الأسرة لم تعد بصيغتها الاعتيادية، بل تأقلمت مع الظروف الطارئة، وابتنت لنفسها أشكالاً جديدة، وهذا ما جعلها غير قادرة على ممارسة دورها السابق في توفير الحد الأدنى من الأمان والضمان الاجتماعي، ولا تحقيق ظروف الاستقرار النفسي لأفرادها.
اقتصاديات العنف
يقول الباحث السوري في الشؤون النفسية والفلسفية، معاذ قنبر، لرصيف22: "وصلت الحرب في سوريا على امتداد سنواتها العشرة، إلى قلب كل أسرة صغيرة وكبيرة، وأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على كل عائلة سورية".
خلخلت عشر سنوات من الحرب في سوريا مفهوم الأسرة التقليدي، وأعادت تشكيل العلاقات الاجتماعية بطريقة مختلفة
ورغم أن هناك أواصر متينة تربط العائلة السورية منذ القدم، ممثلة بتقاليد بالغة الرسوخ، حكمت العلاقات البينية داخل التنظيم الاجتماعي، والعمودية بين الأجيال المتتابعة، وشكلت عبر تاريخها بنى غير معلنة يمتثل لها الأفراد بشكل جمعي، يرى الباحث بأن "ديناميات الحرب المدمرة على كافة الأصعدة، الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، أدت إلى تفتيت هذه الهياكل الاجتماعية، وضعف مؤسساتها الجامعة الرمزية التي تدعمها وتغذيها، فحصلت فجوة ساهمت في ترسيخ تحول مؤسساتي مدمّر، أنتج هياكل جديدة أفرزها الواقع الاجتماعي الاقتصادي المتردي، عمل على خدمة اقتصاديات العنف والتحريض".
ويصف قنبر العنف الاجتماعي على أنه شكل من أشكال انتزاع الهوية، ويوضح: "هذا العنف يحدث شرخاً عميقاً بين المكونات الاجتماعية التي كانت فيما سبق تشكل جسماً واحداً يعزز الشعور بالأمن، وتفككاً ببنية المجتمع الاقتصادية، فتقع البنى الأساسية التي تضمن التكافل، كالاستقرار النفسي والاقتصادي والخدماتي، والتي تشكل قاعدة هرم التماسك الأسري أولاً، ثم الاجتماعي بين الأسر، ضحية التدمير الممنهج، الأمر الذي سيؤدي بشكل حتمي إلى ضعف الهوية وضبابية الانتماء، بعد فقدان الاستقرار والدعم الذي تولده الأسرة والمحيط الاجتماعي القريب".
اقتلاع حاد
العنف المسلح أدى إلى قتل مئات آلاف السوريين من كل مكونات المجتمع، وكنتيجة حتمية للصراع، بدأت موجات التهجير والنزوح، وهو ما يوصِّفه قنبر بأنه "لا يعني فقط اقتلاع الأسرة من محيطها المعنوي الرمزي، بل اقتلاعاً جغرافياً زاد من حدة الشعور بالاغتراب والتشتت".
هذا التهجير ساهم، بحسب الباحث، في التباعد الجغرافي، ليس بين أفراد المدينة الواحدة أو القرية الواحدة فقط، بل ضمن الأسرة، ما أدى إلى تفكك في العلاقات والروابط المجتمعية، وترافق ذلك مع ترسيخ مشاعر النقص والدونية وامتهان الكرامة وضياع الهوية في محيط مختلف، والوقوع تحت هاجس دائم من الفاقة والخطر الذي يتهدد الحياة، الأمر الذي يقود إلى انهيار الثقة داخل أبناء المجتمع الواحد، حيث أثرت سنوات الحرب على علاقات التعاون بشكل جوهري مع تراجع وغياب الضوابط والقيم.
يتابع قنبر: "مع تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي زادت الهوة بين المجتمع والقوى الرمزية التي تتحكم في تماسكه، ما أدى للعودة إلى الروابط الإثنية والقبلية والدينية التي تضعف العلاقات الواصلة بين الأفراد والجماعات. ومن الطبيعي وفق هذه المعطيات أن تتهمش العلاقات بين الأفراد، ليصل الأمر إلى العائلة الواحدة، وأن تضعف قيم الثقة المتبادلة بين الأسر ذات الميول السياسية أو الانتماءات الدينية المختلفة، لاسيما مع سيطرة المظاهر المسلحة التي اخترقت المجتمع وفرضت نظماً مبنية على الخوف وكراهية الآخر وتسييس الهوية، خاصة في المناطق التي شهدت نزاعات دموية كارثية".
إعادة إعمار الأسرة: دور الإعلام
لا تحمّل بشرى عباس، الحاصلة على دكتوراه في الفلسفة من جامعة بواتييه الفرنسية، الأسرة كل الأعباء الناجمة عن التفكك المجتمعي في سوريا اليوم، إذ تؤكد في حديثها لرصيف22 على أن الواجبات تتقاطع، والجهود لا بد من أن تتضافر بين البيت والمدرسة، ثم المعاهد والجامعات، وأيضاً هناك دور هام لوسائل الإعلام.
ساهم التهجير في التباعد الجغرافي، ليس بين أفراد المدينة أو القرية الواحدة فقط، بل ضمن الأسرة، ما أدى لتفكك العلاقات والروابط المجتمعية، وترافق ذلك مع ترسيخ مشاعر النقص والدونية وامتهان الكرامة وضياع الهوية في محيط مختلف، والوقوع تحت هاجس دائم من الفاقة والخطر
تقول عباس: "ينبغي على الإعلام أن يساعد الأهل، وأن يكون تنموياً يتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي المطلوب، وأن يميل إلى التثقيف والتوجيه، ويدربنا على قليل من المهارات التي تنفعنا في الحياة العملية، فليس كل شيء أغانٍ ودراما هابطة ومجرد تسالٍ. على الإعلام مساعدة الأسر المتعبة، من خلال بث برامج قيمية، وعدم الاكتفاء بالمسخرة والتهكُّم من الأوضاع المعيشية، لدرجة نشعر معها أن من يظهر في استبيانات إعلامنا ليسوا سوى معتوهين".
هروب افتراضي
وتنبِّه عباس إلى أن الحرب فرضت الهروب إلى الواقع الافتراضي، وهنا تشير إلى أن التكنولوجيا ذات وجهين، وكل شيء ممكن أن يكون موجهاً، وله تبعيته السياسية والاقتصادية، لذا ينبغي ألا ننجذب لوسائل التواصل الحديثة بطريقة مفرطة، فالعالم الافتراضي شيء، والحياة المعاشة شيء مختلف، وخاصة على صعيد الأطفال والمراهقين الذين يفضلون واقعهم المفترض على حياتهم، "وهو ما يفترض توفير سبل الحماية لأبنائنا، كي نستفيد من طاقاتهم، ونختار لهم أشياء تناسبهم، ليتحقق نموهم بشكل سليم أخلاقياً وثقافياً وقيمياً، رغم صعوبة الظروف الطارئة التي نعيشها"، وفق رأيها.
ينبغي على الإعلام أن يساعد الأهل، وأن يكون تنموياً يتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي المطلوب.
وتطرح المتحدثة سؤالاً عن الطريقة التي ينبغي من خلال زرع الوعي بالشباب السوري اليوم حول ضرورة مشاركتهم ببناء البلد، وألا يقتصر حلمهم فقط على السفر. وتضيف: "كيف أزرع فيهم حب الوطن، وحب الآخر المختلف عنهم في الطائفة والمذهب والانتماء السياسي؟ لاسيما أن شبابنا يعاني من تهميشه وإقصائه وإبعاده عن المشاركة في دوره المجتمعي. كل ذلك يفرض على كل أب وأم، رغم الهموم الاقتصادية المعيشية، أن يطوروا مع أبنائهم مهارات الحوار، وينبغي أن يصغوا لهم أكثر، وأن يعرفوا رأيهم، ويشاركوهم الآراء".
نقطة أخرى تشير إليها عباس بالقول: "شبابنا اليوم يعانون من العجز والكآبة، فيهربون أو يتكلون على أهلهم. هم بحالة إفلاس، فكيف ينبغي أن نزرع فيهم المسؤولية، ونحن نعلم أن الأب والأم على طوابير الفرن، والكازية، أو في السوق لحسم قرار طبخة اليوم بناء على الميزانية؟ وكيف يستطيع هذا الجيل أن يفكر ويعمر ويخطط وهو مشتت وضائع ومتخبط بعد هزة الحرب الطويلة؟".
وتنبه عباس من ضرورة عدم الإفراط بممارسة الرقابة العائلية على الأولاد: "كلما كان الأهل بحالة تسامح وضمن مناخ حميمي وشاركوهم باتخاذ قرارات، اختصروا الصعوبات التي سيواجهونها مع أبنائهم. شبابنا بحاجة للاحتضان والتفهم، وينبغي أن نسمع كافة مشاكلهم، وألا نتجاهلها أو نقلل من شأنها، فهم مفرطو الحساسية، لكن في الوقت ذاتهم علينا إقناعهم بأنهم مؤثرون وقادرون على أن يكونوا إيجابيين، ويخلقوا أحلاماً، ويعمروا البلد، وهي اليوم بحاجة الجميع مهما كانت مهنهم أو مستوى تحصيلهم العلمي".
شبابنا اليوم يعانون من العجز والكآبة، فيهربون أو يتكلون على أهلهم. هم بحالة إفلاس، فكيف ينبغي أن نزرع فيهم المسؤولية، ونحن نعلم أن الأب والأم على طوابير الفرن، والكازية، أو في السوق لحسم قرار طبخة اليوم بناء على الميزانية؟
تجاوز الشرخ المجتمعي
أما كيف يمكن تجاوز هذا الشرخ العميق لمفاعيل الحرب على البنية الاجتماعية السورية وتماسكها؟ يقترح معاذ قنبر بأن علينا أن ننطلق من مسلمات نظرية تتأسس على قاعدة أن استقرار الأمم والشعوب يعتمد بشكل كلي على عنصر المدنية والاحترام المؤسساتي، وذلك لا يمكن أن يكون باستعداد أمة بأكملها للموت، بل في قدرتها وإصرارها على الحياة والبناء.
يتطلب ذلك وفق رأيه إعادة تفعيل دور الأسرة والتربية، وإعادة بنائها بتركيز لا يقل أهمية عن عملية إعادة الإعمار للمرافق العامة والخاصة، بشكل يعيد ألق المدن المدمرة دون إلغاء الذكريات الإيجابية التي ارتبطت بها قبل الحرب، وبالتوازي مع إعادة الأمان الاقتصادي بحدِّه الأدنى في المرحلة الأولى، لضمان وجود عامل محفز لإعادة الثقة وتأكيد الذات وتعزيز الهوية.
"هنا علينا أن نعيد تأصيل فكرة الانتماء بكل ما يحمله ذلك من معانٍ وطنية واجتماعية واضحة وصريحة، دون أن تكون ضبابية، تخفي وراءها عوامل تفككها الطائفي والعائلي والقبلي"، يختتم حديثه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع