شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
النزوح الذي أخرج الإيزيديات من العزلة... كسرُ قيود كبّلت مجتمعهنّ الصغير لقرون

النزوح الذي أخرج الإيزيديات من العزلة... كسرُ قيود كبّلت مجتمعهنّ الصغير لقرون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 22 سبتمبر 202010:22 ص

مع كل صباح تمدُّ فيه تركيا شمو (22 عاماً) خطواتها خارج المخيّم متجهة نحو الجامعة، تتجدد في ذهنها قائمة أحلامها الطويلة، ويدفعها إصرارها على تحقيقها إلى مواجهة مصاعب لا تنتهي في حياتها والتغاضي ولو مؤقتاً عن واقع التشظي بين النزوح ومحاولة التكيّف معه وأمل العودة إلى مدينتها سنجار.

شمو التي تدرس في الكلية التقنية/ قسم الصحافة، في جامعة دهوك، وتقدّم برنامج "يوم كردستان" على قناة "وار" الكردية، تقول إنها تكافح مثل الكثيرات غيرها من بنات جلدتها لـ"كسر القيود الاجتماعية التي كبّلت المجتمع الإيزيدي لقرون وعرقلت تطوره وإيصال صوته للعالم".

في الثالث من آب/ أغسطس 2014، هجم عناصر تنظيم داعش على قضاء سنجار (125 كم غرب الموصل) وباقي بلدات الإيزيديين وقراهم في المنطقة. قتلوا أكثر من ألفي شخص وخطفوا ستة آلاف وخمسمئة آخرين، معظمهم نساء وأطفال، وخلّفوا جرحاً عميقاً في الذاكرة الجمعية الإيزيدية لا يندمل.

قبل حدوث كل هذا، كان المجتمع الإيزيدي منغلقاً على نفسه وتحكم حركة النساء فيه قواعد متوارثة، صارمة إلى أبعد حد، إلى درجة أن كرسي الدراسة الجامعية وأحياناً حتى الإعدادية كان حلماً صعب المنال لغالبيتهِن.

الآن، وبعد ست سنوات قضتها تركيا شمو مع عائلتها في مخيم أيسيان، في محافظة دهوك، تلاحظ أن انفتاحاً كبيراً طرأ على مجتمعها، إذ تتنافس الفتيات على إكمال دراستهن الإعدادية والجامعية، وتثقيف أنفسهن وامتلاك خبرات تمكّنهن من الحصول على فرص عملٍ خارج حدود المنزل أو خيمة النزوح.

مخيم أيسيان في قضاء الشيخان، 47 كم شمال الموصل.

ومع هذا، تقول شمو التي تقضي أكثر من 10 ساعات يومياً من وقتها بين الدراسة والعمل: "فصول المأساة لم تنتهِ ويتوجب علينا كإيزيديين بدء مراحل جديدة تفتح أمامنا آفاق حياة مختلفة عن التي كنا نحياها سابقاً. إنه السبيل الوحيد لإنهاء معاناتنا وبناء ما تهدّم".

تشير إلى كُتبها المنهجية للمرحلة الثالثة في قسم الصحافة، وتعلّق: "لا يمكن الانتصار في معركتنا من دون عِلم، القلم سلاحنا وليس البندقية. نحن شعبٌ نُحب الحياة والسلام وعلينا أن نوصل صوتنا للعالم بأسره ويستلزم هذا استثمار ما حصلنا عليه من علوم ومعارف وخبرات".

مثل شمو، تُواصل المئات من الإيزيديات المقيمات في دهوك دراستهن في الجامعات والمعاهد وفي العمل بقطاعات مختلفة. وبذات حماستها، تربط فريال جتو (19 عاماً) ثمرة الانفتاح الإيزيدي والإقبال على التعلّم والعمل بتضحيات باهظة قدّمها أقرباء لها وأصدقاء وجيران.

وتعتقد جتو التي تستعد للدخول إلى الجامعة أن المجتمع الإيزيدي لن يُعاد ترميمه إلا بمشاركة فاعلة من المرأة. لذا فلا بد أن تكون متعلمة ومثقفة، لكي تمارس دورها كما يجب.

تشاطرها الرأي دلفين خلف (28 عاماً)، وهي ناشطة مدنية، مبيّنة أن المرأة "باتت أكثر تحرراً من السابق وتعمل جاهدةً لإيصال القضية الإيزيدية إلى أبعد مدى بعد نزوحها إلى إقليم كردستان".

وتعزو دلفين التي تعمل في سكرتاريا اتحاد نساء كردستان ما كانت تعانيه النساء من إهمال في سنوات ما قبل النزوح إلى ظروف اقتصادية واجتماعية، وتقول: "المرأة الإيزيدية كانت منشغلة بعائلتها وتدبّر أمورها اليومية. اليوم هي منشغلة بالحصول على شهادة أو عمل يؤمّن لها ولعائلتها المعيشة. ويوماً بعد آخر، أصبحت جزءاً من مصدر القرار سواء على النطاق الاجتماعي أو السياسي".

طلاب إيزيديون من سنجار تخرّجوا من جامعة دهوك، في مخيّم أيسيان للنازحين.

التكيّف مع واقع النزوح

ما أن انقشع غُبار الحرب حتى تكشفت للنازحين الإيزيديين في إقليم كردستان جوانب إيجابية في حياتهم الجديدة، وأهمها الانفتاح على المجتمع المستضيف. هذا أمر يحدث للمرة الأولى، بحسب مهتمين بشأن هذا الأقلية التي نزح من مناطقها في سنجار وبعشيقة وبحزاني نحو 350 ألف شخص، تقاسمتهم مخيمات النزوح في العراق والمهاجر في أوروبا.

يصف الكاتب والباحث عبد السلام مراد هذا الانفتاح بالتاريخي، لأن المجتمع الإيزيدي ولا سيما بعد 2003، عاش عزلة شبه تامة، بسبب استهدافه من قبل الجماعات التكفيرية المسلحة التي كانت تعدّهُ مجتمعاً كافراً.

قبل ذلك، كانت تسيّره عادات وتقاليد درج على اتّباعها جيل بعد جيل وحُرمت بسببها غالبية أبنائه من التعليم والاندماج بالمحيط المختلف عقائدياً. ويرجّح عبد السلام أن يكون مردّ ذلك حملات الإبادة التي تعرّض لها الإيزيديون خلال القرنين المنصرمين والتي زادت عن ثلاثين ودفعت غالبيتهم للعيش في جبل سنجار ومحيطه وفي باعدرى، وهي منطقة جبلية أيضاً، وامتهان الزراعة والرعي.

فتحت حياة النزوح هرباً من تنظيم داعش، رغم قسوتها، مجالاً للمرأة الإيزيدية لإكمال تعليمها والانخراط في سوق العمل أسوة بالرجال، لتخرق بذلك عزلة فُرضت عليها لقرون

ويتابع: "على الرغم من هذا، ظهرت شخصيات إيزيدية بارزة في العقود الماضية، قادة أمنيون، أساتذة جامعيون، أطباء وفنانون، لكنهم كانوا في غالبهم العام ذكوراً وهم على أية حال قلة قليلة لا تتوافق مع حجم المجتمع الإيزيدي وعدد أفراده".

قلة من النسوة حصلن، وبتشجيع نادر من ذويهن، على شهادة جامعية وعملن في قطاعات محدودة.

غزال كارص دربو واحدة منهنّ. هي في عقدها السادس من العمر الآن، معلّمة وتعيش في منطقة ديربون التابعة لقضاء زاخو. تقول إنه ورغم صعوبة الحياة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، خلال الحرب مع إيران وبعدها فترة الحصار الاقتصادي، "شجّعني والدي كثيراً على إكمال دراستي الجامعية بعد حصولي على الإعدادية في ناحية سنوني شمال سنجار".

توضح أنه "في تحدٍّ نادر أكلمت دراستي في الموصل فيما تركت زميلاتي الدراسة بسبب العادات والتقاليد المتبعة والتي كان تأثيرها كبيراً على المرأة في مجتمعنا المحافظ ولا سيما في ظل الوضع الاقتصادي والفقر السائد آنذاك".

تلتقط غزال مواقف من ذاكرتها، فقد تم قبولها في المعهد الإداري في الموصل سنة 1992 وتخرجت بعد سنتين. كنَّ أربع طالبات إيزيديات فقط من سنجار التي تضم أكثر من 200 ألف نسمة. برهنَّ لأسرهن قدرتهن على تحمل المسؤولية، ثم التحقت مجموعة أخرى من فتيات منطقتها بجامعة الموصل لكن أيضاً نسبتهن كانت قليلة جداً مقارنة بالقادمين من مناطق أخرى من نينوى.

سنجار بلا مؤسسة جامعية

تُرجع لازمة يوسف (38 عاماً) التي تخرجت من كلية الآداب في جامعة الموصل سنة 2006 سبب عدم إكمال الطالبات الإيزيديات من سنجار دراستهن في السابق إلى "عدم وجود الوعي الثقافي الكافي، والفقر الذي يعيشه معظم الإيزيديين، فضلاً عن العزلة التي أحاطوا أنفسهم بها".

تقول إن كثيرات من الفتيات "كنَّ يُجبرن بعد وصولهن للمرحلة المتوسطة والإعدادية على ترك المدرسة للزواج أو العمل في المزرعة".

وتضيف أن الشهادة في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة "لم تكن ذات قيمة نتيجة عدم توفر فرص عمل للخريجين والخريجات، كما أن رواتب الموظفين لم تكن تكفي لشيء".

وتعتقد لازمة أن موقع سنجار الجغرافي وخلوّها من أي جامعة وبُعدِها عن المدن الكبيرة التي فيها جامعات ومعاهد "قتل طموح الكثيرات في إكمال التعليم، فليس سهلاً في بيئة محافظة كالمجتمع الإيزيدي السماح لفتاة بالوجود بمفردها في مكان بعيد عن نطاق العائلة".

وتتابع: "عندما تخرجت من الإعدادية في عام 2001، واجهتني مشاكل كثيرة، فقد كنت الوحيدة التي أكملَت دراستها الإعدادية في مجمع خانصور، واضطررت لتأجيل الدراسة سنة واحدة حتى تلتحق زميلات أخريات بي ونسكن معاً في القسم الداخلي في جامعة الموصل".

جانب إيجابي للنزوح

ناشطون مدنيون ومثقفون إيزيديون يرون أن للنزوح إلى مدن إقليم كردستان العراق جوانبَ إيجابية في ظل التعامل اليومي للفرد الإيزيدي مع السكان والاحتكاك المتواصل بهم، فضلاً عن اختلاط العائلة الإيزيدية بنظيراتها الكردية المسلمة واندماجها التدريجي بالثقافة الكردستانية.

"لا يمكن الانتصار في معركتنا من دون عِلم، القلم سلاحنا وليس البندقية. نحن شعبٌ نُحب الحياة والسلام وعلينا أن نوصل صوتنا للعالم بأسره ويستلزم هذا استثمار ما حصلنا عليه من علوم ومعارف وخبرات"

كما أن سوق العمل الذي انخرط فيه الكثير من النازحين فرض واقع حال جديد. ففي مجالات البناء والبيع بالتجزئة والزراعة وغيرها التي ظهروا فيها، تعززت علاقاتهم بالبيئة الجديدة واعتادوا على ثقافتها وتفاعلوا بالإيجاب معها، كما أن الفتاة الإيزيدية حصلت على حرية أكبر مقارنةً ببيئتها المنغلقة في قرى ومجمعات سنجار.

يقول الناشط الحقوقي فواز ملكو إن "هذا التطور جاء إثر التواصل والاحتكاك البيني مع مواطني إقليم كردستان المكوّن من مجتمع متعدد الثقافات والقوميات والديانات، فالنازح رجلاً كان أم امرأة يجد نفسه ملزماً بمقابلة أشخاص من هويات متنوعة وخلفيات ثقافية مختلفة في كل مكان يذهب إليه: العمل، الشارع، الجامعة، والأماكن العامة والمناسبات الوطنية والاجتماعية، وعليه أن يكون منفتحاً ويحترم هذه الاختلافات ويتقبلها، فالإنسان بطبيعته يؤثر في الآخرين من خلال تجسد نفسه وروحه مع الآخر فكراً وأخلاقاً وثقافة".

ويؤكد زياد خلف (30 عاماً) أن الشباب الإيزيديين هم أول مَن مهّدوا للاندماج في إقليم كردستان حتى قبل 2014، بالتحاق الكثيرين منهم بأجهزة الجيش والشرطة والبيشمركة في العقد الماضي. وشجع ذلك آخرين لاحقاً على إكمال دراستهم خاصة في ظل وجود مؤسسات تعليمية جامعية متعددة في دهوك وأربيل، شكّلت فرصة كبيرة أمامهم نتيجة افتقار سنجار إلى وجود جامعات ومعاهد.

ولعبت المراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني دوراً مهماً في منح الشباب والشابات الإيزيديات فرصاً للتعليم والتثقيف والتدريب وحتى العمل فيها.

ليلى سيدو (34 عاماً) التي تدير منظمة نساء سنجار للتنمية، توضح أن المجتمع الإيزيدي بعد النزوح "أصبح أكثر انفتاحاً ويدعم الفتيات لإكمال دراستهن ويشجعهن على الدخول في سوق العمل، بل ويسمح لهن بالعمل مع المنظمات الدولية والمحلية في المخيمات وخارجها، وهذا يُعتبر إنجازاً يُحسب للمرأة في هذه الظروف الصعبة".

سيدو متزوجة وأمٌ لطفلين وتشعر بالعرفان لزوجها الذي تقول إنه دعمها لإكمال دراستها الجامعية وشجّعها على العمل، لأنه يعي أن المرأة الإيزيدية كانت الضحية الأولى في ما وصفته بـ"الإبادة الأخيرة" وأن صوتها لم يكن مسموعاً في المجتمع الإيزيدي سابقاً. وتقول: "هدفنا اليوم هو مساعدتها والدفاع عنها وكشف ما تعرضت له أمام الجهات المختصة المحلية والدولية من أجل إنصافها".

وأشارت بسعادة بالغة إلى أن المئات من الفتيات الإيزيديات بدأن بعد النزوح بالدراسة في جامعات إقليم كردستان وباقي مدن العراق، في حين أن ذلك كان صعباً للغاية في السابق أو لم يكن مهماً بالنسبة لكثيرات. وكان معتاداً أن تقوم العائلات بإنهاء دراسة الفتيات في المرحلة المتوسطة أو الإعدادية في أقصى حد.

ولتأكيد هذا الانفتاح، خاصة ما يتعلق بإصرار الفتيات على إكمال دراستهن، يقول الدكتور مؤيد بركات، معاون عميد كلية التربية الأساسية في جامعة دهوك، إن "عدد الفتيات الإيزيديات من سنجار المسجلات في كلية التربية وحدها خلال العام الدراسي 2019-2020 يقارب الـ250 طالبة".

تصحيح الصورة النمطية عن الإيزيديين

الناشط المدني جمال سليمان (32 عاماً) يعتبر "انفتاح الأقلية الدينية الإيزيدية على مختلف شرائح المجتمع فرصة مثالية لتصحيح ما علق في الأذهان من صورة نمطيّة سلبيّة اعتمدت على مجموعة أحكام مسبقة ومحاولات بائسة ضمن إطار مزاعم باطلة عن الإيزيديين".

إيزيديون يرتدون زيّهم الشعبي، خلال احتفال ديني.

ويعزو الباحث في الشأن الإيزيدي سالم خديدة السنجاري وسائل تحقق ذلك إلى المبادرات الحكومية، وإنْ كانت قليلة، فضلاً عن الإعلام والمجتمع المدني، ويعدّ كلاهما مفتاحاً لتسهيل الاندماج المجتمعي والتعريف بالآخر وتشجيع التسامح والتعددية وردم الهوة الفكرية والثقافية بين مكونات المجتمع الكردي بنحو خاص والعراقي بنحو عام.

ويشير إلى أن عمل الفرد الإيزيدي أسهم في "تغيير تلك الصور النمطية وتجاوز التمييز في سوق العمل والنجاح فيه".

ويعبّر السنجاري عن ارتياحه لكون الكثير من المعلومات المغلوطة عن الإيزيديين قد تم تصحيحها بواسطة التفاعل والتعايش اليوميين، ومنها المقولة التي كانت سائدة بأن الفرد الإيزيدي لا يمكنه العيش في مجتمعات غير إيزيدية، أو أن باقي المجتمعات لن تتقبله.

ويواصل: "نجد اليوم المئات من الموظفين الإيزيديين والكسبة رجالاً ونساء يعيشون مع عائلاتهم في مختلف المدن غير الإيزيدية، وكان هذا للتعاطف الشديد الذي لمسناه بعد الإبادة التي تعرّض لها أهلنا، ولكيفية احتواء المجتمع الكردي في محافظة دهوك وباقي مدن كردستان العراق لنا، ودعمهم الذي لم يتوقف يوماً".

ولا ينكر السنجاري وجود تمييز في التعامل مع الإيزيديين من قبل بعض مَن وصفهم بـ"المتطرفين"، لكنهُ يعود ليقول إن هؤلاء قلة غير مؤثرة وإن محاولات الإيزيديين للتغلب على ذلك مستمرة لتحقيق سبل الاندماج الكامل مع مختلف أطياف المجتمع.

*أُنجز هذا التقرير بدعم وتحت إشراف شبكة "نيريج" للصحافة الاستقصائية


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image