شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عندما ينقذنا الأرشيف من غوايات الذاكرة وخداعها المثالي

عندما ينقذنا الأرشيف من غوايات الذاكرة وخداعها المثالي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 17 مارس 202110:53 ص

يعرض جاك دريدا تمييزاً بين الأرشيف والذاكرة، حيث يحمي الأرشيف الذاكرة من شطحاتها وثغراتها، فالأرشيف سلطة ضابطة، كما جاء في كتابه "حمّى الأرشيف الفرويدي".

لكن، لماذا هذه المقولة، ونحن نقارب رواية "قاف قاتل سين سعيد"، الصادرة عن مجموعة كلمات لعام 2020، والتي حطّت رحالها مؤخّراً في القائمة الطويلة للبوكر لعام 2021.

إن الاستناد على تمييز دريدا، يأتي من اعتماد السّارد، ماجد، على تدوينات عمّه، ضابط الشرطة عادل، التي خلّفها وراءه بعد موته، والتسجيلات الفيديوصوتية التي احتواها نقّال فهد نشوان، الذي أصبح متهماً بجريمة قتل بعد موته بشكل طبيعي. ومن خلال تقاطع هذين الأرشيفين، الكتابي والفيديوصوتي، تتبدّى خيوط جريمة ومن ثم تُنسج، فيَضبط الأرشيف ذكريات الذين عاصروا تلك الجريمة، التي ظلّت مختبئة في طيّات أوراق الضابط عادل والمتّهم فهد.

يقدّم لنا الأرشيف الذي يكشف محتواه المحقّق ماجد، رؤية ليست مختلفة عن الذكريات، بل هي إعادة تموضع لها وإبانة ما خفي منها، بحيث نتعرّف على "قاتل ليس بقاتل"، وعلى متّهم بريء انتهى كضحية. وكلّ ذلك في فضاء زمني يعود إلى الحرب التي رتبها احتلال الجيش العراقي للكويت، في بداية تسعينيات القرن الماضي. فهل يستطيع الأرشيف أن ينقذنا من غوايات الذاكرة وجنوحها العاطفي وتطرّفها المثالي؟

الشبه والمشبّه به

شبّ المحقّق ماجد آملاً أن يكون مثل عمّه عادل، بعد أن تشبّع في طفولته بهذه الشخصية، التي علمتّه كيف يقارب الحياة عبر الكلمة والكتابة. يندفع ماجد إلى أرشفة أوراق عمّه بعد موته بمرض عضال، وفاءً لذكراه ولذكرياته معه، وتأتي المفاجأة السّارة من خلال جدّته التي تزوّده بصندوق من الكرّاسات والأوراق التي كان عمّه قد خطّها. لقد احتفظت الجدّة بتلك الأوراق إلى أن يصبح ماجد كبيراً ليدرك قيمتها، إلا أن هذا الصندوق قد أطلق الشرور كلّها!

رواية "قاف قاتل، سين سعيد" للكويتي عبد الله البصيص حطّت رحالها مؤخّراً في القائمة الطويلة للبوكر لعام 2021 وهي رواية تطرح علينا سؤالاً  أخلاقيًا مرًّا ينوس بين الواجب والعاطفة، وبين سلطة الأرشيف وتسيّب الذاكرة

تفتح لنا رواية البصيص صندوق باندورا  بصوت ماجد، الذي يحكي ذكرياته مع عمّه وأوراقه التي يعدّها لتكون كتباً، تحتوي ما جمعه هذا العقل المتوقّد من معرفة وحسّ عالٍ بالعدالة والغفران. ومن غرائب العدالة التي التزمها هذا العمّ، أنه كان يطلق سراح من يقبض عليهم، وذلك لأن الخطأ من وجهة نظره هو وسيلة للتعلّم والمعرفة.

إن رغبة التشبّه بالعم قادت المحقّق ماجد إلى افتراض أن موت فهد نشوان ليس موتاً طبيعياً، لكن الوقائع الطبية قد قالت كلمتها، وسُمح بدفنه في مساء يوم الوفاة. شعر المحقّق ماجد بخيبة مرّة، لكن كلمة من مساعده عباس أعادت فتح الأفق، فقد أخبره بأن المتوفى في مراهقته قد حامت حوله شبهة قتل سعيد جونكر، الطفل الذي يعاني من بلادة وطيبة قلب منقطعة النظير.

يطلب المحقّق ماجد من قيادته أن يُعاد فتح القضية القديمة، التي أغلقت لعدم كفاية الأدلة. يُسمح له بأن يرجع القضية إلى الحياة، لكن بشكل غير رسمي، إلى أن يتحصّل على معطيات حاسمة تبرّر إعادة كتابة نهاية لهذه القضية التي طواها الزمن.

يعيش المحقّق ماجد في غرفة عمّه بعد موته، مستنسخاً وجوده السابق. ومع إعادة فتح قضية سعيد جونكر، يعود من ذهب إلى أرض النسيان إلى الذاكرة. أن ملاحظات العم ومقولاته وإرشاداته تغدو الخلفية الفكرية التي يعتمد عليها ماجد في سعيه لكشف خيوط الجريمة. لقد اكتمل التشابه بينه وبين عمّه، والفضل يعود إلى أداة التشبيه: جريمة اختفاء سعيد جونكر.

فهد نشوان: اعتراف مصوّر

كادت القضية أن تغلق لولا اتصال من أخ فهد يخبر المحقّق ماجد بالمحتوى الغريب لمجموعة من التسجيلات التي وجدها على جوّال أخيه المتوفى. يعيدنا فهد عبر هذه التسجيلات إلى ما قبل لحظة احتلال العراق للكويت. وكيف كانت هذه الحرب نقطة تحوّل مصيرية في طفولته.

عندما عاد وأهله إلى حيّهم "الفردوس" بعد نزوحهم إلى السعودية نتيجة للاحتلال العراقي، وجد أن رفاق الطفولة قد غيّرتهم الحرب، وكأنهم كبروا فجأة، واختلفت الاهتمامات وتباعدت، فطفق يحاول اللحاق بأصدقاء الطفولة.

كانت طفولة فهد قد مُلئت بمشهديات من مسلسلات الكرتون التي كانت تبثّ في ذلك الزمن، من قبيل جونكر وغرندايزر وأبطال الملاعب. بالإضافة إلى ما تحويه هذه المسلسلات من أحلام مثالية لصراع الشرّ والخير، فيما ملئت ذاكرة أصدقائه بتداعيات الحرب، التي أعادت تشكيلهم في عالم الكبار، بعيداً عن أحلام ومثاليات عالم الطفولة.

تمتلئ تسجيلات فهد باعترافات تحاول أرشفة حيّ "الفردوس" وطفولته، فقد كان يصوّر الأماكن التي يتكلّم عنها، ويوضّح ما غيّره الزمن في تلك الأمكنة، متبعاً خطوات طفولته، وكيف بدّل اختفاء سعيد جونكر طفولته ومن ثم حياته. والأهم كيف فقد حبيبته زهراء نتيجة لمحاولته أن يصبح شبيهاً بأصدقائه، الذين ألبستهم الحرب أثواباً أخرى، أقل براءة وأكثر عنفاً.

يتابع المحقّق ماجد هذه الاعترافات، تسجيلاً وراء تسجيل، فيتعرّف على شخصية سعيد جونكر، الفتى البليد، طيب القلب، ودوره في حياة فهد. وما حدث ليلة اختفائه العجيبة، حيث صعد سعيد جونكر بأضواء هبطت عليه من السماء.

تؤرشف تسجيلات فهد لمنطقة الفردوس في السنوات الأولى بعد تحرير الكويت، معيدة بناء المكان والزمان. وكأن فهد في مرحلة المرآة لدى الطفل التي تكلّم عنها عالم النفس جان لاكان. وهو بذلك يعيد جمع شتات وجوده كي يخرج بصورة واضحة لمَا انتهت إليها حياته، وذلك عبر أرشفتها.

الفطرة، سعيد جونكر

قدّمت لنا الرواية الطفل سعيد ذا الجسد الضخم، المصاب ربما بالتوحّد، فلم تفصح الرواية عن ذلك. وقد يعود ذلك إلى الجهل بطبيعة المرض في تلك الأزمنة، وكأن القصد بهذا التقديم أن الفطرة البشرية المبنية على الخير قد نبذت، فتوحّدت مع ذاتها، فلا يصدر منها إلا استهجان بحقّ التصرفات السيئة، كما كان يصرخ سعيد جونكر عندما يرى أمراً سيئاً: "عيب، عيب، عيب عليكم".

أخذ سعيد لقبه من الشخصية الكرتونية جونكر/ المعدن الحيّ، الذي تشكّل رجلاً آلياً ضخماً يدافع عن الأرض، مضحيّاً بنفسه من أجل حمايتها. لكن لقب سعيد كان سخرية منه، فهل وصلنا إلى حالة نسخر فيها من فطرتنا الخيّرة؟

عصف غياب سعيد جونكر بفهد، وخاصّة بعد اتهامه بقتله. وكيف يقتل فهد سعيداً، وهو صديقه الصدوق، ومن كان سبباً في معرفته بزهراء. يحقّق الضابط عادل مع فهد، ليكتشف أن العقل الباطن لفهد قد صوّر له مقتل سعيد على تلك الصورة الخلابة وهو يرتفع في الفضاء مع الأضواء الملونة، ألم يقل ميخائيل باختين: "الوعي أشد خطورة من اللاوعي".

يطلق سراح فهد لانعدام الأدلة، ومن ثمّ يلاحق من رجل ملثّم يريد أن يعرف منه حيثيات ليلة اختفاء سعيد. يكتشف فهد أن من يطارده هو مرسال من سعيد، يخبره بألا يقلق، وبأنه في أحسن حال في عالمه الجديد.

العلاج بالكتابة

يُنقل الضابط عادل إلى عمل إداري بعدما حيّرت قادته التصرفات التي يقوم بها، فقد كان يطلق سراح المجرمين، ترافق هذا الأمر مع العلاج النفسي الذي بدأ عادل يخضع له. وقد أرشده طبيبه إلى أن التعبير عن مكنونات نفسه سيكون عاملاً حاسماً في شفائه، والأفضل أن يكتب تلك المكنونات ويعيد قراءتها على نفسه.

تجادلنا "قاف قاتل، سين سعيد" بأن الأخلاق التي نعتقد بأنها بسيطة بساطة اللون الأبيض في مواجهة الأسود، هي غير ذلك إذ إنها معقّدة كألوان الطيف ما أن يمرّ الضوء بموشور الحقيقة

خلّف عادل وراءه أوراقاً كثيرة، كانت بمثابة علاج له، تحمل الكثير من المعرفة والرؤى الإنسانية العميقة. شغلت المحقّق ماجد هذه الأوراق، وقد اقتدى بها في مواجهة قضية اختفاء سعيد جونكر، لعلّها تقوده إلى الأضواء التي رآها فهد في تلك الليلة العاصفة.

وقد ذكر العم في تلك الأوراق، أنه كان يلاحق أحد الشباب الذين يقودون سياراتهم بشكل أرعن، معرّضين حيوات الناس للخطر. وقد قادته تلك المطاردة إلى البيت المهجور الذي كان فهد ورفاقه الأطفال يقضون وقتهم فيه، وهناك وجد سائق السيارة الأرعن الذي صوّرته له حمى المطاردة بأنه مروّج مواد ممنوعة، فأطلق النار عليه.

كان الطفل فهد في البيت المهجور، وشهد صعود سعيد جونكر إلى السماء، تحمله الأضواء. ومن خلال هذه الأضواء الكاشفة التي رآها فهد عرف المحقّق عادل أن من قتله ليس إلّا مراهقاً يُدعى سعيد جونكر، فيما سائق السيارة الأرعن قد فرّ بعيداً.

لقد كانت تدوينات العم عادل أرشفة لذاكرته التي سيقضمها النسيان ويمحيها الموت إن لم تدوّن، وأن تسجيلات فهد نشوان هي الأخرى ستزول إن لم تسجل. هكذا لم يبق في صندوق باندورا الرواية إلّا أن تصدمنا بأن القاتل لم يكن إلّا المثال المشتهى للمحقّق ماجد.

" طيرٌ طار، ليس له ريشٌ ولا منقارْ"

هذه الحزّورة، قد ألقتها جدّة ماجد على حفيدها كي يحلّها. وإن فعل ذلك كافأته بخمسة دنانير، لكن من دون مساعدة أحد، إلّا أن عمّه عادل لم يعطه السمكة، بل علّمه الصيد. هكذا هرع ماجد إلى جدته صارخاً: الحلّ، هو الدخان.

كانت مقولة هاملت: "أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال" سؤالاً وجوديّاً، قبل ولادة الفيلسوف الوجودي سارتر

كانت مقولة هاملت: "أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال" سؤالاً وجوديّاً، قبل ولادة الفيلسوف الوجودي سارتر، والآن على المحقّق ماجد أن يكون، لا أن يسأل السؤال ويبقى متردداً كما هاملت في مسرحية شكسبير، فقد حاز الأرشيف! وبالتالي: هل سيسلّم الأدلة الجديدة، وبذلك تُكشف قضية اختفاء سعيد جونكر، ولكنه بذلك سيكسر مثاله الأعلى؛ عمّه عادل، أم أنه سيحرق الأرشيف ويطير كالدخان؛ كجواب حزورة جدته، تاركاً الذكريات عن عمّه عادل، في رأسه ورؤوس الآخرين، نقية كأحلام طفل؟

تطرح علينا الرواية السؤال الأخلاقي المرّ الذي ينوس بين الواجب والعاطفة، بين سلطة الأرشيف وتسيّب الذاكرة، وتجادلنا بأن الأخلاق التي نعتقد بأنها بسيطة بساطة اللون الأبيض في مواجهة الأسود، هي غير ذلك، إذ إنها معقّدة كألوان الطيف، ما إن يمرّ الضوء بموشور الحقيقة. لقد قدّم الأرشيف الحقيقة إلى المحقّق ماجد، لكن ما الذي سيفعله بها؟ لقد أصبحت الحقيقة عبئاً ثقيلاً قد يقوده إلى المرض النفسي، كما حدث مع عمّه الذي لم يستطع أن يعترف بجرمه، فعالج نفسه بالكتابة.

والآن نسأل: ما هو علاج ماجد؟ هل يكمل تشبهه بعمّه، ويعالج نفسه بالكتابة أم يفضّ عرى هذا الشبه، ويقدم الأرشيف/ الحقيقة كما هي للجهات المختصّة؟ لكن كم سيسبّب هذا الأمر من أذى للذكريات الباقية عن عمّه، أكان له شخصياً أم لعائلته وأصدقائه الذين لا يمتلكون إلّا الذكريات الطيبة عنه!

"قاف قاتل، سين سعيد" رواية للكويتي عبد الله البصيص، وقد حازت روايته "طعم الذئب" جائزة أفضل كتاب عربي في مجال الرواية، ضمن جوائز الدورة السادسة والثلاثين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2017.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image