في 26 آب/ أغسطس، دعت الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية (ICAN) فرنسا إلى تنظيف المواقع التي أجرت فيها تجاربها النووية في الجزائر في ستينيات القرن الماضي، والتي لا تزال تحتفظ بأنواع مختلفة من النفايات المشعة تحت الأرض.
يقول القائمون على هذه الحملة إن الماضي النووي الفرنسي لا يجب أن يظل مدفوناً في الرمال، بل حان الوقت لاستخراج النفايات من المواقع التي أجرت فيها فرنسا 17 تجربة نووية في الفترة ما بين عامي 1960 و1966، وذلك لضمان الأمن الصحي للأجيال الحالية والمستقبلية، والحفاظ على البيئة وفتح عهد جديد من العلاقات بين الجزائر وفرنسا.
لم تكشف فرنسا عن كل أسرار تجاربها النووية التي جرت في الجزائر وأماكن أخرى حول العالم، لكن اثنين من الخبراء والناشطين الفرنسيين المناهضين لاستخدام الطاقة النووية، وهما جان ماري كولين وباتريس بوفيريه، أعدّا تقريراً بعنوان "تحت الرمال، النشاط الإشعاعي!"، بدعم من مؤسسة هاينريش بول الألمانية، يتضمن عرضاً للاختبارات النووية التي أجريت في الجزائر وآثارها السلبية المستمرة لغاية اليوم.
إشعاعات تحت الرمال
شرعت فرنسا في إطلاق برنامج نووي عسكري منذ إنشاء هيئة الطاقة الذرية (CEA) في تشرين الأول/ أكتوبر 1945.
في ذلك الوقت، بدأت باريس تبحث عن موقع تجري فيه تجاربها النووية. فكّرت في جزر كيرغولين، وجزر كليبرتون وتواموتو، لكن هذه الأراضي اعتُبرت بعيدة لأسباب فنية.
وبعد عدة مهام استطلاعية أجراها خبراء فرنسيون عام 1957، اختيرت الصحراء الجزائرية لتنفيذ التجارب النووية، رغم معرفة أن هذه الاختبارات تحمل مخاطر نتيجة قرب الجزائر جغرافياً مع فرنسا.
جادل الخبراء وقتها بأن المواقع المختارة مهجورة، وعندما عزموا على إجراء التجارب في الصحراء الجزائرية خصصوا منطقتين وهما رقان وعين عكر لتكونا مواقع لاختبار القنابل التي اخترعوها.
وأجريت 17 تجربة نووية، بالإضافة إلى "تجارب إضافية" لم ينتج عنها تفاعل نووي متسلسل، بل تشتت البلوتونيوم.
قبل ستين عاماً، وتحديداً في 13 شباط/ فبراير 1960، أجرت فرنسا أول تجربة نووية في الصحراء الجزائرية والكارثة أنها أجرتها في الغلاف الجوي.
لم تكن تجربة واحدة بل أربعة اختبارات نووية نُفّذت في الغلاف الجوي، أطلقت عليها بالترتيب أسماء الجربوع الأزرق والأبيض والأحمر والأخضر.
تسببت هذه التجارب في ترسّب جسيمات مشعة في الصحراء الكبرى، بل اكتُشف عام 2014 أن منطقة شمال إفريقيا وحتى جنوب الصحراء مناطق ملوثة بالإشعاعات.
حتى القارة الأوروبية تأثرت، إذ تشير الدراسات أنه بعد 13 يوماً من التجربة النووية الأولى في 13 شباط/ فبراير 1960، تساقطت الجسيمات الإشعاعية على السواحل الإسبانية.
واكتشف في أوائل آذار/ مارس من ذاك العام أن "هذه الجسيمات تطايرت مع الهواء وسقطت مع الأمطار في جنوب غرب السويد".
كان الغرض الرئيسي من التجربة النووية الأولى التي أطلقوا عليها تسمية "الجربوع الأزرق" التحقق من فعالية القنبلة الفرنسية ومما إذا دخلت فرنسا بالفعل نادي الدول النووية.
أما التجربة النووية الثانية، "الجربوع الأبيض"، التي أجريت في الأول من نيسان/ أبريل 1960، فقد كان الهدف منها استهداف آليات وكان المقدر لها أن تحدث حفرة كبيرة في عمق الأرض لأن الجسيمات كانت ثقيلة، وخلقت تلوثاً عميقاً.
وخلال الاختبار الثالث، "الجربوع الأحمر"، والذي أُجري في 27 كانون الثاني/ ديسمبر 1960، وضعت حيوانات حية (ألف جرذ وفأر وقليل من الماعز) حول نقطة الاستهداف لمعرفة كيف تصمد خلال التجربة وماذا يحدث لخلاياها.
حتى الآن، لا يزال "ماضي فرنسا النووي" مدفوناً في أعماق رمال الصحراء الجزائرية، دون إجراءات احترازية أو ضوابط للسيطرة على التسرب الإشعاعي أو على الأقل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوعية السكان المحليين بالمخاطر الصحية
وأثناء التفجير الرابع، "الجربوع الأخضر"، في 25 نيسان/ أبريل 1961، أعدّوا مسرحاً يحاكي حرباً نووية. وبعد الانفجار مباشرة، أجريت مناورات بالدبابات، ودُفع بقوات من المشاة سيراً على الأقدام بالقرب من نقطة الاستهداف لاختبار معدات الحماية، ولمعرفة ردود فعل القوات في بيئة مشعة وهو ما تسبب في تعرّض 195 عسكرياً للإصابة بتلوث إشعاعي. ولم يذكر الباحثون ما إذا كانت جنسيات هذه القوات فرنسية أم أنهم مجندون من الدول التي كانت فرنسا تستعمرها في ذلك الوقت.
بالإضافة إلى هذه "التجارب النووية الأربعة"، نُفّذت 35 تجربة نووية أخرى أدت الى تشتت عنصر البلوتونيوم ، ولكن دون أن تتسبب في إطلاق للطاقة النووية، في موقع الجربوع الأحمر بين عامي 1961 و1963.
حتى الآن، لا يزال هذا "الماضي النووي" مدفوناً في أعماق الرمال، دون إجراءات احترازية أو ضوابط للسيطرة على التسرب الإشعاعي أو على الأقل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوعية السكان المحليين بالمخاطر الصحية.
تجارب تحت الأرض
عندما علم الفرنسيون بكارثة التلوث الإشعاعي إثر إجراء الاختبارات في الفضاء قرروا تنفيذ التجارب النووية الباقية تحت الأرض في جنوب منطقة عين عكر. بدأ هذا النوع من التجارب في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1961 واستمر حتى 16 شباط/ فبراير 1966.
جرت الاختبارات في حُفر على عمق من 800 إلى 1200 متر تحت الأرض. وعلى الرغم من ذلك، وقعت كارثة في أول اختبار من هذا النوع.
تُعرف هذه الكارثة بحادثة "بيريل"، فبعد اختبار جرى في الأول من أيار/ مايو 1962، أصيب تسعة جنود من وحدة القوات الخاصة 621 بنشاط إشعاعي شديد.
فحينما ألقيت القنبلة تحت الأرض لم يتحمل التجويف الذي أُعدّ لهذا الاختبار الضغط فخرج انفجار ضخم من بين الصخور وتسرب غبار مشع في الغلاف الجوي.
لسوء الحظ، مرّت السحابة المشعة الناتجة عن الانفجار فوق موقع القيادة، بسبب تغيّر غير متوقع في اتجاه الرياح. وكان هناك العديد من المسؤولين الحكوميين في مقر القيادة، منهم وزير الدفاع الفرنسي بيير ميسمير.
أغلق التجويف بكتلة خرسانية، لضمان أكبر قدر ممكن من احتواء النشاط الإشعاعي الناتج عن هذه التجربة التي يُعتقد أنها الأكبر والأهم بدليل دعوة العديد من "المسؤولين" لحضورها.
مدافن نفايات
لا تزال بعض المواقع التي أجريت فيها الاختبارات تشكّل ما يشبه مقابر نفايات واسعة، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات: أولى تتضمّن مقابر تتضمن مخلفات غير مشعة؛ وثانية مواد ملوثة بنشاط إشعاعي ودفنت عمداً؛ وثالثة مواد مشعة من التفجيرات النووية.
لا تزال بعض المواقع التي أجرت فيها فرنسا اختبارات نووية، في الصحراء الجزائرية، تشكّل ما يشبه مقابر نفايات واسعة... والمطلوب من باريس مساعدة الضحايا وتصحيح الوضع البيئي
في ما يتعلق بالنوع الأول وهو النفايات غير المشعة، تتضمن علب مواد البيتومين والألمنيوم وأدوات استُخدمت خلال التجارب مثل براميل معدنية ملقاه في الصحراء.
أما في ما خص النوع الثاني، فقد دفنت مواد ملوثة عمداً في الرمل ولم يتم تحديد الوضع الإشعاعي لمختلف المواقع حتى هذه اللحظة. فقبل رحيلها عن أرض الجزائر، شرعت السلطات الفرنسية في دفن المواد والأدوات والوسائل الميكانيكية المستخدمة في التجارب والتي يُحتمل أن تكون ملوثة.
أما النوع الثالث من النفايات فهو عبارة عن مواد انشطرت وأجسام مشعة نجمت عن الانفجارات النووية خصوصاً تلك التي جرت في الغلاف الجوي وامتزجت بالرمال.
هل تستجيب فرنسا؟
يدعو التقرير المكون من 60 صفحة فرنسا إلى تحمّل مسؤولياتها في تصحيح الوضع القائم، استناداً إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية (TIAN) التي تم تبنيها في الأمم المتحدة عام 2017 وستدخل حيز التنفيذ بمجرد المصادقة عليها من قبل 50 دولة.
وإذا رفضت فرنسا هذه الاتفاقية، فإن الجزائر هي إحدى الدول الموقعة، وبالتالي سيتعيّن عليها تطبيق التزاماتها، ولا سيما الأحكام المتعلقة بـ"مساعدة الضحايا وتصحيح الوضع البيئي".
ومع ذلك، تقول صحيفة لوبينيون الفرنسية إن هذا الملف معقد لأن 11 تجربة أُجريت بموافقة الحكومة الجزائرية.
وتضيف الصحيفة أن حزب الخضر الألماني يدعم هذه القضية، مشيرة إلى أنه بحال مشاركة هذا الحزب في الحكومة الألمانية واستمرار دعمه للقضية ستتضرر العلاقات الألمانية-الفرنسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...