سبق "تمرّد" طلاب الجامعة الأميركية في بيروت الثورة الطلابية في فرنسا بعدة أشهر، ربما بتأثير صعود الحركة الطلابية ضد حرب فيتنام في أميركا، وأيضاً لا نستطيع أن ننفي تأثير الأفكار الجديدة التي جاء بها اليسار الجديد ووجودية سارتر، كما تأثير الفكر النسوي وعلم النفس الفرويدي، ما شكّل بمجموعه فكراً جديداً صارخاً، لا يرضى بقرارات السلطة، أي سلطة، ويطلب المشاركة في صنعها لا الامتثال لها فحسب.
سبق "تمرّد" طلاب الجامعة الأميركية في بيروت الثورة الطلابية في فرنسا بعدة أشهر، وكان الشرارة التي أدت لأول نوع من التمرّد على السلطات التعليمية وقرارات الهيكل المؤسس للنظام التعليمي
وكانت الشرارة التي أدت لأول نوع من التمرّد على السلطات التعليمية وقرارات الهيكل المؤسس للنظام التعليمي والعلاقة التقليدية، معلّم-تلميذ، جزءاً من التغيير الذي كان يسري ببطء في الحياة الطلابية في العالم العربي، وما سيلي هذا التغيير على علاقة حاكم-محكوم، كيف حاولت السلطات التعليمية التقليدية احتواء هذا التمرّد وما الإشارات التي تضمنها وكيف انتهى هذا الحراك البدئي إلى ما انتهى عليه؟
لنقرأ بعض الوثائق التي تضمنتها تلك الفترة من أرشيف الجامعة الأميركية في بيروت.
بيان لجنة الدفاع عن الحرّيات العامّة - آذار 1968
تقصّت اللجنة أسباب عدم تجديد عقد الدكتور صادق جلال العظم، فلم تجد ما يؤيّد الإدّعاء القائل بأنّ مداخلات حزبيّة هي من أسباب عدم تجديد عقد الدكتور العظم، ذلك لأنّه لا ينتمي إلى حزب ونشاطاته تتّسم بطابع غير حزبي.
ومن جهته أكّد رئيس الجامعة وقتها، بروثرو، أنّ أستاذاً لن يُطرد من هذه الجامعة ما دام رئيساً بسبب مواقفه الفكريّة. ولكن عند مواصلة البحث والاستفسار شعرت اللجنة أنّ لدى بعض المسؤولين تخوّفاً من مواقف الدكتور العظم الفكريّة الجريئة، خاصّة أنها تتعارض مع زملاء له في دائرة الفلسفة.
كما وجدت اللجنة أنّ الأسباب التي تقدّمت بها دائرة الفلسفة مبررةً عدم تجديدها عقد العظم غامضة ومبهمة وغير مقنعة.
ومن الأسباب التي قُدّمت:
- عدم حاجة الدائرة إلى اختصاص العظم
- إبقاء الدكتور العظم يكلّف الجامعة مبالغ طائلة تفوق قدرتها
- الرغبة في ذهاب الدكتور عظم إلى الخارج لتوثيق أفق ثقافته
وقد تساءلت اللجنة عن هذا "الغطاء القانوني" الذي قدمته الدائرة والذي يبعث على كثير من الشك والغموض، خاصة وأن الدكتور العظم قد مضى على تدريسه الناجح خمس سنوات في دائرة الفلسفة، وله نتاج فكري غزير. أما فيما يتعلق بكلفة تثبيته، فقد وجدت اللجنة عذر الادارة مبهماً ومتناقضاً. فهي إما تؤمن بكفاءة العظم في تدريسه ومنشوراته ومواقفه وإما لا تؤمن؟!
لجنة الدفاع عن الحريات في الجامعة الأميركية في بيروت: "الأسباب التي تقدّمت بها الإدارة لعدم تجديد عقد صادق العظم تشكو من الغموض والإبهام"
فإذا كانت تؤمن، فلتعلن هذا وتحاول الإفادة من مقدرته وطاقته، وإذا كانت لا تؤمن فلم لا تعلن هذا أيضاً وتشرح أسبابه وتبرر إبقاءها له طوال هذه المدة؟!
كما حققت اللجنة في الإشاعة القائلة إن سبب عدم تجديد عقد الدكتور العظم هو اختلاف فكري في الرأي بين الدكتور شارل مالك والدكتور العظم. وقد أجاب الدكتور مالك أن قرار عدم تجديد العقد هو من الدائرة مجتمعة، وانه عضو عادي فيها فقط، كما وإنه برر عدم تجديد العقد بكون تثبيت الدكتور العظم "يكلف الجامعة أعباء مالية تفوق قدرتها".
وختمت اللجنة بيانها بما يلي:
اللجنة تعلن أنّ الأسباب التي تقدّمت بها الإدارة تشكو من الغموض والإبهام وأنّها تشعر منذ أمد غير بعيد أنّ هناك تياراً في الجامعة مضاد لكافة أنواع الحرية، بكبح حرية الرأي الجريء والتخلّص من العناصر "المشاغبة"، وخاصة الأساتذة الحاملين لواء الحرية. وإنّ اللجنة تعلن أنّها تتمسك بهذه الحرية المقدسة وسوف تعمل من أجل إحقاقها مهمه كان الثمن غالياً.
الحركة الطلابية - إضراب الطلاب
الإضراب الرصين المسؤول الذي بدأه طلاب الجامعة الأميركية يشكل تعبيراً رائعاً عن تمسكهم بقيم الحرية والشجاعة الخلقية. وإن تضامن الطلاب وتعاونهم الفعال، إن دلّ على شيء فعلی إیمانهم العميق بقدسية قضاياهم، واقتناعاً منهم أنهم يستحقون هذه الجامعة وأنهم مخلصون وأوفياء لجوهر الحياة الجامعية.
إن الإضراب الذي بدأه طلاب الجامعة يأتي بعد استهلاك كل وسائل الحوار الصريح والنقاش البناء. وهو وسيلة فقط للرد على مماطلة الإدارة ووعودها المبهمة طوال أربعة أشهر، وهو أصدق استصراخ طلابي موجه إلى أدارتهم لتعود إلى الأسس التي أرسى عليها دانیل بلس هذه الجامعة العريقة.
خلال أربعة أشهر من الاجتماعات الطويلة واللقاءات الجديدة التي لم تسفر سوى عن المزيد من التأجيل والمماطلة، طرح الطلاب القضايا التالية:
بيان الحركة الطلابية في الجامعة الأميركية في بيروت: "يشعر طلاب الجامعة أن عدم تجديد عقد الدكتور عظم يعود إلى أسباب غير أكاديمية وجامعية"
أوّلاً: قضية الدكتور صادق جلال العظم:
إذ يشعر طلاب الجامعة أن عدم تجديد عقد الدكتور عظم يعود الى أسباب غير أكاديمية وجامعية.
وقد طلبوا من الرئيس كيركوود في اجتماع مطول معه، بما يلي:
1. تجديد عقد الدكتور صادق جلال العظم باعتبار أن التبريرات المعطاة لإنهاء التعاقد غير مقنعة بتاتاً.
2. تكريس مبدأ شرح أسباب إنهاء التعاقد.
3. إشراك الطلاب الفعلي، بشكل محدد ومسؤول مع الإدارة فيما يتعلق بحياتهم ونشاطاتهم الجامعية.
4. الحد من القيود التعسفية على نشاطات الطلاب الثقافية فيما يتعلق بمحاضراتهم ومنشوراتهم.
وإزاء إهمال الإدارة ومماطلتها في النظر الحقيقي بهذه المطالب الطلابية التي تبناها الجميع على حد سواء، وجد طلاب الجامعة أنفسهم مجبرين على الإضراب كوسيلة لحمل الإدارة على تفهم هذه المطالب والمساهمة بتحقيقها لما فيه خير هذه الجامعة والعاملين فيها.
ويؤسفنا أن نقول بكل صراحة إن إيضاح الرئيس الموجز الموزع على الصحف هو مثل آخر على خطة التأجيل والوعود المبهمة.
بيان ثان للجنة الدفاع عن الحريات الجامعية - 20 آذار 1968
إخواننا الطلبة
إن لجنة الدفاع عن الحريات الجامعية حين تبنت قضية الدكتور صادق العظم كان رائدها في ذلك تثبيت قيم ومفاهيم لايجوز تجاهلها في مثل هذه المؤسسة الثقافية.
ولهذا يأتي رفض إدارة الجامعة الاستجابة للرغبة الطلابية الشاملة وقرارها الأخير برفض تجديد العقد مع الدكتور العظم، دليلاً جديداً على مدى استهتارها بكافة المطاليب العادلة التي تقدمنا بها سابقاً وفي كل المناسبات، والتي هي الآن بين يدي الرئيس کیرکوود.
إن هذه المطاليب والتي نعتبرها جزءاً لا يتجزأ من ممارستنا لحقوقنا الطبيعية في هذه الجامعة وقيامنا بالدور الملقى على عاتقنا تجاه أوطاننا، تتلخص فيما يلي:
لجنة الدفاع عن الحريات الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت: "يأتي رفض إدارة الجامعة الاستجابة للرغبة الطلابية الشاملة وقرارها الأخير برفض تجديد العقد مع الدكتور العظم، دليلاً جديداً على مدى استهتارها بكافة المطاليب العادلة"
تأكيد مبدأ الحرية الطلابية الحقيقية والتي تتمثل في:
- إلغاء صلاحيات مكتب الأمن الحالية وحصرها بما كانت عليه سابقاً.
- إلغاء صلاحيات مكتب شؤون الطلبة الحالية وحصرها بتسيير الأمور المحضة للطلاب، كالطعام والمنامة وما شابه.
- إلغاء الرقابة الحالية التي تقيد النشاطات الثقافية التي يقوم بها الطلاب.
- إطلاق حريات الطلاب في التعبير عن آرائهم من خلال النشرات الجامعية التي يصدرونها.
- إقرار مبدأ إنشاء مجلس طلبة، توافق على صيغته جميع الفئات الطلابية في الجامعة لإشراك الطلاب في تسيير أمورهم وملاحقة مطالبهم وممارسة حقوقهم الطلابية أسوة بجميع جامعات العالم.
أیها الطلاب
إن تحقيق هذه المطالب لايتم إلا بوقوفكم موقفاً حازماً وجريئاً في وجه سياسة التسويف والمماطلة التي تتبعها الإدارة لتمييع جهودنا وتفریق صفوفنا. إن جملة القضايا هذه تضعك يا أخي الطالب أمام مسؤولياتك كطالب جامعي ومثقف حر، وإن تهاونك في العمل لتحقيقها يشكل تخلياً صريحاً عن كرامتك وواجبك.
عاش لبنان موئلاً للحرية
عاش التضامن الطلابي
لجنة الدفاع عن الحريات الجامعية
بيان منظمة الطلاب العرب
أيها الزملاء الطلاب،
منظمة الطلاب العرب في الجامعة الأميركية في بيروت: "إنّ منظمة الطلبة العرب تدعو لاتخاذ أقسى المواقف والصمود من أجلها، حتى تتراجع الإدارة عن قرارها (بعدم تجديد عقد العظم) وتنتصر کرامة العلم والثقافة في هذه الجامعة"
لقد علمت منظمة الطلبة العرب أن إدارة الجامعة الأميركية قد قررت المضي في استهتارها لإرادة الطلاب الصريحة، وأعلنت أنها لن تجدد العقد للدكتور صادق العظم دون أي مبرر مقنع.
أيها الإخوان والأخوات
إن السكوت عن هذا المسلك المشين يعتبر إهانة بحق كل واحد منا، وإن مواجهة التحدي يجب أن يكون على مستواه، حتى يعلم القيّمون على هذه الجامعة أن إرادة الطلاب هي فوق كل إرادة.
إنّ منظمة الطلبة العرب تدعو جميع الفئات والهيئات والعناصر الطلابية المخلصة لاتخاذ أقسى المواقف والصمود من أجلها، حتى تتراجع عن قرارها وتنتصر کرامة العلم والثقافة في هذه الجامعة.
منظمة الطلبة العرب، 19 آذار 1968.
خلاصات غير ملزمة
لا يمكن تفسير الحركة الطلابية عامة في تلك الأعوام، والتي انتقلت بالعدوى إلى عدة بلدان غربية وشرقية، بمجرد صراع أجيال، أو بأزمات المجتمع الصناعي الغربي، ولا بـ "اليأس الناجم عن الإفراط في الحرية" كما قال الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو.
كشفت قضية عدم تجديد عقد صادق العظم، ومحاكمة كتابه "نقد الفكر الديني"، أن وهم التحرير ووهم النموّ ووهم الاستقلال ليست سوى سلالم صعد عليها الفكر الديني، بالتعاون مع الطغم المالية والعسكرية لوأد الحريات
كانت "روح" جديدة تتشكل من مزيج يساري الطابع وفوضوي الهيئة، ماويون وتروتسكيون، ماركسيون لينينيون وإصلاحيون، وجوديون وفوضويون، متطرفون ومعتدلون، متمردون على قيم الأديان والعائلة والسلطة، كانت ثورة "أخلاقية" تماماً ضد الأخلاق التقليدية. وبالنسبة للعالم العربي، نظراً لضعف البنية التعليمية آنذاك في الدول الأخرى، وتمركزها في بيروت والقاهرة وبدرجة أقل في دمشق، لكن بالدرجة الأولى في بيروت لما تتمتع به من حرية في التعبير والنشر، والقريبة من القضية المركزية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، كما الصراع من أجل التخلص من القيم الزائفة التي شكلتها الطبقة السياسية التقليدية التي سيطرت بعد الاستقلال.
كانت الروح نفسها تتشكل بتأثير هزيمة 1967، وفشل الأنظمة التي وصفت نفسها بـ "التقدمية" آنذاك، وانتهت إلى ديكتاتوريات فردية قامعة للحريات وقاتلة للفرد والجماعة، كانت قضية الدكتور العظم رأس جبل الثلج الذي يخفي مجموعة هائلة من المشاكل البنيوية تنال صلب النظم السلطوية السائدة وتناقضها مع المجتمع الذي يُفترض أن تمثله.
كان "نقد الفكر الديني" خطوة لتبديد الوهم المثالي بأن الأيديولوجية الغيبية هي حصيلة الروح العربية الأصيلة الثابتة عبر العصور، والإضاءة على أنها، ككل البنيات الطبقية، خاضعة للتحوّل التاريخي المستمر، ولا تتمتع إلا بثبات نسبي
كشفت هذه القضية، بالإضافة لمحاكمة "كتاب" الدكتور العظم، "نقد الفكر الديني"، أن وهم التحرير ووهم النموّ ووهم الاستقلال ليست سوى سلالم صعد عليها الفكر الديني، بالتعاون مع الطغم المالية والعسكرية، لوأد الحريات والارتباط أكثر بالمستعمر الذي خرج من الباب ليعود من النافذة، على هيئة "أنظمة وطنية" ليس لها من الوطنية سوى الاسم، وأن تلك الأنظمة الميتة أضاعت فرصة ربما لن تتكرر للخروج من نفق التخلف والالتحاق بركب الحضارة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...