لطالما شكّل أدب المهجر أو المنفى علامة فارقةً في الأدب العربي، إن كان في الشعر أو النّثر أو الرواية. مؤخراً استحوذ أدب المهجر على اهتمامٍ واسع بشكل أساسي، خاصةً بعد اندلاع الثورات العربيّة أو ما يُعرف بـ"الربيع العربي" منذ عام 2011 وحتّى اليوم. على هامش مؤتمر الثورات العربيّة وأثرها على الأدب في 15 حزيران الماضي في برلين، التقى رصيف22 بالكاتب اليمني علي المقري، والذي غادر بلاده مجبراً هو الآخر إثر اندلاع الحرب في اليمن عام 2014.
لا شكّ بأن الثورات العربيّة أثّرت على الكتابة والإنتاج الإبداعي، خصوصاً بأنماط الإنتاج الفنيّة، وذلك بسبب تواجد الكثير من الأدباء والفنانين في المنفى أو المهجر من ضمن أسباب أخرى. بعضهم يخرجون مرغمين ويعيشون منفى قسريّاً، وبعضهم يختار طوعاً مغادرة بلادِه إلى أماكن أكثر حريّة، حيث يمكنهم أن يمارسوا حيواتهم الشخصيّة والمهنيّة في ظلّ بلاد تكفل لهم حريّة الرأي والتعبير والاختلاف.
لدى سؤال علي المقري إن كان قد غادر وطنه إلى فرنسا طوعاً أو مكرهاً، يقول إنّه في الحقيقة لم يخرج مباشرةً إلى فرنسا، بل خرج أثناء الحرب حيث كانت هناك دعوة له إلى لندن لتوقيع ترجمة إحدى رواياته إلى الإنكليزية في المكتبة الوطنية في بريطانيا. ولكن لأسباب الحرب لم يستطع أن يحصل على التأشيرة، فذهب إلى جيبوتي، وهناك بقي عالقاً لمدة ثلاثة أشهر، فلم يستطع العودة إلى اليمن.
ثم بعد ذلك ذهب إلى مصر، ومكث فيها ثلاثة أشهر، ومن ثمّ ذهب إلى فرنسا، لكي يستلم جائزة أدبيّة عن إحدى رواياته. وبقي هناك، لأنه حصل على دعوة للإقامة الأدبيّة في فرنسا، ثمّ طالت الإقامة بسبب الحرب في اليمن.
لا شك بأن تكبيل وقمع الحريّات من قبل الأنظمة في العالم العربي يؤثر علي الإنتاج الأدبي، ولكن علي المقري يقول: "كنّا نعيش في اليمن رغم كلّ الظروف من تضييق حريّة التعبير، سواء من جانب السلطة السياسية أو من جانب المؤسسات الدينية والمجتمع، إلا أنّنا وبالرغم من المواجهات مع المتطرفين، كنّا نعرف من يمكنه أن يقتلنا".
ويبدو أن المقري كان متكيّفاً مع ظروف الرّقابة، حيث أكّد بأنه كان يتحمّل هذه الظروف، ولم يفكّر بالخروج من بلده من أجل حريّة أكبر، ولكن مع اشتعال الحرب بهذه الطريقة الشرسة، صار من الممكن أن يقتل شخص وهو يمشي في الشارع مثلاً لأن لهجته مختلفة أو بسبب منطقته، فأصبحت الحياة صعبة، لكنْ ليست مستحيلة، فهناك الكثير من الأدباء والكتاب الذين ما زالوا يعيشون في اليمن.
يتساءل الكثير من الباحثين والنقّاد عن أثر ترك الأوطان والبلاد على الإنتاج الفني والأدبي بشكل عام. لا شكّ بأنه للحضور والغياب عن الوطن أثر على الكتابة، ولا نعني هنا فقط الحريّة في طرح المواضيع والأفكار. لكن بالنسبة لعلي المقري، لا يمكن أن يكون هناك تغيّرات بشكل كبير، لأنه على حدّ تعبيره "في بلداننا كنّا نعيش في ما يشبه المنفى الوطني، في حالة اغتراب".
وبحسب المقري، هناك الكثير من الكتاب والأدباء العرب لا يتأقلمون مع ما يحدث في بلدانهم، سواء كان ما تطرحه المؤسسات الثقافيّة الرسميّة أم السلطات السياسية والدينيّة، بل نجدهم دائماً في مواجهة مع هذه المؤسسات، ولهذا يعيش الكثيرون منهم في منفى داخل أوطانهم. ويضيف المقري: "حين نخرج من هذه البلدان إلى الخارج، أظنّ بأنّنا نعيش منفى مضاعفاً؛ مضاعف بمعنى أنّه في البلدان الأوروبيّة نحن نستمتع بهذه الحياة الجديدة والمدنيّة التي لا نعيشها في بلداننا، ولكن في الوقت نفسه نظلّ متعلّقين ومهمومين بمشاكل بلداننا.
هناك الكثير من الكتاب والأدباء العرب لا يتأقلمون مع ما يحدث في بلدانهم، ولهذا يعيش الكثيرون منهم في منفى داخل أوطانهم
عادةً يستريح الأديب من الضغط الذي تشكلّه السلطاتُ السياسّة والدينيّة على إبداعه، ولكن من وجهة نظر علي المقري إن الراحةَ نسبيّةٌ، فهو يرى أن الكاتب يحاول باستمرار أن يمارس حريّته في أيّ مكانِ في العالم، والحريّة مفقودة في الأغلب، لأن الكاتب الذي يشعر أنّه حرّ، يفتقد إلى القلق الوجودي والإنساني. "ليس هناك كاتب حرّ في العالم.".
يرى الكثير من النقّاد أن الكتابة عن الوطن في الوطن، تختلف عن الكتابة عن الوطن والكاتب في المهجر أو المنفى. وعلي المقري سبق وكتب روايتين عن محنة الوطن وعن إشكاليّة الوطن. روايته الأولى هي "طعم أسوَد، رائحة سوداء" كانت عن "الأخدام"، وهم سود البشرة في اليمن، وليس "الخدم" طبعاً. ويتمّ التعامل مع "الأخدام" بطرق عنصريّة مقيتة في داخل البلد بسبب لون بشرتهم، ويظلّون على هامش المجتمع، ولذلك يبقى الوطنُ بالنسبة لهم غيرَ محقّق.
وبنفس الطريقة في روايته الثانية "اليهودي الحالي" كانت القضية الأساسيّة هي الأقليّة اليهودّية في اليمن، فالوطن لم يتحقّق لهم أيضاً. "فماذا يعني أن تقول للأخدام واليهود أن هذا وطنكم؟ هو لا يشعر أبداً بأنّ هذا وطنه، لأن هناك إقصاء وتهميشاً لهم."، يتساءل المقري ويضيف: "هل الوطن ضرورة؟ وهل بالإمكان إيجاد بديل للوطن؟".
في روايته الرابعة "بخور عدني"،يمتحن علي المقري فكرة إمكانيّة إيجاد بديل للوطن في عدن، المدينة المتعدّدة ثقافيّاً خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، من خلال شخص يذهب إلى فرنسا للبحث عن إمكانية وجود بديل للوطن. فهو في عدن يمتحن هذا البديل للوطن، وللأسف يضيق هذا البديل؛ ففي البداية كان "الوطن" منفتحاً، ولا يطلب منه هويّات، ولكن مع مرور الزمن صار هناك من يريد أن يُعرِّف من هو العدني الذي يسكن عدن: هل هو العدني العربيّ؟ أم هو العدني المسلِم؟ أم العدني الوطني؟ فصار مفهوم الوطن هنا يضيق أكثر، كما يضيق البديل للوطن. فيرى المُقري بأنّه للأسف أحياناً لا الوطن يتحقّق، ولا البديل عن الوطن.
أثناء البحث عن الوطن البديل، يحاول الكثير من الكتّاب الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، بينما يفضّل بعضهم الانزواء وإيجاد وطن لهم في كتاباتهم. عند سؤاله عن مدى اندماجه وتأقلمه مع ثقافة بلده المضيف، يقول علي المقري بأنّه ليست لديه أي مشكلة على المستوى الشخصي، لأن الثقافة الأوروبية يعرفها من قبل. فلا يوجد عنده غربي وشرقي، ولا شمال وجنوب أيضاً. بالنسبة له إن الفكر الإنساني موجود في كل العالم ونحن نعيش في مدن كوزموبوليتيّة متعددة الثقافات، فلم تعد هناك هويّات صارمة، ونحن نعيش إنسانيتنا في هذه المدينة (باريس) رغم كل التناقضات الهائلة والوجود المتعدّد.
يقول المقري إنّه سبق وكتب رواية عن حياةٍ باريسيّة، ولكنّه لم يتجرّأ على تقديمها للنشر، لأن الناس لم يكونوا ينتظروا منه هذه الرواية، وهنا مارَس نوعاً من الرّقابة الذاتيّة على ما ينشر
لكن على مستوى العربي فيعتقد المقري بأن هناك محنة في مشكلة اندماج القادم إلى أوروبا، فالعربي يأتي محمّلاً بثقافته وبعاداته وتقاليده وأحياناً يريد من الآخر أن يتفهّم هذه العقيدة وهذه الثقافة كما هي، دون أن يراعي أي احترام لثقافة الآخر التي هو قادم إليها. والعربي يطالب الأخير باحترام ثقافته وهو لديه نظرة دونيّة لثقافة الآخرين.
وعن نظرة المثقفين الغربيين و"الإستابليشمنت" الغربي للكاتب العربي، فيرى علي المقري أنّ الأدب العربي الآن يقدم نفسه بقوّة وبشكل جيد، وخاصة في العقدين الأخيرين، وهناك كثير من الاهتمام بترجمة الأدب العربي.
هناك مأخذ قد يأخذه البعض على الكتّاب العرب الذين يقيمون في المهجر لعشرات السنين، بأنهم يظلّون يكبتون عن بلدهم الأمّ، ولا يكتبون عن محن ومشاكل البلدان الجديدة إلا بشكل عابر. عن ذلك يقول المقري بأن الكاتب العربي حين يذهب إلى أوروبا، يظلّ عالقاً في إشكاليّات المكان الذي جاء منه لأسباب كثيرة منها أنّه يكتب أساساً لقرّاء لغته في الأساس، أي اللغة العربيّة. لكنه، وبالطبع، إن كتب بلغة أخرى فيمكن أن يتحوّل إلى الاشتغال في مواضيع أ خرى. ولكن، في الوقت نفسه، يظنّ علي المقري أنّ الكتابة عن المكان هي ارتباط بالطفولة وارتباط بالتاريخ، وبالعائلة، والمجتمع؛ ولهذا لا يستطيع الكاتب أن ينتزع هذا الوجود الذاكراتي بسهولة ويخرج منه إلى فضاء حياتي جديد ولكن، بحسب المقري، دائماً ما هناك كتّاب يكتبون عن المجتمعات الجديدة.
يقول المقري إنّه سبق وكتب رواية عن حياةٍ باريسيّة، ولكنّه لم يتجرّأ على تقديمها للنشر، لأن الناس لم يكونوا ينتظروا منه هذه الرواية، بل كانوا ليقولوا كيف لهذا الكاتب التي تنطحن بلاده بشكل يومي وتتدمّر بالحرب، أصبحت هواجسه ومواضيعه شبه ترفيّة، رغم أنّه من حقّه كإنسان أن يكتب بحريّة عن أي موضوع، وهنا مارَس نوعاً من الرّقابة الذاتيّة على ما ينشر. فأظهر المقري أنّه كتب بحريّة، لكنّه لم يستطع النشر.
بنظر االأديب اليمني إنّ الكاتب ينظر إلى كلّ الأشياء كمحن إنسانية، فالشّخص العادي المهاجر يواجه تناقضات ثقافية بين مجتمعه والمجتمع الذي يأتي إليه، لكن بالنسبة للكاتب الذي يشتغل على هواجسه الخاصّة فليس من السّهل تطويعه، سواءً كان في بلده أو في بلدٍ آخر. وبالنسبة لما يطرح دائما بأنّ الكاتب عليه أن يتناول مواضيعَ محدّدة من مجتمعه، يجد المقري أن هذه مقولات سياسيّة وصحفيّة سريعة، فكلّما تُرجمت أعمال كاتب عربي إلى اللغات الغربيّة، نقول إنّه يرضي الغرب، والذين يقولون ذلك هم العنصريون والطائفيّون، وهم المتسلطون التّابعون للمتسلطين في العالم العربي، لأن الإشكاليات التي نتحدّث عنها كالحريّات وعدم تحقّق الذات الإنسانيّة فهُم ضدّها أصلاً. وإن أتى التشجيع من أوروبا أو أي مكان آخر في العالم فهذا جيد.
في نهاية حديثنا تطرقنا إلى مشكلة المثقّف العربي الذي عليه أن يثبت للآخرين وطنيته بشكلٍ دائم، وتساءلنا لمَ الكاتب الغربي مثلاً ليس مطالباً بذلك، فيجيب المقري لأنه في أوروبا والغرب بشكل عام، قد تعوّد الناس على نقد كلّ شيء، نقد الدّين ونقد الوطن ،كمفهوم و كسلطة سياسيّة، ونحن لا نعيش هذا المناخ من الحريّات، فنحن متّهمون دائماً؛ لذلك باعتقاد كاتبنا اليمني إن البلدان العربيّة ما زالت تعيش حالة من التحوّل الصعب؛ تحوّل صاخب ولكنه بطيء؛ عراك ما بين التقليدي والحديث.
ويزعم علي المقري بأنه لذلك أسباب كثيرة؛ أحياناً هناك تشجيع من السلطات العربيّة على موجات التطرّف وإعطائها مساحة واسعة في الإعلام والحياة السياسية أكثر ممّا تُعطى لقوى التنوير والتغيير في المجتمع. فما زالت المجتمعات العربيّة في الدساتير والقوانين تتيح لرَجلِ الدّين أن يتدخل في كلّ تفاصيل حياتنا اليوميّة وتشترط على من يمارس العمل السياسي أن يكون متديناً ويمارس الشعائر الدينية، فتأتي السلطات العربيّة لتتحدّث عن الإسلام السياسي والتطرّف، وهي تمارس هذا الإسلام السياسي والتطرف بشكل رسمي، عبر التعليم بشكل أساسي، والذي ما زال يستند إلى مفاهيم تجاوزها الزّمنُ، إذ هناك مفاهيم علميّة ما زال محرّماً تعليمها في بلداننا، وذلك ينعكس على جميع مستويات حياتنا الثقافية والاجتماعيّة، وعلى أدبنا أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه