لم يكن الرجل الأسمر الذي جاء من أقصى صعيد مصر يتخيّل أن سيرته ستظل تُذكر في مصر عبر الأجيال، بفضل منام أتاه، ولا طبعاً أن يُقاسم الزعماء والرؤساء والملوك بوضع صورته على عملة البلاد.
ولكن هذا ما حصل مع إدريس عثمان، خادم الأمير فؤاد (الملك فؤاد في ما بعد 1917–1936)، وأطلق الشعب على الجنيه الذي اتُّخذ قرار بإصداره في الرابع من تموز/ يوليو 1924، وطُبع عام 1926، لقب "جنيه الفلاح"، وكل ذلك جرى لأنه تنبأ للأمير بحكم مصر.
"شخص غريب لا يعرفه أحد"
"كانت على الجنيه صورة شخص غريب لا يعرفه أحد، فلاح مصري، لونه يحمل سمرة الجنوب، ولحيته يخالطها الشيب، على رأسه عمامة، واعتقد الجميع أنها صورة للفلاح المصري الذي طالما وهب الحياة لهذا الوادي، وأن هذا اعتراف متأخر بالجميل، جاء من أرومة ألبانية تركية طالما امتصت دمه، ولكن الأمر كان أبعد ما يكون عن ذلك". هذا ما كتبه الدكتور محمد المنسي قنديل في كتابه "لحظة تاريخ 30 حكاية من الزمن العربي".
يحكي قنديل بداية القصة: "عندما رفض الأمير كمال حسين الدين تولي عرش مصر خلفاً لوالده (حسين كمال 1914–1917)، كانت سفينة الأمير فؤاد تستعد لدخول ميناء الإسكندرية، كان ما يشغله هو كيف يتسلل إلى المدينة دون أن يعرف أحد أنه كان مسافراً في أدنى درجة بالسفينة، وهو أمير وشقيق لسلطان مصر. كان قد أفلت من روما ومن ديون القمار، ومن الراقصات اللواتي كتب لهن شيكات بلا رصيد. العشرون عاماً التي قضاها متسكعاً في أوروبا قادته إلى الإفلاس".
في السياق ذاته، يروي مكاوي سعيد، في مؤلفه "القاهرة وما فيها"، تفاصيل الواقعة بقوله: "إدريس الخادم النوبي كان تابعاً لأمير مقامر وعربيد من الأسرة المالكة هو الأمير فؤاد، وكان العرش بعيداً عنه تماماً، فالسلطان حسين كامل كان حاكم مصر آنذاك وله وريثان للعرش هما: ابنه كمال الدين، والأمير عبد المنعم ابن الخديو عباس، حاكم مصر السابق، وكان فؤاد أيامها في إيطاليا يمارس مجونه ونزقه، وخسر كل الأموال التي كانت بحوزته هناك في لعب القمار، واضطر للعودة إلى مصر كي يفلت من الديون".
"رأيتكم يا أفندينا على عرش قصر عابدين"
على متن السفينة، اقترب إدريس الأقصري من الأمير فؤاد، وبادره بالقول: "يا أفندينا لقد رأيت رؤيا أريد أن أقصها عليكم". لم يلتفت إليه. كان ما في داخله من هموم أكبر من الاهتمام بحلم تافه لفلاح من الجنوب. ولكن الخادم العنيد أصر على مواصلة الكلام: "لقد حلمت أنك أصبحت ملكاً لمصر"، وفقاً لما ذكره المنسي قنديل.
ويستمر المؤلف في سرد الرواية: "انتبه فؤاد فجأة، كان يعرف أن السلطان مريض، ولكن هناك وريثاً ينتظر العرش، وفوق ذلك، هناك في الأسرة مَن هم أكبر منه سناً وأكثر نفوذاً، لكن إدريس عاد يلح بالقول: ‘رأيتكم يا أفندينا وأنتم تجلسون على عرش قصر عابدين، ورأيت رشدي باشا الوزير الأكبر وهو يقبل أياديكم، وكل الأمراء وعلى رأسهم الأمير عبد المنعم جميعهم ينحنون أمامكم’".
وبحسب قنديل، لم يصمت الأمير فؤاد هذه المرة، ولكن صاح في إدريس: "اصمت"، وبينما هما كذلك دخلت السفينة إلى الميناء، وظلت كلمات الأقصري تطن في أذنيه، توقظ داخله أمنية مستحيلة، وقال وهو يضحك في جفاف: "لقد كبرت وخرفت يا إدريس".
ويطلعنا مؤلف كتاب "لحظة تاريخ 30 حكاية من الزمن العربي" على اللحظات التي تلت ذلك، وكانت تحمل بشرى بتحقيق الحلم: "استعدّا للنزول من السفينة، وما إنْ خرجا من بوابة الميناء حتى وجدا بائعاً صغيراً يحمل جريدة المقطم الداكنة الأوراق، وهو يصيح بأعلى صوته: اقرأ آخر خبر، الأمير كمال الدين حسين يتنازل عن العرش... اقرأ المقطم".
"كانت على الجنيه صورة شخص غريب لا يعرفه أحد، فلاح مصري، لونه يحمل سمرة الجنوب، ولحيته يخالطها الشيب، على رأسه عمامة، واعتقد الجميع أنها صورة للفلاح المصري..."
ويشير مكاوي سعيد إلى أن هناك رواية أخرى لقصة الخادم والأمير، لكنها دارت على متن السفينة أيضاً. كتب: "أراد إدريس التسرية عنه (الأمير فؤاد) بقراءة كفه كالمعتاد، لكن فؤاد صرفه بغلظة، وألح إدريس حتى وافق الأمير، وتفحص كفه ثم قال له: ‘أبشر لقد رأيت أنك ستكون ملك مصر والسودان وستلبس التاج وتجلس على العرش بقصر عابدين’، سخر منه فؤاد وصرفه ثم رق له وأبلغه بأن ذلك لو حدث فسيكافئه مكافأة كبيرة".
ويكشف قنديل أيام الأمير الأولى في القاهرة: "ظل فؤاد حبيس كآبته، وبدأ يرمق إدريس في عداء، ولكنه لم يكن يعلم ما يدور في الخفاء، وهو أن طلب الأمير عبد المنعم قد رفض، وأن كمال الدين حسين غادر مصر بصحبة زوجته الثانية، لذا كان غريباً بالنسبة إليه أن يستيقظ في الصباح ليجد دعوة لمقابلة اللورد وينجت (ريجنالد وينغايت)،
المندوب السامي الحاكم الحقيقي لمصر".
حلم إدريس يتحقق... وفؤاد يطلق عليه لقب "البكوية"
ذهب الأمير فؤاد للقاء اللورد، ويصف المنسي قنديل المشهد بقوله: "توقف مذهولاً أمام اللورد، لم يطلب منه الجلوس، ولكنه قال بلهجة عسكرية صارمة: ‘سنقوم بدفع كل ديونك’، ولهج الأمير بالشكر، ثم قال له الأول: ‘لقد اختارتك حكومة صاحب الجلالة لتكون ملكاً على مصر، أعتقد أنه عرض مناسب لك، لا تعلن هذا الأمر حتى يموت السلطان، وعليك أن تلتزم بالأوامر التي سوف نوجهها إليك’".
وبحسب المؤلف، انصرف الأمير الذي أصبح ملكاً وهو مذهول. لم يتفوّه بكلمة واحدة إلا بعد أن عاد إلى بيته. وجد إدريس يصلي الظهر. ظل واقفاً حتى فرغ من الصلاة، وهتف به: "انهض يا إدريس بك، لقد تحقق حلمك الغريب، وسوف تكون صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي".
عاد الأمير فؤاد الذي أصبح ملكاً إلى بيته مذهولاً. وجد خادمه إدريس يصلي الظهر. ظل واقفاً حتى فرغ من الصلاة، وهتف به: "انهض يا إدريس بك، لقد تحقق حلمك الغريب، وسوف تكون صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي"
في السياق ذاته، يقول مكاوي سعيد: "بمجرد سماع الأمير هذا الخبر ذهب إلى قصره وسأل عن إدريس واستدعاه ثم أشار إلى المقعد وقال آمراً: اجلس يا إدريس بك، وكان هذا أول لقب رفيع يمنحه فؤاد بعد توليه الحكم، ووضع صورته على أول عملة تصدر، وهو جنيه شهير جداً يظهر عليه وجه إدريس الأسمر المجعد".
ويشير كتاب "ذاكرة مصر المعاصرة" الصادر عن مكتبة الإسكندرية إلى جنيه إدريس بقوله: "صدر في عهد الملك فؤاد أول عملة مصرية تحمل صورة شخص، هو عم إدريس، وهي العملة التي أطلق عليها عامة الشعب ‘جنيه الفلاح’".
رواية أخرى أقرب إلى التصديق
يكشف صاحب "القاهرة وما فيها" أن هناك رواية أخرى لقصة الأمير والخادم، بعيدة عن السفينة: "هذه الحكاية لها رواية أخرى، أن إدريس كان حارساً على إحدى الجناين الخاصة بالسلطنة، وقت أن كان فؤاد سلطاناً على مصر، وأثناء نوبة حراسته للجناين نام وحلم بأن فؤاد صار ملكاً للبلاد، ولما استيقظ من نومه ذهب وحكى منامه له فضحك وقتها وقال له: ‘إذا تحقق حلمك سوف أجعل اسمك يتردد بين مصر والسودان’، الذي كان سلطاناً عليهما، بعدها بالفعل صدر المرسوم بتنصيب السلطان فؤاد ملكاً لمصر والسودان، ونفّذ وعده لإدريس وجعل صورته على الجنيه".
ويرى المؤلف أن الرواية الثانية هي الأقرب للتصديق: "لأن الأمير فؤاد نُصّب على مصر في الفترة من 1917 حتى 1922، وأصبح ملكاً على مصر عقب استقلال مصر عن تركيا في 15 مارس (آذار) 1922، وجنيه إدريس صدر بالفعل في عام 1926".
إدريس بك... الرجل الأقوى في القصر الملكي
لم يطلق على إدريس الخادم لقب "بك" وفقط، ولكن أصبح صاحب سلطة كبيرة في القصر الملكي، طالت سيدة القصر الملكة نازلي، زوجة الملك فؤاد. يشير رشاد كامل في مؤلفه "الملكة نازلي غرام وانتقام" إلى ذلك بقوله: "إن تصرفات الملك فؤاد ومحاصرته للملكة نازلي أصبحت تضايقها، فأمسكت بأوراق وقررت أن تشكو عليها كل ما يضايقها ويزعجها من زوجها".
ووفقاً لكامل، اختارت رئيس الوزراء آنذاك إسماعيل صدقي، لترسل له هذه الشكوى، وجاء في خطابها إليه: "وأصبحت بلا خادمة، خاصة أن الآغا إدريس يطرد بمكر ودهاء جميع الخياطات اللواتي يحضرن لي موديلات الشتاء، دون أن يكلف نفسه بإخباري بحضورهن!، مؤكدة: "إن موضوع إدريس يصعب احتماله".
ويقول مصطفى أمين في كتابه "من عشرة لعشرين": "كان الملك فؤاد تحت نفوذ خادمه إدريس بك الذي أنعم عليه برتبة الباشوية، وأصبح أقوى رجل في القصر، أقوى من رئيس الديوان الملكي، وكبير الأمناء، وكثيراً ما كان هؤلاء يتلقون أوامرهم منه".
وفي كتابها الصادر عام 2019، بعنوان "النشاط الاقتصادي والاجتماعي للنوبيين (1805- 1923)"، تقول حليمة النوبي: "حاز إدريس على احترام الملك واهتمامه؛ فعيّنه رئيساً للخدم في القصر، ومنحه لقب (بك)، ليكون أول خادم يحوز على هذا اللقب في التاريخ المصري، وكان حريصاً على تقوية مركز أبناء بلدته".
بعد رحيل الملك فؤاد عام 1936، بدأت الملكة نازلي تتحرر وتتخلص من سجنها، ومن كل ما حجبها عن التمتع بحياتها. في مؤلفه "الملك أحمد فؤاد الثاني الملك الأخير وعرش مصر"، يقول الصحافي عادل حمودة "إن نازلي خرجت من سجن زوجها بعد وفاته، وسعت إلى التخلص من مراكز القوى في القصر، كان على رأسهم رجل نوبي، كان يتمتع بذكاء خطير مكّنه من أن يدير الأمور حسب هواه، هو إدريس عثمان، شماشرجي (مساعد) الملك، وقد جمع ثروة هائلة، وجعل بلدياته قوة لا يستهان بها في القصر".
رواية ثالثة.. إدريس ليس خادماً للأمير فؤاد!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقع الملك فاروق على الإنترنت ذكر رواية أخرى عن علاقة وحكاية الأمير فؤاد والخادم: "بدأت حكاية إدريس مع الجنيه في إحدى الحفلات التي كان يقيمها أحد علية القوم في مصر، والذى أحضر إدريس للحفل ليس كمدعو بل كـ‘نمرة’ لتسلية الحاضرين، حيث كان يقوم بقراء أكفة الحاضرين، وفي الحفل تقابل مع أحد أمراء الأسرة العلوية وقرأ له كفه، وأخبره بأن طالعه ينبأ أنه سيكون ملكاً على مصر والسودان، فسر الأمير جداً، وأخبره بأنه إذا حكم مصر سيضع صورته على الجنيه".
ويضيف الموقع: "هذا الأمير هو الملك فؤاد، وحين تحققت نبوءة إدريس وفى بوعده له، ووضع صورته على الجنيه، وسمي ‘جنيه الفلاح’"، مؤكداً أنها "أندر وأغلى عملة مصرية، فثمنها يساوى عشرات الألوف من الجنيهات، وهي حلم لكل هواة جمع العملات القديمة".
وفي رواية أخرى، تحت عنوان "جنيه الفلاح والجنيه أبو جملين"، روى ياسر قطامش في كتابه "فنجان قهوة مع أفندينا" رواية مختلفة مفادها أن إدريس هو "رجل عجوز كان يعمل جنايني في سراي الملك فؤاد، ورأى في المنام أو تنبأ لفؤاد عندما كان أميراً صعلوكاً أن يكون ملكاً، ويقال إنه سمع عن مؤامرة لاغتياله فأبلغه بها ونجا، وكانت المكافأة هي وضع صورته على الجنيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...