شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رسالة إلى صديقي القط مشمش: لا تحزن، إنهم بشر

رسالة إلى صديقي القط مشمش: لا تحزن، إنهم بشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 26 فبراير 202101:06 م

لم أكن أعرف أن الوحدة قاسية للغاية إلا عندما اختبرتها للمرة الأولى منذ عامين تقريباً. حين انتقلت للعيش بمفردي كان لديَّ مخططات عظيمة: قائمة من الكتب في انتظار القراءة، قائمة أخرى في حاجة للكتابة، أفلام بلا حصر عليَّ مشاهدتها. رغم هذا بقت الوحدة سيدة الموقف.

لم تستطع تلك الإبداعات بشخوصها وعوالمها المختلفة أن تبدد فراغ الوحدة... الرغبة في المشاركة، مبادلة الحديث، وربما تحمّل مسؤولية شخص آخر. كلها احتياجات إنسانية لا يمكن العيش بدونها.

قديماً كنتُ أعتقد أن العزلة هي راحة البال، وهي أيضاً قدر الكاتب في النهاية. غير أنني اكتشفت أن الوحدة عقاب قاسي، قاسي جداً. لعل ذلك ما جعل من الزنزانة الانفرادية جحيم حقيقي يواجهه أي مسجون... كنت أتساءل: "لماذا يُعاقب المسجون بالزنزانة الانفرادية؟ أليست أفضل من معاشرة اللصوص والبلطجية؟". ليست أفضل بكل تأكيد، الوحدة هي القتل البطيء، بل هي موت للموت كما صورها نجيب محفوظ في "ملحمة الحرافيش"، كان جلال بن زينات الشقراء – أحد شخوص الملحمة- يسعى نحو الخلود وعليه استعان بشاور العراف الذي نصحه بالعزلة لمدة عام كامل. يصف محفوظ تلك الأيام على لسان الراوي: "عاشر الزمن وجهاً لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله. إنه شئ عنيد ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم وغير محتمل".

تلك العبارات جاءت كوصف دقيق للحالة التي عيشتها بمفردي، وللخروج من تلك الحالة اعتدت الذهاب لزيارة شقيقتي التي تسكن بالقرب مني، وكان لديها قط "بلدي" جميل أطلقت عليه الاسم (مشمش) ولهذا القط حكاية.>. فقد التقطته من سلالم العمارة بعدما ماتت والدته وهو لا يزال رضيعاً، فوفرت له الحماية والأمن، وعلمته فأحسنت تدريبه، وتعامل أطفالها معه على كونه عضواً جديداً في العائلة، فبادلوه المحبة والرعاية. غير أن أحد الجارات أخبرتها بأن هذا القط سيكون سبباً في عدم إنجاب ابنتها الكبرى، لذلك قررت أن تتخلص منه، وأن تبحث عن شخص يتكفل به، وكنتُ أنا هذا الشخص.

لم أحب القطط يوماً، ليس بسبب الأساطير التي نُسجت حول هذا الحيوان. ولكن، لأنه معروف عنه بأنه ناكر للجميل، ومن أجل تلك الخصلة تحديداً حذفت من حياتي علاقات كثيرة... فكيف لي الآن أن أدخل بيتي كائن اشتهر بتلك الصفة غير الحميدة؟

لم أحب القطط يوماً، ليس بسبب الأساطير التي نُسجت حول هذا الحيوان. ولكن، لأنه معروف عنه بأنه ناكر للجميل، ومن أجل تلك الخصلة تحديداً حذفت من حياتي علاقات كثيرة... فكيف لي الآن أن أدخل بيتي كائن اشتهر بتلك الصفة غير الحميدة؟

غير أن مشمش مختلف حتماً عن الجميع... في ليلتنا الأولى معاً ظل طوال الليل واقفاً أمام باب بيت الشقة حزيناً ومتلهفاً للخروج، للعودة إلى بيته الأول، حتى أنه رفض الطعام والنوم، وكنتُ قررت وقتها أن أعود به في اليوم التالي إلى بيته – أو بمعني أوضح بيت شقيقتي- ولكنه في الصباح، يبدو أنه استسلم لمصيره فتناول إفطاره ثم بدأ اللعب: كرة صغيرة ومرح طوال النهار. بهجة صافية تقتحم قلبي وتقتل وحدتي، كأنه طفل في عامه الثاني يكتشف عالمه الجديد، وكأنني عدتُ أباً مجدداً، فعكفت على تدريبه لاستخدام الحمام في مكانه المخصص، وتناول الطعام دون أن يسحبه خارج طبقه.

من الصعب أن تتعامل مع كائن لا يجيد الكلام أو التعبير عما بداخله، وهو أمر ممتع أيضاً، لأنك ستحاول دائماً أن تستنبط ما يريده سواء عن طريق لغة الجسد التي أصبحت مع الوقت أجيدها تماماً. أو في توقع معرفة احتياجاته... فمثلاً إذا أراد اللعب تمسح في ساقي ثم ينبطح أرضاً ويتدحرج فأدرك أنه يرغب في بعض المداعبات. أما إذا وقف أمام طبقه الفارغ فهذا يعني أنه جائع... أما نومه المفضل ففي حضني، يتشبث بصدري أو يجلس على حجري ثم يدخل في نوم عميق.

العلاقة بين الإنسان والحيوان قديمة جداً، ربما ترجع إلى العصر الحجري، لعل ذلك عقب اكتشاف النار، كنت أعرف أن أول صداقة بين الإنسان والحيوان كانت بالكلاب، خاصة كلاب الصيد، بعدها جاءت الأحصنة ثم باقي الحيوانات مع اكتشاف الزراعة، كل هذه العلاقات مبينة في الأساس على المنفعة، الترويض والتسخير من أجل العمل. باستثناء القط الذي كان له مكانة خاصة في كل الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة الفرعونية، تقريباً هي صداقة بلا منفعة مادية تُذكر... وهكذا تكون الصداقات الحقيقية.

ومشمش أصبح صديقي بالفعل، ينتظرني بشوق مبالغ حين أغيب عنه، وأحياناً يعاتبني ويرفض اللعب معي إذا أغضبته، ومع الوقت توصل لطريقة لمعاقبتي، حين أكون متضايقاً أو ثائراً منه يخدش المفارش والسجاد، هو مدرك أن ذلك الفعل يضايقني أكثر. غير أنني أفهم من حركته تلك أنه يريد عناية من نوع خاص، ربما حضن.

أحياناً كثيراً أتأمله وهو مشغول بعالمه، يطارد حشرة طائرة أو يلف حول نفسه، وأفكر في الطريقة التي ينظر بها للحياة من حوله، وعيه. أي وعي يمتلك؟ منذ أكثر من عام عزمت على كتابة رواية بعنوان الكلب، وكانت الفكرة تدور حول حياة كلب بلدي يعيش في شوارع القاهرة. فشلت المحاولة، لم أستطع أن أفكر بوعي الكلب، وبالطبع لا أستطيع أن أفكر بوعي القط، قطي مشمش. ولكني أعرف جيداً ما يحتاج له، قد أحقق له هذا الاحتياج وقد لا.

إنها العنصرية التي تجاوزت البشر فيما بينهم لتمتد إلى الحيوانات، لا يكفي أنه ضحية دولة لا تعتني بالحيوانات، وأنه فريسة لأساطير جعلت منه شيطاناً ومسكوناً بالأرواح السبع أو على أقل تقدير ناكر للجميل، بل شمل الأمر للاضطهاد من أجل الأصل

منذ أشهر قليلة مثلاً طرأت عليه تغييرات مريبة، يحتك بالوسائد، ويموء بصوت حزين، ويبدو أن مزاجه غير رائق دوماً. استشرت صديق من أصحاب الخبرة فأخبرني بأن مشمش في موسم التزاوج، وأنه يرغب في أنثى... ومن منا لا يرغب في أنثى؟ واقترح عليّ صديقي أن أوفر له تلك الأنثى عن طريق محلات بيع الحيوانات الأليفة. لقد كبر ابني وصار عريساً وكان عليّ كأي أب بار أن أقف إلى جواره. خاصة وأنها تجربته الأولى. غير أن صاحب المحل طعنني – وطعن قطي أيضاً- في مقتل. قالها صراحة: "لا أحد يرغب في تشويه سلالة قطه... قطك بلدي ولن يرضي أي أحد من أصحاب القطط أن ينتج ذرية مخلوطة".

الحمد الله أن مشمش لا يفهم معظم كلمات البشر. إنها العنصرية التي تجاوزت البشر فيما بينهم لتمتد إلى الحيوانات، لا يكفي أنه ضحية دولة لا تعتني بالحيوانات، وأنه فريسة لأساطير جعلت منه شيطاناً ومسكوناً بالأرواح السبع أو على أقل تقدير ناكر للجميل، بل شمل الأمر للاضطهاد من أجل الأصل. قال صاحب المحل: "لو قطك كان شيرازي مثلاً لكنت زَوَجتَهُ الآن" ،أما لكونه قطاً بلدياً فلا يجاوز له سوى البحث عن شريكة من فصيلته، أن ألتقط له قطة من الشوارع. يا لها من مأساة أخرى.. لا تحزن يا مشمش، فأنت كصاحبك منبوذ ووحيد... وليس لنا شريك أو جليس غيرنا يا صديقي المخلص.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image