في عام 1943، جلس رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، في السفارة السوفيتية في طهران، مقابل الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، والرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت. إضافة لكونه سياسي محنّك، كان تشرشل رساماً ماهراً وكاتباً شغوفاً وصحفياً ومؤرخاً أيضاً، مُدركاً تماماً لقيمة وأهمية القرطاس والقلم. نظر إليهما وقال مبتسماً: "التاريخ سيكون رحيماً معنا، أتعرفون السبب؟".
ردّ الرجلان بالنفي، فقال لهما: "لأني أنوي أن أصنعه وأكتبه بنفسي".
"التاريخ سيكون رحيماً معنا، أتعرفون السبب؟"... المنتصرون في الحروب يكتبون التاريخ من وجه نظرهم الشخصية بغض النظر عن حقيقتها ومدى مصداقيتها، ورؤساء الدول يكتبون مذكراتهم لتخليد وجهات نظرهم، فماذا كتب الرؤساء العرب؟
هكذا يفعل عادة المنتصرون في الحروب، حيث يكتبون التاريخ من وجه نظرهم الشخصية، بغض النظر عن حقيقتها ومدى مصداقيتها. وهكذا فعل معظم رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، حيث يوجد عرف قديم وغير مكتوب، يُملي على كل رئيس منتهية ولايته أن يضع أوراقه الرسمية ومراسلاته تحت تصرف الحكومة الفيدرالية، ليتم جمعها في مكتبة تحمل اسمه، ثم يكتب مذكّراته عن السنوات التي قضاها في البيت الأبيض. اثنان فقط لم يفعلا ذلك، وهما الرئيس روزفلت الذي توفي وهو في سدّة الرئاسة عام 1945، والرئيس جون كينيدي الذي اغتيل وهو على رأس عمله سنة 1963.
دُفع للرئيس باراك أوباما وزوجته مبلغ وقدره 65 مليون دولار أميركي لكتابة مُذكراتهما، وهو يفوق بأضعاف المبلغ الذي تقاضاه الرئيس بيل كلينتون لكتابه الشهير "حياتي" الصادر عام 2004. الرئيس أوباما كان كاتباً محترفاً قبل أن يصبح رئيساً، مثله مثل تشرشل، وهو يعرف كيف يفاوض دور النشر، فكتاباته ما قبل الحكم حققت مبيعات خيالية تجاوزت الأربعة ملايين نسخة عالمياً، مثل الرئيس جيمي كارتر الذي وضع 51 كتاباً في حياته المديدة، وخلال وجوده في البيت الأبيض وما بعده.
مُذكّرات رؤساء السورية
خلال سنواته خارح الحكم، وضع الرئيس السوري شكري القوتلي مُقدمة لكتابين صغيرين سقطا من التداول والطبع مع مرور الأيام، بالرغم من وجود اسمه الكبير على غلافهما. كان الأول للصحفي سعيد التلّاوي بعنوان "كيف استقلت سورية"، صدر في دمشق سنة 1951 عندما كان القوتلي منفيّاً في مصر. وافق القوتلي على كتابة المقدمة نظراً لقرب الموضوع لقلبه، لكونه أحد أبطال ذلك الاستقلال، ولأن التلّاوي كان صحفياً مرموقاً، عَمل معه خلال فترة حُكمه الأولى (1943-1947) وكان يدير صحيفة وطنية محترمة تدعى "الفيحاء". وجاءت المرة الثانية سنة 1960، بعد استقالة القوتلي من رئاسته الثالثة، عندما قدّم لكتاب "55 ألف كيلو متر على دراجة نارية"، للرحالة السوري عدنان تللو، ابن حسني تللو، صديق الرئيس القوتلي وأحد شركاء نضاله ضد الاستعمار الفرنسي.
وفي عام 1951، وضع الرئيس أديب الشيشكلي مُقدمة لمذكّرات المحامي فتح الله صقّال، التي نُشرت في مصر عن فترة تواجده في وزارة حسني الزعيم.
وبهذه المُقدمات الثلاث ينتهي النتاج الأدبي لرؤساء سورية العشرين، الذين لم يتركوا مذكّرات أو أوراقاً تُجمع. وحدهما الرئيسان شكري القوتلي وناظم القدسي تركا مذكّرات صوتية مسجّلة لدى عائلتيهما، لم تجد طريقها إلى النشر حتى اليوم.
مذكّرات عربية
يختلف هذا الحال عن الكثير من أقرانهم في العالم العربي، مثل ملوك الأردن مثلاً، الذين دونوا مذّكرات سياسية، إبتداء من الملك المؤسّس عبد الله بن الحسين وصولاً إلى الملك الحالي عبد الله الثاني. المشكلة هنا أن كلاً من الملك حسين ونجله كتبا وهما في منتصف المسيرة، دون انتظار خريف العمر وما يأتي معه من نضج وحكم وتأملات. فالحسين بن طلال وضع كتاب "مهنتي كملك" وهو في نهاية العشرينيات من العمر، أي قبل حرب عام 1967 وأحداث أيلول الأسود المفصلية في عهده الطويل.
كذلك فعل معظم رؤساء لبنان، من الشيخ بشارة الخوري حتى أمين الجميّل، الذي نشر مذكّراته مطلع هذا العام، وهو ما يزال قطب من أقطاب السياسة في لبنان. وفي مصر هناك مذكّرات قيمة لكلّ من الرئيس محمد نجيب والرئيس محمد أنور السادات، إضافة لكُتيّب صغير للرئيس جمال عبد الناصر بعنوان "فلسفة الثورة"، قام بتحريره ونشره الصحفي محمّد حسنين هيكل سنة 1954. كتاب اللواء نجيب وُضع خلال سنوات العزل والإقامة الجبرية في فيلا زينب الوكيل، حرم النحّاس باشا، أما مذكّرات الرئيس السادات، والتي حملت عنوان "البحث عن الذات" فقد كُتِبت وهو في نشوة اتفاقية كامب ديفيد، عندما كان الغرب يغازله أشد غزل قبل مقتله بثلاث سنوات، وهي تهدف إلى خدمة رواية السادات عن ذاته، بدلاً من الحقيقة الكاملة.
رؤساء الحكومات السورية كتبوا
ولكن عدداً من رؤساء وزراء سورية كتبوا شهاداتهم للتّاريخ، أمثال جميل مردم بك ولطفي الحفّار وفارس الخوري ومحسن البرازي وخالد العظم وبشير العظمة ومعروف الدّواليبي. جُمعت أوراق مردم بك والحفّار من قبل ابنتيهما، الراحلات سلمى مردم بك وسلمى الحفار الكزبري، وقامت الأديبة كوليت خوري بجمع أوراق جدّها فارس الخوري بعد رحيله، في ثلاثة أجزاء حتى الآن، صدر آخرها عام 2018. أما محسن البرازي، فقد جُمعت بعض أوراقه من قبل الدكتورة خيرية قاسمية، أستاذة التاريخ في جامعة دمشق، التي كان لها الفضل الكبير أيضاً في جمع أوراق الأخوين نبيه وعادل العظمة، وقائد جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي.
ومُذكرات معروف الدواليبي سُجّلت من قبل الباحث السوري المقيم في السعودية عبد القدوس أبو صالح، الذي جالس الدواليبي ودوّن كل ما لديه بين الأعوام 1987-1993، ليقوم بنشرها بعد رحيال الدواليبي عام 2005. يبقى الدكتور بشير العظمة الوحيد بين رؤساء الحكومات السورية الذي دوّن مذكراته بنفسه ونشرها في حياته عام 1990. ولعلّ أشهر تلك المذكّرات وأكثرها انتشاراً وسمعة هي مذكّرات الراحل خالد العظم، بأجزائها الثلاثة، ولكنّ الرّئيس العظم توفّي قبل إكمالها وتابعت زوجته المهمّة بعد غيابه، بما يروق لها ويُسعف ذاكرتها. وأخيراً كانت مذكّرات حسني البرازي، رئيس وزراء سورية خلال الحرب العالمية الثانية، التي سُجلت أيضاً على كاسيت قبل رحيله عام 1975، وحفظت في أرشيف الجامعة الأميركية في بيروت، حيث من المفترض أن تنشر في العام المقبل، بعد ستة وأربعين سنة على وفاته.
مذكّرات حكام العراق
تُعاني المكتبة العربيّة بالعموم من ضعف في المذكّرات السياسية، لأن معظم القادة ماتوا نفياً أو شنقاً أو رمياً بالرصاص، قبل أن يتمكنوا من كتابة مذكّراتهم. ومن وضع مذكّرات من القادة العرب كانوا حكام بلاد مستقرة نسبياً، مثل الإمارات والأردن، وهي التي لم تعصف بها الثورات والانقلابات المتكررة. فمعظم أوراق العهد الملكي في مصر ضاعت على يد الضبّاط الأحرار الذين وصلوا إلى الحكم سنة 1952، فيما ضاع أرشيف حكّام كل من بغداد ودمشق في فوضى الانقلابات العسكريّة المتلاحقة منذ عام 1949.
وفي بعض الأحيان يعود ذلك إلى تقصير من قبل الحكام أنفسهم، كما كان الحال مع الملك فاروق مثلاً، الذي فضّل حياة السهر واللهو خلال السنوات الثلاث عشرة التي عاشها في المنفى بعد عزله من العرش 1952. في المقابل، قام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني باستغلال أوقات الفراغ القاتلة خلال الإقامة الجبرية ما بعد الحكم، بممارسة هوايته المُفضّلة بصناعة المفروشات وتدوين مذكّراته السياسية. لم يترك أي من ملوك العراق أي مذكّرات، ففيصل الأول مات فجأة في سويسرا، وابنه الملك غازي مات شاباً في حادث سير قيل إنه كان مُدبراً، أما حفيده الملك فيصل الثاني فقد ذُبح مع كافة أفراد أسرته سنة 1958.
لو ركز صدام على صناعة التاريخ وكتابته كما فعل تشرشل، مُستفيداً من ثروة بلاده الطائلة وعلمائها وأدبائها الكبار، لكان حقق إنجازاً يُذكر له ويحفظ للتاريخ بدلا من الـ13 كتاب التي فرضت فرضا على الشعب العراقي
وكذلك كان الحال مع من خلفهم من الرؤساء، عبد الكريم قاسم مات مقتولاً، وعبد السلام عارف قضى بحادث تحطم طائرته، وعبد الرحمن البزاز خُلع وسُجن، أما صدام حسين، فقد شُنق نهاية عام 2006، ولكنه قام وخلال سنوات حكمه الطويلة بوضع 13 كتاب، فُرضت فرضاً على أبناء الشعب العراقي، جاءت مواضيعها في أمور مختلفة، من التاريخ والاستراتيجية العسكرية ووصولاً إلى فنون القتال والأدب. بعضها كان جاداً في طروحاته والآخر كان مُضحكاً، مثل رواية "اخرج منها يا ملعون" التي من الممكن أن يكون صدام قد استوحى عنوانها من عناوين صديقه العقيد مُعمّر القذافي الرنانة. فلصاحب "الكتاب الأخضر" عدة مؤلفات بعناوين غريبة وعجيبة، مثل "القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء".
لو ركز صدام على صناعة التاريخ وكتابته كما فعل تشرشل، مُستفيداً من ثروة بلاده الطائلة وعلمائها وأدبائها الكبار، لكان حقق إنجازاً يُذكر له ويحفظ للتاريخ، بدلاً من تلك المؤلفات السخيفة. ولكن ويا حسرتاه على هذه الأمة، رجالها وحاضرها ومستقبلها...ومذكّراتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون