كأنما هي قصة هاربة من عمل درامي، كُشف هذا الأسبوع عن تجسس أحد كبار العلماء العسكريين السوريين لمصلحة وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA على مدار 14 عاماً، نقل فيها معلومات "تفصيلية وذات صدقية" عن برنامج الأسلحة الكيماوية السوري الذي كان أحد قادته.
القصة التي كشفت عنها صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية للمرة الأولى هذا الأسبوع، تعود بداية فصولها إلى العام 1988، حين طلب "عالم بارع وموهوب" من صديق له أن ينقل عنه رسالةً إلى أقرب سفارة أمريكية خلال حضوره مؤتمر علمي في أوروبا. وتتكشف خيوط القصة في مؤلّف جديد بعنوان "الخط الأحمر" يصدر في الولايات المتحدة، ويستند إلى مقابلات مع ثلاثة مسؤولين سابقين في المخابرات الأمريكية على دراية بالقضية، علاوةً على عالم سوري منشق عاصر ذلك العالم.
وضع مثالي للتجسس
طلب العالم السوري الذي درس في أمريكا مدة من الزمن، واكتسب لكنةً أمريكيةً مميزة، العمل كـ"جاسوس" لحساب المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) واعداً بالإدلاء بتفاصيل برنامج الأسلحة الكيماوية السورية الذي كان يعمل فيه. مرت أشهر عديدة قبل أن تتواصل CIA معه.
أحد أسباب مرور تلك المدة الطويلة، كان شك المخابرات الأمريكية في الطلب، بسبب أن "الرجل كان فخوراً جداً بعمله الاحترافي: صناعة المواد الكيماوية المصممة لقتل البشر". ولهذا، ظنّ بعض مسؤولي المخابرات الأمريكية أحياناً أن تجسسه لم يكن مدفوعاً بكراهية النظام السوري أو الجشع، بقدر ما كان بدافع التباهي.
أذهلت معلوماته المخابرات الأمريكية… قصة العالم السوري الذي تباهى بعمله في تطوير الأسلحة الكيميائية الفتاكة، والتحذير الذي أرسله لإسرائيل عبر أمريكا
مع ذلك، كان " الكيميائي" في وضع مثالي للتجسس، فهو يعمل في وظيفة تمنحه امتيازات لا تُمنح للسوريين العاديين، بما في ذلك مجال واسع للسفر والالتقاء بالأجانب في الأسواق المزدحمة والمقاهي المليئة بالدخان في المدينة القديمة.
بدا الرجل غير متفاجئ حين اقترب منه شخص غريب بعد إحدى محاضراته المسائية في جامعة دمشق. قال الكيميائي للزائر، وكان ضابطاً عشرينياً في CIA: "كنت أنتظرك... نادني أيمن". منذ ذاك الحين وعلى مدار 14 عاماً، أخبر الجاسوس وكالة CIA، التي علمت قلة من مسؤوليها فقط اسمه الحقيقي، الكثير عن برنامج الأسلحة الكيماوية السورية والمواد التي تمتلكها دمشق وأين تم إخفاؤها.
وحُجِب لقب العالم الجاسوس، حتى لا تتعرض عائلته الموجودة في سوريا لبطش النظام.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، تخوّف مسؤولو المخابرات الأمريكية من أن تفقد دمشق السيطرة على مخازنها الضخمة للأسلحة الكيماوية، لا سيما غاز السارين وغازات الأعصاب الفتاكة الأخرى.
معلومات "أكثر من مهمة"
على تلة تطل على العاصمة دمشق، أُقيم مجمع المعامل الشديدة الحراسة حيث أجرت المؤسسة العسكرية السورية تجارب على أسلحة جديدة. كانت أجهزة المخابرات الأجنبية على دراية جيدة بمركز الدراسات والبحوث العلمية المعروف اختصاراً بـCERS، باعتباره مزود القوة الهندسية لخط الصواريخ السورية المتوسطة المدى، والمصممة لاستهداف إسرائيل. لكن "أيمن" أخبر الأمريكيين عن وحدة سرية داخل المركز تسمى المعهد 3000، كان هو نفسه أحد قادتها وكبار الباحثين فيها.
كان عمل الوحدة الأساسي صنع خط من السموم "القاتلة للغاية" بغرض وضعها داخل تلك الرؤوس الحربية. أطلق العلماء على مشروعهم هذا اسم "الشاكوش".
تباهى الكيميائي الجاسوس خلال تقاريره السرية إلى المخابرات الأمريكية بأن "المعهد 3000" تقدم خطوات ملحوظة نسبياً بسبب مساهماته. بدأ برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا بسيطاً، بغاز الخردل، قبل أن يصل الآن إلى فئة أكثر فتكاً من السموم تسمى "عوامل الأعصاب"، أطلقها "المعهد 3000".
ما أرعب الأمريكيين: أنه داخل مختبر عادي، في دولة غير متقدمة يحكمها طاغية ومنبوذة عالمياً؛ أنتج كيميائي سلاحاً ذا جودة مذهلة وبساطة لافتة، عُدّ "تحفة كيميائية مميتة".
تنتج "عوامل الأعصاب" هذه في مصنع تحت الأرض خارج العاصمة السورية، وتمثل أسلحة كارثية، وقد ابتكر السوريون أشكالاً متعددة حتى يتمكنوا من التكيف مع ظروف ساحة المعركة المتغيرة.
استمع ضابط المخابرات الأمريكي إلى هذه المعلومات بعناية خلال استضافة "أيمن" له في منزله. كان جزءٌ من المعلومات معروفاً سلفاً، وهو اهتمام سوريا بتطوير أسلحة كيماوية، لكن مدى تقدم دمشق لم يكن واضحاً.
في تصريحات علنية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ألمح المسؤولون السوريون مرتين إلى "رادع" جديد، هو رد مصنوع في سوريا على القنابل النووية الإسرائيلية.
الزهو بالقتل
لم يُظهر الكيميائي أي تردد في عمله، إذ كان يعتقد أن من حق بلاده تطوير أسلحة تعطيها القدرة على ردع عدوان إسرائيل المجاورة. وشهد معاناة بلاده مرتين، الأولى لدى اجتياح الدبابات الإسرائيلية حدودها الجنوبية عام 1967، حين احتلت تل أبيب مرتفعات الجولان. والثانية خلال حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، عندما طارد جيش الاحتلال الإسرائيلي الكتائب السورية المنسحبة إلى مسافة 25 ميلاً من دمشق.
قال العالم لضيفه الأمريكي إنه من الآن فصاعداً، ستكون الأمور مختلفة، وسيجد الغزاة في المستقبل أنفسهم غارقين في ضباب من الغازات الخانقة، التي ستترك أجسادهم متناثرة عبر الوديان الترابية للحدود الجنوبية الغربية لسوريا، أما الناجون منهم فسيكونون في عداد أول من يرى نفاثات الصواريخ السورية متجهة جنوباً لتُلقن مدن إسرائيل البعيدة نفس الدرس.
كان الكيميائي ينظر بمزيج من الرضا والجدية القاتلة، حين نطق لسانه بنصيحة موجهة إلى العميل الأمريكي: "عليكم أن تحذروا اليهود".
كان "أيمن" يتحدث بزهوٍ خاص حين يتعلق الأمر بغاز السارين. يعتبر السارين قاتلاً مثالياً، كما علم النازيون الذين اكتشفوا المركب دون قصد أثناء اختبار أنواع جديدة من المبيدات الحشرية في ثلاثينيات القرن الماضي.
صُنعُ السارين النقي، هذا النوع الذي صنّعه السوفيات والأمريكيون خلال الحرب الباردة، صعب على بلد صغير لديه قاعدة صناعية متواضعة مثل سوريا. كما أن فاعليته تقل بمرور الوقت. لهذا، ابتكر الكيميائي الجاسوس طريقة عمل ذكية.
كانت حيلته صنع شكل من أشكال السارين الثنائية: سائلين مستقرين يمكن تخزينهما بشكل منفصل، وخلطهما فقط في اللحظة الأخيرة للحصول على النتيجة القاتلة. أحد السائليْن كان كحول الأيزوبروبيل العادي، أما الآخر، فكان مادة الـ"دي إف" السامة.
احتوى هذا السائل الأخير على جميع المكونات الأخرى، بما في ذلك مادة مضافة حصرية ساعد أيمن في اكتشافها، وأدت إلى ضمان احتفاظ السارين بفاعليته طوال الفترة القصيرة بين خلط السائلين واستخدام الغاز الناتج حتى إصابة الهدف.
لعقود، قامت نحو 12 دولة بتصنيع السارين لاستخدامه سلاحاً كيماوياً. لكن أياً منها لم تطور هذه الصيغة التي استخدمتها سوريا.
وربما تمثل هذه المعلومات دليلاً جديداً ضد النظام السوري للرئيس بشار الأسد الذي تتهمه الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمجتمع الدولي باستهداف المدنيين في مناطق معارضة لحكمه بهجمات مميتة من خلال استخدام غاز الأعصاب.
حين نقل الضابط الأمريكي جوهر المحادثات عبر برقية سرية إلى وكالة المخابرات الأمريكية، فكّر رؤساؤه في معلومات الكيميائي بمزيج من "الذهول والقلق" لأنها كانت "تفصيلية للغاية وذات صدقية"، بل ممتازة للغاية. حصل الجاسوس على أموال باهظة مقابل معلوماته، في شكل تحويلات نقدية إلى حساب مصرفي أجنبي، لكنه اشترط على الأمريكيين أن يأخذوا كلامه على محمل الثقة دون مزيد من الأسئلة أو طلب الدليل.
هدية عيد الميلاد… "تحفة كيميائية"
في نهاية كانون الأول/ ديسمبر، منح الكيميائي للضابط الأمريكي المسيحي "هدية عيد الميلاد" وهي طرد محكم الغلق. كان الضابط حذراً ومدرباً جيداً فلم يفتح الطرد واستضاف - في إجراء احترازي - زوجاً من المتخصصين التقنيين في شقته بدمشق للمساعدة في التقييم الأولي.
عقب ارتداء الكمامات والبدلات الواقية، أزال المتخصصان العبوة الخارجية بعناية ليجدا صندوقاً صغيراً فيه أنبوب بلاستيكي مختوم. بداخله، شاهدا سائلاً صافياً. عقب تفاخره ببراعته في صنع غازات الأعصاب المميتة، منح الجاسوس السوري الأمريكيين عيّنةً، ربما من قبيل التدليل على صدق معلوماته طمعاً في مزيد من الأموال.
مرت أيام عدة قبل تحليل السائل، ثم أُعيد تغليف القارورة ووضعها في حاوية مقاومة للكسر، وأخفيت داخل حقيبة دبلوماسية تمهيداً لنقلها جواً إلى أمريكا. لدى وصولها، نُقلت إلى مختبر عسكري ليفحصها العلماء المختصون.
خلّفت نتائج فحص السائل صدمة هائلة في المخابرات المركزية. ما أرعبهم تحديداً أنه داخل مختبر عادي، في دولة غير متقدمة يحكمها طاغية، ومنبوذة عالمياً ومدرجة في القائمة السوداء للقوى الصناعية في الغرب، أنتج كيميائي سلاحاً ذا جودة مذهلة وبساطة لافتة، يُعدّ "تحفة كيميائية مميتة".
منحَ الأمريكيين "تحفة كيميائية مميتة" كهدية "عيد الميلاد"... كيف كشف آصف شوكت الجاسوس الأمريكي؟
نهاية "الخيانة"
استمر عمل الجاسوس السوري سرياً 14 عاماً. تغيرت عليه الوجوه في المخابرات الأمريكية، وابتُكرت طرق جديدة للتواصل معه. كما استمرت التحويلات النقدية إلى حسابه الذي تضخم بفعل الدولارات الأمريكية.
في غضون ذلك، ظل من الناحية المهنية عالماً مُقدراً من أقرانه، ويحظى بإعجاب العلماء الشباب إذ كان يقود فريقاً كبيراً ويتصرف في ميزانية سخية، ويترأس برنامجاً عسكرياً ناجحاً ومقدراً من القادة السوريين، بمن فيهم الرئيس الأسد نفسه.
انقلبت الآية سريعاً حين زاره عدد من رجال الأمن CERS دون سابق إنذار في أحد صباحات عام 2001، وطلبوا التحدث معه ثم اصطحبوه معهم.
تم استجواب "أيمن" في مقر المخابرات السورية، من قبل ضابط رفيع المستوى: آصف شوكت، نائب مدير المخابرات العسكرية وصهر الرئيس. كشف شوكت أوراقه من البداية وقال للعالِم: "ثبتت خيانتك".
وقال شوكت أيضاً للعالم المذعور إن الحكومة تعرف كل شيء عن أنشطته السرية، ونصحه بالاعتراف واعداً بالتساهل معه بسبب سنوات خدمته للبلاد.
اعترف "أيمن" وكشف عن رصيده بالخارج موضحاً أنه عمل بمفرده دون أي دور لزوجتيه أو رفاقه في العمل.
لم يعلن الحكم على "صانع السموم الذي خان بلده" إلى العامة، لكنه قُدِّم تحذير للعلماء الآخرين في CERS كي يعرفوا مصير الخائن.
ولأن وضع "أيمن" الذي كان قد ناهز الخمسين من العمر آنذاك مختلف إذ كان "بطلاً قومياً" قبل أن يصبح "خائناً" تلقى معاملة خاصة. سُمح لزوجتيه وأطفالهما بمغادرة البلاد لبدء حياة جديدة في الخارج. أما هو فأعدم رمياً بالرصاص صباح يوم 7 نيسان/ أبريل عام 2002.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com