"لو كان الأمر بيدي ما كنت خطوت خطوة واحدة داخل ذلك الممر المقبض، فأنا أكره التواجد في أي مستشفى"، يقول عمرو (32 عاماً)، من محافظة دمياط، يعمل هو وأشقاؤه في صناعة الأثاث.
يتذكر عمر جيداً الشعور بالألم وهو في الخامسة من عمره، اللحظة التي كان والده يودع فيها جدته مريضة القلب، ولم يكن يريد أن يكرر التجربة مع أي من أفراد عائلته، ولكنها "تكررت بحذافيرها"، كما يقول، مع أخيه الأصغر المصاب بسرطان المريء، ونظراً لـ"ضيق الحال" لم يستطع عمر أن يلحق أخاه بمستشفى خاص.
مات أخي بلا وداع
"كان كل شيء على ما يرام حتى بدأ شقيقي الأصغر يشعر بآلام رهيبة في أحشائه دون سبب معلوم، وتبين بعد الكشف والتحاليل أنه السرطان، ويجب استئصاله، وببعض التوصيات من موظفين وجدنا مكاناً شاغراً في المستشفى العام، وخلال أسبوع تمت العملية بنجاح".
تناوب عمر وأحد أشقائه على ملازمة أخيه في فترة التعافي بالمستشفى، يقول: "رغم أننا طوال الوقت كنا على بعد خطوات من شقيقنا المريض إلا أننا كنا بالكاد نراه، فالفترة المخصصة للزيارة لا تتعدى ساعة واحدة في اليوم، وغرفة الرعاية بها 8 مرضى، وكانت الزيارة لكل أسرة من أسر المرضى لا تتعدى خمس دقائق، خلال دور متسلسل".
"كنت أعيش مشاعر مختلطة، ما بين إرهاق العمل والقلق على شقيقي الذي أعتبره بمثابة ابني، وتكاليف العلاج باهظة الثمن، وشعوري بأنني لا أقوى على رؤيته أو عناقه في تلك الفترة".
"مات أخي الأصغر بلا وداع، وتركني أعاني الألم، والعجز، وقلة الحيلة، والإحساس بالذنب، مات مثل كل الذين ماتوا في عائلتنا بسبب الأمراض في المستشفيات الحكومية"
بدأ شقيقه المريض تخرج منه ردود أفعال، وصفها فريق التمريض بالجنون، فهو يصرخ يومياً، ويبدأ في تهشيم كل ما يجده أمامه، وهو ممدد على سريره وذلك بسبب الألم الكبير الذي يشعر به، ووصل الأمر بفريق التمريض أنه بات يتركه يصرخ دون حتى أن يقوموا بدورهن في الاطمئنان عليه، "قامت إحداهن يوماً بالحصول على أموال إضافية مني حتى تتركني أزوره، بسبب حالته تم منع حتى الزيارة عنه وكانت هناك شكاوى كل يوم جعلتني أفقد أعصابي وأدخل لشقيقي، وبدلاً من تهدئته أنفجر صارخاً في وجهه أن يكف عن افتعال المشكلات".
"في تلك الليلة لم أكف عن البكاء ثانية واحدة بسبب شعوري بالذنب والألم وقلة الحيلة تجاه شقيقي الذي يتألم، وقمت بتأنيب نفسي كثيراً، وددت أن أدخل له مرة أخرى حتى أطلب منه السماح، وأطمئنه بأنني هنا، ولكن لم يسمح لي بالدخول، ولم يكن معي أموال لدفع رشوى للممرضة حتى تسمح لي بالدخول مرة أخرى".
وفي اليوم التالي كان عمر ينتظر انتهاء عمله، والسماح له بالزيارة الرسمية، ولكن القدر لم يمهله، يقول: "وجدت شقيقنا الثالث يتصل بي هاتفياً ليبلغني خبر وفاة شقيقنا الأصغر، الذي كانت بمثابة صفحة جديدة مع الألم الذي سيرافقني حتى ألحق به".
لتعود مشاعر النفور، والكراهية، والألم، والشعور بالذنب، وقلة الحيلة، أقوى مما كانت عليه عندما كان عمر في الخامسة من عمره، ويدعو عمر الله ألا يحدث ذلك مجدداً.
"أمي ماتت وحيدة"
تشدد حنان (40 عاماً) من القاهرة على المعاناة النفسية التي اختبرتها والدتها في نهاية حياتها، ومأساتها، هي الأخرى، وقلة حيلتها في ذلك.
والدة حنان، كما تحكي ابنتها لرصيف22: "ليست مجرد أم فهي سند الحياة، وكانت تقوم بدور أبي بعدما توفي، وتركنا في سن صغيرة، أنا وأشقائي الخمسة، ورغم الفقر، واليتم إلا أن أمنا لم تتركنا يوماً، وتفكر في نفسها بل قضت عمرها كله تعمل من أجلنا، حتى وصلت بنا إلى بر الأمان".
عرفت حنان مبكراً أن نسبة إنقاذ والدتها ضئيلة، ولكنها كانت تأمل أن ترحل بقليل من الألم، وأن تحظى بدفء وحميمية في آخر أيام حياتها، معها ومع سائر أبنائها وبناتها وأقاربها.
"قضت أمي مريضة آخر أيام العمر ضمن عنبر الرعاية في مستشفى حكومي، والرعاية مكان للحالات المتأخرة، كانت تقضي ساعات اليوم بين التألم أو سماع الآخرين حولها يتألمون، بينما كنا دوماً في الخارج نشعر بألم من نوع آخر".
"أمي ماتت وحيدة، كانت تريد أن ترانا كلنا حواليها قبل أن تفارق الحياة، دقائق الزيارة محدودة ولشخص واحد فقط، وإذا بكيت تهددني المشرفة بطردي من الممر"
بدأ ألم حنان عندما أخبرتها ممرضة ببساطة وتلقائية أن "قسم الرعاية في هذه المستشفى لا يخرج منها المرضى أحياء عادة، دون مراعاة لمشاعرنا".
"كانت المشرفة حينما ترى أحداً منا يبكي بصوت مسموع تهددنا بالطرد من الممر، كنا فقط نرغب في قضاء بعض الوقت مع أمنا، نحتضن يدها، وننظر إلى وجهها الذي سنفتقده كثيراً".
"كانت أمنيتها الأخيرة أن ترانا جميعاً حولها ولو لمرة، ولكن كيف سنفعل هذا ونحن 6 أشقاء والزيارة تسمح فقط لشخص واحد، لمدة لا تتعدى بضع دقائق، كنا نشعر بأننا نفتقدها، وهي مازالت حية هكذا، فكيف سيكون شعورنا إذا ما جاءنا الخبر الذي نخشى سماعه في أي وقت".
وبعد مرور 15 يوماً، جاءها خبر وفاة والدتها، تنهي حديثها قائلة: "في كل ما نمر به لم يشعر بنا أحد أو يتعاطف معنا أحد، وكأن العاملين في المستشفى لا يعرفون شيئاً عن المشاعر".
"عدنا لوباء الطاعون"
تلقِّب سلمى سيد (20 عاماً)، تسكن في محافظة المنصورة، مستشفيات العزل الصحي الخاصة بمصابي كورونا بـ "المقابر الجماعية"، وترى أن تلك المعاملة التي يتلقاها المرضى هي امتداد للمعاملات القديمة والبدائية التي سادت في تاريخ قديم لمصر.
تقول سلمى لرصيف22: "كما يقول التاريخ الذي أدرسه في كلية الآداب أن لكل زمن وباء يحصد الآلاف من الأرواح في طريقه، ولكنني كنت مخطئة بأن وباء كورونا لن يكون بقوة الطاعون، لأننا في عام 2020 والعلم وصل لدرجة قادرة على قهر أي مرض وبائي".
"نتواجد يومياً بالقرب من المستشفى".
تروي سلمى عن عمها، الذي أصيب بكورونا، وتوجه لمستشفى عزل، لم تسنح لها فرصة رؤيته ولو مرة واحدة، تقول: "مستشفيات العزل في المنصورة ممنوع الاقتراب منها، ولا يوجد غرف عزل تجعلنا حتى نطمئن على عمي من مسافة آمنة، كنا نتمسك بالأمل في كل لحظة، ونتواجد يومياً بالقرب من المستشفى عسى أن يقوم أحد الأطباء أو التمريض بشرح حالته لنا أو حتى الاطمئنان عليه بأي وسيلة، ولكن هذا أيضاً لم يحدث".
في البداية تملكت سلمى وعائلتها "حالة غريبة، مزيج بين الجهل بالمرض والقلق على العم المريض، وفي نفس الوقت الخوف من المجهول"، وبعد أن توفي وسط صدمة الجميع، تقول: "انتابنا شعور قاتل بالعجز، ولكن لم تنته مأساتنا عند هذا الحد، بل كان الجانب الأكثر قهراً لنا هو عدم قدرتنا حتى على إنهاء مراسم الغسل، والكفن بأنفسنا، ولا حتى إلقاء نظرة الوداع عليه، ولا دفنه، فكل المراسم تمت عن طريق وزارة الصحة، وسط حراسة مشددة جعلتنا لم نقترب منه حتى لتوديعه".
الأطباء والتعامل الإنساني
يعلق الدكتور هيثم عوض، إخصائي أمراض القلب والأوعية الدموية، قائلاً: "أخلاقيات مهنة الطب واحدة في العالم كله، وبناء عليه تحدد طريقة التعامل بين الدكتور والمريض وحتى أهله".
يوضح عوض لرصيف22: "على سبيل المثال هناك حالات حساسة، وخطيرة تحتاج إلى إقرار تحمل المسئولية قبل التدخل الطبي، وتكون في حالة إجراء للعمليات الدقيقة أو دخول المريض في غيبوبة، في الخارج عادة ما يكتب المريض إقراراً بنفسه أو يختار الشخص الذي ينوبه، حتى قبل دخوله المستشفى، ولكن في مصر الأمر مختلف تماماً لأن الثقافة مختلفة، سواءً للمريض أو حتى ذويه، في بعض الأحيان أيضاً يكون هناك تعارض، وعادة يكون في حالات الحوادث والطوارئ، مثل البتر أو عمليات نسبة خطورتها أكبر".
"الأهالي لا يتواصلون مع مرضاهم، مما يتسبب في ألم نفسي للطرفين".
ويشدد عوض على أهمية الإمكانيات المادية للمستشفيات، خاصة في غرف الرعاية والعناية المركزة، يقول: "في الخارج تحتوي على غرف مخصصة مغطاة بالزجاج للتواصل مع المريض بشكل غير مباشر من قبل أهله، ومتابعته والاطمئنان عليه باستمرار، وبالفعل توجد غرف مشابهة في مصر، ولكن في المستشفيات الاستثمارية باهظة التكاليف أما في المستشفيات العامة، فغرفة الرعاية تضم أكثر من مريض، والزيارات بنظام الدور، لأن مواعيد الزيارة محددة بساعة واحدة فقط، مما يجعل الأهالي لا يتواصلون مع مرضاهم، مما يتسبب في ألم نفسي للطرفين، وحتى في الحالات المتأخرة التي يصل المريض فيها لفقدان الإحساس بمن حوله، تسبب حالة من المعاناة والعجز للأهل".
"أما في حالات الكورونا ففي الخارج أيضاً يتم وضع المرضى في حجر صحي زجاجي، ويتم زيارتهم مع مراعاة مسافة آمنة، ولكن الوضع مختلف في مصر، وإن كانت التكنولوجيا جعلت مكالمات الفيديو بديلاً جيداً ولكن الجهل لبعض العاملين في المستشفيات، وكذلك بعض الأهالي جعل تلك المهمة صعبة كثيراً".
ويلفت عوض إلى أن الجيل الجديد من الممرضين والممرضات خريجي الكليات لديهم وعي أكبر، وقاموا بدراسة أخلاقيات المهنة التي يدرسها الأطباء، وبالتالي تكون إدارتهم للأمور أفضل، سواء فيما يتعلق بالمريض أو ذويه، وفي النهاية النظام الإداري لكل مستشفى عامل أساسي لكل ما يحدث بالسلب أو الإيجاب".
وينهي الطبيب حديثه لرصيف22: "نحتاج كأطباء للمزيد من الوعي والثقافة حتى نتعامل مع الحالات، وما يحيطها بدوافع إنسانية، بجانب المهنية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون