"ياما حرمت نفسي عشانكم". "تعبي وشقايا عليكم عند ربنا". "يا خسارة عمري اللي راح هدر في تربيتكم". "ربي يا خايبة للغايبة". "ما أنا الخدامة اللي أبوكم جايبهالكم".
كلها جمل سمعناها من أمهاتنا عندما ينددن من خلالها بحظهن العاثر ويعظمن من تضحياتهن تجاه أبنائهن وبناتهن، لكن لماذا تشعر الأمهات بكل هذا الضيق والإحساس بالظلم رغم أن وجود الأطفال كان اختيارهن وليس اختيار الأطفال؟ لماذا يشعرن بالحنق والغضب والشعور بالذنب وربما بالاكتئاب معظم الوقت؟
الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما
ترى أمهات أن الغاية الكبرى لحياتهن هي التماهي مع أبنائهن، مع الوقت يدفعهن هذا الاعتقاد المتوارث إلى الظن أن حياة أبنائهن ما هي سوى امتداد أو بديل لحياتها كنوع من "رد الجميل" فيسمحن لأنفسهن بتحقيق رغباتهن من خلالهم. يقول عبدالحميد أحمد -21 عاماً- طالب جامعي: "أندهش حين أسمع أمي تردد بينها وبين نفسها المثل الشعبي"ربي يا خايبة للغايبة"، خاصة بعد زواج أخي الأكبر، وكأنها كانت تنتظر منه أن يظل بجانبها من دون زواج، أو أن يدعها تتدخل في حياته كما تشاء، كتقدير منه على عطائها وتضحياتها طوال السنين، وتحديداً منذ وفاة والدنا فى سن صغيرة". ويضيف: "ما يدفعني للتساؤل: لماذا لم تخلق أمي عالماً موازياً لها تستمتع بممارسة تفاصيله بعيداً عنا ولو لساعة أسبوعياً. كنا حتماً سنقدر هذا بدلاً من الشعور طوال الوقت بأننا مديونون لها". الموضوع نفسه تناولته الشاعرة والكاتبة إيمان مرسال، أستاذة مساعدة الأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط بجامعة ألبرتا في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، فسردت في جمل شاعرية مبسطة أهمية وجود درجة من الاستقلالية في حياة الأم، من هذه الجمل: "يمُدنا أي وصف طبيّ لعملية الحمل والولادة بمجازاتٍ عديدة عن التهديد والصراع والانتقاء والاستثمار والخطر، يدافع الرحم عن نفسه ضد الجنين الضار، يزداد جداره سُمكاً، وهذا ما يؤدي إلى الحيض، إنها الوسيلة التي يختبر بها جسد الأم صلاحية الجنين حتى يقبل باستمراريته. على جسد الأم أن يتأكد أن الحمل هو استثمار جيد للمستقبل. ستتكون المشيمة إذا كسب الجنين معركته. لكن في نفس الوقت لا بد من تكوّن غشاءً رقيقًا يفصل دم الأم عن دم الجنين، الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما".من ذنب إلى ذنب
عن ذلك الإحساس بالذنب الذي يلازم الأمهات كأنه يولد مع أول طفل، وربما مع أول إحساس بركلة الطفل في بطن أمه، تحكي كاميليا حسين المدونة والقاصة ذات الثلاثين ربيعاً لرصيف22 عن تجربتها: "في تجربتي مع ابنتي الثانية، صرت أكثر تفهمًا ﻷنني قد لا أستطيع أن ألبّي احتياجاتها كاملة، وصودف أنها مرضت في منتصف شهرها الثاني وأمضت في المستشفى أسبوعاً ﻹجراء جراحة عاجلة، بعدها قلّ اللبن لدي بالتدريج إلى أن انقطع تمامًا". وتكمل: "لجأت إلى الرضاعة الصناعية وصرت أشعر بالذنب تجاه نمو الصغيرة المعتدل، وأقول لنفسي هذا ليس وزنًا ناتجًا عن صحة جيدة، هذه "نفخة" الصناعي، وألوم نفسي كلما عطست وأقول هذا نقص المناعة ﻷنها رضعت لبنًا صناعيًا، لدرجة أنني إذا ابتسمت لها ولم تتجاوب، أقول ليست ذكية كفاية، فالرضاعة الصناعية تؤثر على الذكاء الوجداني". وتعترف كاميليا: "أنتقل من ذنب إلى ذنب ولا أرحم نفسي، من ذنب الكبرى النحيفة التي لا تنمو النمو الكافي، إلى ذنب الصغرى التي تحب الببرونة أكثر من أمها". حول ما يخالط الأم من شعور بالذنب أو الأنانية للتقصير في حق أولادها وانشغالها بطموحها الشخصي. وهل يزيح هذا التعارض صورة الأم المقدسة المضحية العظيمة، تخبرنا إيمان مرسال عبر كتابها "الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاكٌ في لحظة الولادة وشقّ صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حررها من هويتها السابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تماماً كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوة. لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل ينبثق أحيانًا من نموذج مثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم، بل قد يأتي أيضًا من التاريخ الشخصي السابق على الأمومة."افترسها اكتئاب ما بعد الولادة
رأيت العديد من تلك الحالات، لكن واحدة منها لا أنساها. يروي لرصيف22 مصطفى محمد السيد، الإخصائي النفسي والمعالج بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، عن حالة مريضة تزوجت في سن صغيرة وتحملت مسؤولية الزواج وتبعاته كاملة، ثم الحمل والإنجاب الذي أنهكها جسدياً ونفسياً دون مساندة من أحد، حتى الزوج الذي يأتي للبيت متأخراً ولا يريد حتى سماع شكواها. وعندما شكت لأهلها قرروا أن الزوج ليس عليه غبار، وأنها كزوجة وأم يجب أن تتحمل مسؤوليات البيت والطفل والزوج وأم الزوج التي تسكن نفس المنزل دون أن تشكو لأحد أو تتذمر من تعليقات أهل زوجها السلبية على أدائها كأم وزوجة، أو حتى أن تمارس أي نشاط خارج نطاق الأعمال المنزلية، فسريعاً وقعت فريسة لاكتئاب ما بعد الولادة الذي لا تتقن مجتمعاتنا التعامل معه ومع الأمهات المصابات به، مما أدى إلى تدهور حالتها إلى أن قامت بقتل رضيعها بيديها. قضت عدة سنوات داخل المصحة لتجد عند خروجها أمها قد توفيت، وأن المجتمع نبذها، وبالطبع طلقها زوجها، فما كان منها إلا أن عادت إلى المستشفى بكامل إرادتها. ويضيف: "أرى أن مساندة الزوج لزوجته، خاصة في بداية حياتهما معًا عاملاً مهمًا في تكوين مساحة شخصية تخصها وحدها تساعدها في دعم وتقوية بنيانها النفسي، وينشأ الأطفال في الأسرة على مبدأ احترام الاستقلال الجزئي للأم واعتباره حقًا من حقوقها تمارسه كيفما شاءت تمامًا كما يفعل الأب".يسمونها أنانية؟
via GIPHY تقول الكاتبة ويتني لويد في مقال عنوانه "لماذا يعدّ كونك أماً أنانية خيراً لك ولعائلتك؟": "منذ أن بدأت بالسماح لنفسي باستقطاع بعض الوقت، خسرت 25 باوندًا وأربعة مقاسات في قياس البنطلون، نجحت في إزالة حبوب الشباب من وجهي، أصبحت أخطط أفضل للأسرة، وبدأت العمل بكفاءة أكبر في وظيفتي (وحصلت على زيادة كبيرة في الراتب) وبدأت بالاستمتاع باللعب مع ابني والانسجام مع أفراد عائلتي، وتطوير صداقات جديدة، والأهم استئناف التواصل مع زوجي. إن قلة الوقت أثرت بالفعل على أسلوب حياتي، وثقتي بنفسي وقدراتي الذاتية. ولكني الآن أنا أسعد حالاً، وأفضل صحة، وفوق كل هذا زوجة وأم وموظفة وصديقة أفضل، كل هذا فقط لأنني منحت نفسي القليل من الوقت. لهذا اذهبن لأخذ حمام شمسي واقرأن كتاباً جيداً، واذهبن للهرولة مساء في الهواء المنعش، وفكرن بطلاء أظافركن، وقمن بأكل قالب من الشوكولاته، واستمتعن بكأس من النبيذ على شرفاتكن لدى مغيب الشمس". نضيف إلى نصائح ويتني الثمينة: مارسي الرقص الحر، وخصصي ولو نصف ساعة يومية للقراءة من كتاب أو ديوان أو سيرة ذاتية، وسافري إلى وجهات تحلمين بها ولو بعيدة، واهتمي بأعمال ونشاطات تطوعية تعطيكِ المزيد من الإيجابية بالحياة، واستثمري في عمل جديد لك، واكتبي ما في أعماقك، وأكملي علمك ليُفتح الأفق أمامك.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...