شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كم مرة أنقذت كلماتكما أرواح المسجونين… في رثاء مريد ورضوى

كم مرة أنقذت كلماتكما أرواح المسجونين… في رثاء مريد ورضوى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 16 فبراير 202112:59 م


عانق كفّ كلماته كلماتها، قفزا سوية وانطلقا يجوبان الشوارع، تاركين خيطاً من نور وفراشات إثرهما، وصلا بوابة السجن، ووقفا يتأملان السبيل إلى الدخول.

السجن يمقت النور، يكبله ويقتله في بطنه، ويحجز بكل عنف دخول كل ما شابهه ولو من بعيد. 

لكن كلماتهما لم تعجز، فما أعجزها أقبح وأقسى منه من قبل.

يلتفان ويحومان حول السور، ثم، كملاكين، يطيران. 

تعبر الكلمات الأسوار، تنسلّ من بين القضبان، وتنطلق في ممرات السجن، تفرّق نورها من تحت أعقاب أبواب الزنازين. 

رضوى ومريد، الجميلان العظيمان. 

كم مرة أنقذتني، وأنقذت غيري من المسجونين، كلماتهما؟ كم مرة في قلب الظلام طبطبت على قلوبنا الكسيرة برقة؟ كم مرة في ذل العجز والقهر، أثبتا كلمات أحمد فؤاد نجم "وعمر النور ما يعجز يقزح ألف سور"؟ 

حاضرة كانت كلماتهما دوماً في غياهب السجن؛ في يد مسجون جديد يُمسك فيقرأ لرضوى: "ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججاً وملوناً لكي يتحمل عتمة ألوانه؟"، فتأنس روحه ويقوم ليبحث عن قشة وقنديل. 

أو محكوم عليه بالأمس يتألم، فتقفز كلمات مريد تربت على كتفه: "الوقت هنا لا تقيسه ساعة يدك، إنه يقاس بقدرتك على الصبر. يمر الوقت ما دمت تملك القدرة على الصبر، وعندما تفقدها، فإنه لا يمر"، فيصبر.

أو عائد من زيارة خاطفة لا تروى الظمأ للأحباب، فيفتح ثلاثية رضوى ويقرأ: "في وحشة سجنك ترى أحبابك أكثر، لأن في الوقت متسعاً، ولأنهم يأتونك حدباً عليك في محنتك، ويتركون لك أن تتملى وجوههم ما شئت وإن طال تأملك"، فيغلق عينيه ويتأمل في الصورة المحفوظة على الأجفان قبل زوالها، ويبتسم. 

أو في ظلام حبس انفرادي، يسند فيه سجين ظهره للباب، ويمسك كتاب رضوى بعد تهريبه من تحته، فتمسّه الكلمات كبلسم يتجلى ببطء تحت ضوء الطرقة المنسل خافتاً من بين الشبك يضيء: "استحضر المشهد حين يراودني اليأس، أقول لنفسي: لا يصحّ أو يجوز لأنني من حزب النمل. من حزب قشّة الغريق، أتشبث بها ولا أُفلتها أبداً من يدي. من حزب الشاطرة تغزل برِجْل حمارة"، فلا ييأس. 

حاضرة كانت كلماتهما دوماً في غياهب السجن؛ في يد مسجون محكوم عليه بالأمس يتألم، فتقفز كلمات مريد تربت على كتفه: "الوقت هنا لا تقيسه ساعة يدك، إنه يقاس بقدرتك على الصبر. يمر الوقت ما دمت تملك القدرة على الصبر، وعندما تفقدها، فإنه لا يمر"، فيصبر

بعد نوبة افتقاد موجعة للمحبوبة وهفو للقاء بعيد، فتأتى أبيات مريد:

"على نَوْلِها في مساءِ البلادْ

وفي بالها اللوتسيُّ المبلّلُ بالماءِ

والأخضر الزعتريّ

وصُوفُ الضُّحى يتخلّل قضبان نافذةٍ

في جدار سميكٍ

فيُدْفِئُ تحت الضلوع الفؤادْ". 

بعد نوبة بكاء وارتجاف في جوف ليل بهيم، وشعور غربة يصيب الروح بالبرد واليأس، فتشعّ رضوى دفئاً فيها قائلة: "هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا".

أو مجرد شريكة في البؤس والتأمل والفلسفة، كرفيق لم يحاول أن يقدم حلولاً، بل استمع وأحاط بذراعيه كتفيك وقال: "أفهم"، عندما تتالى أبيات مريد:

 "أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم

 وفي يأسي أتذكر... أن هناك حياةً بعد الموتِ

 هناك حياة بعد الموت

 ولا مشكلة لدي

 لكني اسأل: يا الله... 

أهناك حياة قبل الموت؟". 

ألا يكفي كل هذا نصيب فردين في هذه الحياة من النور؟

لم يكتفيا.

أؤمن كثيراً أن الأبناء من أعمال الوالدين، وكأن رضوى ومريد لم يكفهما كل ما خلفاه من ضياء، فأبيا إلا أن يتركا سراجاً متقداً من أدب ومقاومة تمزج جمالهما مزجاً عبقرياً، في هيئة ابنهما تميم.

من أين أبدأ؟

تمنحني نسائم شعره قدرة عجيبة على إبصار الجمال بمفهومٍ فريد. جمال لا يأبه للمنظر ولا المظهر، بل يبرز مكنونات الأشياء ولبّ المشاعر بلفظ محكم ونظم بديع.

فتلمس روحُك بعدسات كلماته جمالاً في الألم والأمل، والحب والبغض، والموت والحياة، وكأن الأضداد وقفت صفاً واحداً تصبّ جمالها صباً في كلماته.

نجد الشعراء يتميزون في ضرب من الشعر، وهو لم يترك درباً من دروبه إلا وخاض فيه وتوغّل، فتجده مَدَحَ وهجا، وفَخَرَ ورثا، وأبحر في بحور الغزل.

ثم تتحول مقولته إلي صديقٍ لا يفارقني في رحلتي بين عتمات السجون، يخفِّف عني وقت ركوني إلى اليأس، فلا تجد زنزانة دخلتها إلا ولوحة جدارية مرسومة على حائطها، تقول لي ولمن بعدي: " فارفق بنفسك ساعةً إني أراك وهنت". 

لا أدري كيف أرد جميله عليّ. فكيف ترد صنيع من مد إليك يداً في أتعس لحظات سجنك، وأنت تنظر في مرآتك مشمئزاً من روحك المشوهة، فهمس في أذنك: "لا تصدق مراياك حين تريك تجاعيد وجهك. تلك تجاعيدها هي لا أنت يا صاحبي". 

رضوى ومريد. هل يمكن أن أدين لكما أكثر من هذا؟

لا أنسى الجرح القطعي في قلبي عند سماع خبر وفاة رضوى، واستحالة لقاء منبع هذا النور الى الأبد.

والآن اكتمال تمام الجرح مع تمام الفقد.

تركتما العالم من ورائكما مكاناً أشد إظلاماً، وأثقلتم علينا المسؤولية بعد أن خلفتمانا. 

هل سنستطيع إكمال مشوار المقاومة والجمال؟ هل سنرقى لحمل الراية، فنبدع ونقاتل ونناضل كما فعلتما، فنكون في شيخوختنا مصدر نور وإرشاد لمن هم في سننا الآن؟ 

هل؟ 

قال مريد عن رضوى:

"حين ذهبتِ

مالت أزهار اللوتس نحو الماء

ومدت كفيها تستبقيكِ

حين ذهبتِ

حقل من عباد الشمس تلفت نحوك

وتخلى عن وجه الشمس". 

وقالت رضوى عن مريد:

"غريبٌ أنْ أبقى مُحتفِظَةً بنفسِ النظرةِ إلى شخصٍ ما طَوَالَ ثلاثينَ عاماً. أنْ يمضيَ الزَّمنُ، وتمرَّ السنواتُ وتتبدَّلَ المشاهدُ، وتبقى صورتُهُ كما قرَّتْ في نفسي في لقاءاتِنا الأولى".

وقال ابنهما تميم، النتاج الطبيعي والمنطقي والعبقري لاجتماع قمتين وقامتين من أعظم من أنجب الأدب العربي وفن المقاومة: 

"أمي وأبويا التقوا والحر للحرة

شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد

قالولها ده أجنبي، ما يجوزش بالمرة

قالت لهم يا العبيد اللي ملوكها عبيد

من إمتي كانت رام الله من بلاد برة

يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني

من يعترض ع المحبة لما ربى يريد". 

أبلغ رضوى منا السلام، وهنيئاً لكما الاجتماع بعد الفراق، ولا يسعنا سوى البكاء والألم على اكتمال الجرح بفراقك بعد فراقها، وتعازينا الوحيدة أن نتلمس أجزاء من قبس روحيكما في شعر تميم وكلماته

قال مريد في رثائها الذي يقطر جمالاً وألماً:

" فالمظلوم يخسر إن لم يكن في جوهره أجمل من الظالم. وهي لم تخسر جمالها حتى وهم يؤذونها بقبحهم، ولم تخسر جمالها حتى وهي على مخدتها الأخيرة". 

والآن نقول: ولك المثل يا معلمنا وأستاذنا، لتعد في سلام لخالقك، تحفّك دعواتنا ومحبتنا اللا متناهية، تاركاً لنا جمالك على مخدتك الأخيرة، وجوهرك الأجمل والأنقى من كل ظالم. 

بعد فراق، عاد الحر للحرة، عاد الشاعر للروائية، ولم يعد لأزهار اللوتس وجهة تميل صوبها منذ اليوم، واتجمعوا العشاق من تاني.

لروحيكما السلام والنور والدفء والطمأنينة، كما أضفت كلماتكما على أرواحنا، لسنين مضت وسنين ستأتي. 

أبلغ رضوى منا السلام، وهنيئاً لكما الاجتماع بعد الفراق، ولا يسعنا سوى البكاء والألم على اكتمال الجرح بفراقك بعد فراقها، وتعازينا الوحيدة أن نتلمس أجزاء من قبس روحيكما في شعر تميم وكلماته، وأن نقف الآن وَجِلين ونفتح الأبواب، ليدخل السيد، كما وقف هو من قبل يفتح الأبواب لتدخل السيدة.

لا وحشة في قبر مريد.

لا وحشة في قبر رضوى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image