شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
مضت عشر سنوات على ثورة يناير… وعام على خروجي من السجن

مضت عشر سنوات على ثورة يناير… وعام على خروجي من السجن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 25 يناير 202112:07 م

كنا ندور في الشوارع، نمسح الطرقات ونطلب الأرصفة، ونستنشق من ريح الحرية التي نهفو إليها، كانت كما يصف تميم البرغوثي في قصيدته "ستون عاماً": "وتُطلَب الريحُ وهي نادرة ليست بماءٍ، لكنها جُرَعُ"

ولم يكد يمر عامان، وسجنت.

ستُّ سنوات، وثلاثةُ أشهرٍ، وأسبوع.

دخلتُ السجن في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، طفلاً في السابعة عشرة، وخرجت في الرابعة والعشرين.

ستُّ سنوات، وثلاثةُ أشهرٍ، وأسبوع.

أنهيت فيها كلية الهندسة قسم ميكانيكا القوى بجامعة عين شمس، قرأت مئات الكتب، احتككت بمئات أصناف البشر، قاربت حد الجنون كثيراً، ولامسته مرة أو مرتين، تعلَّمتُ وعلمت، ولاقيت صنوف العذاب الجسدي والنفسي، ومعهما لذات السعادة الصغيرة التافهة المختفية.

مضى عام كامل على خروجي من السجن في كانون الثاني/ يناير 2020، ولم أعتد بعدُ كل ما تغيّر.

أفكر في الثورة التي أصبح ذكرها محرماً، وفيمن ماتوا ووعدناهم بالتخليد، في كلمات الشاعر مصطفى إبراهيم لشهداء الثورة في قصيدة "بندعيلكوا":

"لكن ندرا على ودين

لتيجى عيالنا تشبهكوا

تبوس على رجل أصغر شاب

وترفع رايته زي ما حبّ

وتحفظ صمّ أساميكوا

ومن آخر نفر فيكوا

لأولكوا

هتدعيلكوا"

ويطوف بخلدي صوت عايدة الأيوبي في نبوءتها الكارثية المتجسدة الآن في أغنية "يا الميدان":

 "ساعات بخاف... تبقى ذكرى... نبعد عنك… تموت الفكرة... نرجع تاني ننسى اللي فات... نحكي عنك في الحكايات..."

وابتسم حزيناً لأن حتى الحكايات صارت ممنوعة.

أهز رأسي بأسى، لأني رغم حزني على وعد مصطفى الذي أخلفناه في قصيدته، أعلم أيضاً أنه من قال بيته الخالد:

"التاريخ ضمن الغنايم

وبيكتبه الكسبان"

لن يمجد التاريخ دماءهم، ولن يدون سنين عمرنا المسروقة.

فهل ضاعت؟

يشتعل قلبي حرقة مرة أخرى بالفكرة التي صارت شغلي الشاغل؛ الفن المقاوم.

دخلتُ السجن في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، طفلاً في السابعة عشرة، وخرجت في الرابعة والعشرين. أنهيت فيها كلية الهندسة قسم ميكانيكا القوى بجامعة عين شمس، قرأت مئات الكتب، احتككت بمئات أصناف البشر، قاربت حد الجنون كثيراً، ولامسته مرة أو مرتين

أغوص في ذكرياتي وأعود للسجن...

أخطو ببطء نحو باب باحة التريض بعنبر 2 في سجن وادى النطرون. أتأبط ذراع صديقي عبد الله ناصر الذي كان في الحبس الانفرادي منذ أسبوع أو اثنين. في الحقيقة لا أتذكر قطعاً إن كان بالفعل في التأديب، لكن مع عبد الله، هو في الغالب دوماً في التأديب لسبب أو لآخر، فمن المرجح أن يكون دوماً خارجاً منه منذ أسبوع أو اثنين.

نهبط الدرج ونتناقش كعادتنا، وننصهر في جموع الطائفين الزرقاء حول محيط الساحة، تحت السماء المحجوبة بأعمدة حديدية وغطاء شبكي. على جانب المطاف يجلس محسن وحوله بعض الرفاق، يلقي عليهم الشعر الذي يؤلفه من وحي تجربتنا. يلقي وينصتون. نبطىء ونستمع. ينتهي ويتتابع التصفيق والتشجيع. تتطاير أمنيات بديوان منشور يوماً ما، وحفلة توقيع، ومعجبين كثر. يضحك ساخراً ونضحك.

الأمنيات للمستقبل، ولا مستقبل هنا. 

على بعد مئات الكيلومترات، في سجن طرة، يقبع ياسين في زنزانة وسط عشرات من المسجونين. لا يختلف عن أي منهم في المظهر وقد لا يستوقف عينيك إذا مرت به. يمسك بأقلام مهربة، ويرسم. يرسم أي شيء، وكل شيء. يرسم على كل الأسطح والخامات. يرسم على الورق إذا توافر، وعلى الحوائط إذا سلب الورق، وعلى جفنيه بالأحلام إذا سلبا كلاهما. يتألم فيرسم. يبكي فيرسم. يفرح فيرسم. يضحك فيرسم. يحب فيرسم. يكره فيرسم. يرسم كلما شعر بالامتلاء، وأيضاً عندما يحويه الخواء.

تتقاطع طرق المساجين بالداخل وتفترق مراراً وتكراراً. نلتقي في الترحيلات ونفترق في الجلسات ونتقابل في الامتحانات ونودع بعضنا بعضاً مع تغيير اعتمادات السجون ليتجدد اللقاء صدفة في سجن جديد تحت أقدار عجيبة.

نتخيل دوماً لحظة اللقاء بالخارج. نلقي الوعود بها بلا إحساس حقيقي، لأن كل من سجن يعلم أن زمن السجن أبدي. في لحظة السجن لا يستوعب عقلك احتمال سواه. يبدو كنفق مظلم ممتد مدى بصرك بلا نور يلوح ولا مخرج يبين. فتتحول الكلمات عن الخارج لأشياء غريبة من عالم موازٍ لم نعد متأكدين أننا كنا ننتمي إليه يوماً، وإن كنا سننتمي إليه مجدداً.

جاب كل هذا بخلدي وأنا جالس على الكرسي. أرفع الديوان في يدي وأتأمل: "مفيش رقم بيرد"، ديوان محسن محمد.

أتفحص رسمة الغلاف الجميلة، لدورة مياه السجن القذرة، لكن ينبت منها وفي أرجائها ورود وأزهار. أقرأ الاسم في الركن السفلي الأيسر للغلاف: رسم "ياسين محمد".

كل ضربة فرشاة من ياسين، كل قافية ألقيت من محسن، كل صرخة قادت لتأديب من عبد الله، كل ابتسامة وضحكة اغتصبناها من بين الدموع؛ حزن وبؤس، ولكن تحفُّهما المقاومة. تتعرف أرواحنا على غربتها فتأنس وترى الجمال، ثم ترى جوهر إنسانيتنا مقاوماً ثائراً في قلب الجمال

أنظر للمنصة أمامنا، أرى محسن جالساً بجوار شعراء كبار، مرتدياً سترة بدلة رسمية، يناقش ديوان شعره الأول مع الحضور ويلقي عليهم بعض قصائده. ألقي نظرة خلفي على ياسين الجالس يناقش المعجبين بفنه ولوحاته ويلتقط معهم الصور بناء على طلبهم. ألتفت يساري فأرى عبد الله يرفع يده ليذكّر محسن بموقف حدث بينهما في السجن فينفجر الحضور ضاحكين. زملاؤنا كثر في الصفوف. اللحظة كأنها من حلم، لأنها من حلم. نحن بداخل الحلم الذي كان دوماً في المستقبل الذي لا يأتي. المستقبل الذي يظل كذلك، مستقبلاً لا يستحيل أبداً لحاضر.

المستقبل الذي بات الآن حاضراً أشد الحضور.

أنتقل شهراً للأمام وأتنقل بين صور المواقع الزرقاء، حتى أصل الى صور معرض ياسين الفني الأول. تكاد عيناي تدمعان وأنا أرى صوره واقفاً يشرح لوحاته للحضور والفرحة ملء عينيه. أتأثر أكثر من غيري، لأني أعلم حجم ما يعني هذا اليوم له. أخبرني عن حلمه الكبير بأن تعرض لوحاته في معرض في مصر وكم يتوق لذلك، فأقسمت أن أسعى حتى أراه واقفاً هذا الموقف. 

مكثت أتواصل وأكتب وأبحث قافزاً بين المعارض، أتصل فيرفضون أو يترددون لسبب أو لآخر؛ كلام عن مؤهلات دراسية أو اسم مغمور أو خلفيات سياسية مقلقة. حتى وجدنا أخيراً أصحاب رؤية مختلفة تقبل بعرض الفن بلا تمييز. الساعات التي أمضيناها في تجهيز اللوحات وكتابة بياناتها وتجهيز ملف لعرضها، اللحظات المتتابعة التي أوصلته أخيراً لأن يقف أمام لوحاته في معرض مصري لأول مرة، فيكون مرة أخرى، داخل حلم يتحقق، لكن هذه المرة حلمه هو.

تبهرني مرة تلو مرة، مسحة الجمال الحاضرة خلال كل ذاك الأسى وذاك البؤس. حاضرة حولنا ومعنا ونحن ندور في ساحة التريض البائسة، نستمع إلى قصائد محسن الحزينة ونرى لوحات ياسين المبكية، بالداخل كانت أو بالخارج، يظل هناك بين كل قطرات الألم، جمال حاضراً.

مقاوماتنا الحزينة ربما كانت وما زالت صغيرة. ربما تافهة. ربما لا تغير شيئاً. لكن جمالها وإنسانيتها لا يخفيان عن ناظر.

لماذا يجد الإنسان الجمال في الحزن؟ لماذا نستمتع بالضحك والمرح واللهو، لكن لا يلمس أرواحنا ويؤثر فينا شيء كما الحزن؟

كونت نظرية عن طبيعة الإنسان وإحساسه بالغربة. أرى دوماً نمطاً متكرراً لشعور الإنسان الدائم بالغربة عن كل الكائنات والمحيطات. يسير في الكون متأملاً متدبراً، إذا فاضت نفسه ألهاها بمشتتات الحياة وصخبها كي لا يفكر كثيراً، ولكنه إذا خلا بنفسه، لا يلبث أن يعود غريباً. ربما بأرواحنا هذا القبس الإلهي، هذا النور الخافت الذي نراه أوضح في الظلام والأسى، فيزداد شعورنا بأننا لسنا من هنا، وأننا لا ننتمي. قد يفسر هذا إذاً كيف يلمس أرواحنا كل ما هو حزين وبائس. ربما تتعرف أرواحنا في غربتها على نفسها وترى انعكاس بؤسها في الحزن المنشور أمامها، رسماً كان أو شعراً أو أي لون من الفن وضروبه.

يجد الإنسان الحقيقي دوماً مسحة من جمال في الحزن، ولكن أكل أنواع الحزن سواء؟

كثيراً ما تأملت وكتبت عن جوهر الإنسانية المتمثل في المقاومة ومحاولات التغيير. كيف أن الإنسان هو الكائن الوحيد المقاوم المغيّر. كيف لا تثور الغزلان أبداً على الأسود، ولا تتحول الأسود الى النباتية من منطلق أخلاقي لمنع ظلم إخوانها من الحيوانات، لكن الإنسان يثور ويقاوم ويمارس ممارسات تتعارض قلباً وقالباً مع مصلحته المادية لأجل فكرة أو مبدأ. تتحول لحظات الثورة الإنسانية إلى لحظات روحانية صافية. يتملكك لحظةَ الاندماج في الجموع الثائرة إحساس سلام وطمأنينة عجيبين، يتعارضان كلية مع الأجساد شبه الممسوسة المنتفضة من حولك. تثور ويثورون، فترى جوهر الإنسانية متجلياً متجسداً يطفو فوق المكان مع أرواح الجميع المتجانسة.

لهذا صرت أفهم وأعي سبب انبهاري ووقوفي خاشعاً في حضرة هذا الحزن خصيصاً، لأنه ليس مجرد حزن يعكس غربة الانسان، لكنه أعمق من ذلك بدرجات.

إنه حزن مقاوم.

كل ضربة فرشاة من ياسين، كل قافية ألقيت من محسن، كل صرخة قادت لتأديب من عبد الله، كل ابتسامة وضحكة اغتصبناها من بين الدموع؛ حزن وبؤس، ولكن تحفُّهما المقاومة. تتعرف أرواحنا على غربتها فتأنس وترى الجمال، ثم ترى جوهر إنسانيتنا مقاوماً ثائراً في قلب الجمال.

نوثق بكتاباتنا، بأشعارنا، بلوحاتنا، بأفلامنا، بمسرحياتنا، وبأغانينا، عل من يأتي بعدنا يقرأ، يسمع، أو يرى، فيعلم.

نوجد سرديات موازية لسرديات الطاغية. نقاوم محاولات محونا المستمرة المسعورة. نخلق عالماً موازياً ما زال الحلم فيه حياً، لعله يكون نافذة للقادمين تلمس أرواحهم، ويرون ما كان محتملاً

نوجد سرديات موازية لسرديات الطاغية. نقاوم محاولات محونا المستمرة المسعورة. نخلق عالماً موازياً ما زال الحلم فيه حياً، لعله يكون نافذة للقادمين تلمس أرواحهم، ويرون ما كان محتملاً.

ربما كما قال الخال الأبنودي:

 "وأكيد في جيل

أوصافه غير نفس الأوصاف

إن شاف

يوعى

وإن وعى

ما يخاف"

مقاوماتنا الحزينة ربما كانت وما زالت صغيرة. ربما تافهة. ربما لا تغير شيئاً.

لكن جمالها وإنسانيتها لا يخفيان عن ناظر.

مقاوماتنا الحزينة ربما كانت وما زالت صغيرة. ربما تافهة. ربما لا تغير شيئاً.

لكنها كل ما نملك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard