"هذه قصة الوجه الآخر من التكوين/أكتبها/بحبر ضاع/أكتب عكس الكلمة/أكتب/عكس الذاكرة/وكل شيء صار/كيف صار". من قصيدة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" لأنسي الحاج.
في أشدّ الغزل الذي يكتبه الشاعر أنسي الحاج حول حبيبته، يصفها بالرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع، هذه الصورة الشِعرية، التشكيلية، الجمالية، وكذلك هي الرمزية من حيث التمازج بين الشَعر وبين الماء، بين التوالد والاستمرارية، بين الينبوع وجسد الإنسان. كلها مفاهيم تتطرق إلى ذهن المتلقي في التجربة التشكيلية للفنانة عفراء الظاهري، التي تمتد بين اللوحة، المنحوتات من الإسمنت والخزف والزجاج، وكذلك أعمال في فن التجهيز والتصوير الضوئي.
تحاول الفنانة عفراء الظاهري من خلال أعمالها الفننية أن تخلق ذلك التداخل بين الإشارة والرمز، بين المرئي والمخفي، بين اللحظة والذاكرة وهي مفاهيم تحضر باستمرار في أعمالها الفنية
الوعي والمواد التي تتكون منها الأشياء
في كتابه "الفن والحس" يشرح ميشال ديرميه كيف أنه، وبالفن التشكيلي، حين تصنع الأشياء من مواد غير تلك المواد التي اعتاد الدماغ عليها، ذلك يدفع الوعي إلى التشكيك في العالم الفيزيائي من حوله. فمثلاً، تدفعنا التماثيل الشمعية للمشاهير للتشكيك بحقيقتها، وبالتالي بحقيقة العالم الفيزيائي من حولنا، لكن ذلك يفتح الخيال لتقبل الجديد.
في عملها "We Hang No More، 2017" عندما نرى تعليقات الثياب الخشبية أو البلاستيكية في العادة، مصنوعة من الزجاج. تأتي مادة الزجاج هنا لتشكك الوعي بمعرفته المسبقة في العلاقة بين المواد والأشياء، ومن ثم يأتي إضافة إلى الخيال في تخيل احتمالات هذه العلاقة، فيضيف إلى معرفته البصرية والفكرية، إمكانية صناعة أشياء من مواد جديدة ومختلفة.
الحضور الإنساني الغائب أو القادم
في العام 2016، قدمت الفنانة عملاً من التجهيز بعنوان "Dining East or West" يجسّد جلسة عشاء جماعية مع أربع كراس، وعالم الأشياء المصنوع من الزجاج والإسمنت والسيراميك، دون أي حضور إنساني. ومن هنا تنطلق الفنانة في تجربتها مع مفهومي الحضور والغياب.
في العام 2018، ستقدم عملها بعنوان "Between existence and absence"، تجهيز فني من الإسمنت، الشمع والقماش الذي ترتسم عليه الرموز البصرية التي تقدمها الفنانة إلى العين، لتخلق ذلك التداخل بين الإشارة والرمز، بين المرئي والمخفي، بين اللحظة والذاكرة. وهي كلها مفاهيم سنتابع حضورها باستمرار في تجربة الفنانة وأعمالها. فيمكن تلمس مفهومي الحضور والغياب في عملها بعنوان "Stripped away from all constructs، 2018"، حيث يقف المتلقي أمام رداء ضخم من القماش والإسمنت معلق على الحائط. يوحي الرداء بحضور نسائي غائب عن العين، فيشعر أن الحضور الإنساني إما رحل/غاب، أو سينبثق/يوجد في أية لحظة.
جدلية الحضور والغياب
في كتابه "مدن الخيال" يتخيل الكاتب إيتالو كالفينو مدينة "زُبيد"، ويروي عن تأسيسها أن رجالاً من جنسيات مختلفة رأوا حلماً واحداً: امرأة تجري، في عز الليل، وفي مدينة مجهولة. رأوها مدبرة بشعرها الطويل، وحلموا بأنهم يتبعونها. وأخيراً فقد كل منهم أثرها. ولما استيقظوا من حلمهم انطلقوا للبحث عن المدينة، فلم يعثروا عليها، ولكنهم التقوا في مكان واحد، فقرروا بناء مدينة كمدينة حلمهم".
يشرح ميشال ديرميه في كتابه "الفن والحس" كيف أنه، وبالفن التشكيلي، حين تصنع الأشياء من مواد غير تلك المواد التي اعتاد الدماغ عليها، ذلك يدفع الوعي إلى التشكيك في العالم الفيزيائي من حوله
"زبيد" المدينة التي نشأت أثر مطاردة المرأة التي تغيب في الحلم، تشابه تخيلها تجربة الدخول إلى المعرض الجديد للفنانة عفراء الظاهري، والتي يدخل فيه المتلقي إلى عالم مبني بالكامل من مادة الشَعر الإنساني. وبما أن الحضور الإنساني غائب في الأعمال الفنية، فإن التجول في عالم فني مرتكز على الشَعر البشري يوحي على الدوام بجدلية الحضور والغياب، اللحظة والزمن.
تقول الفنانة عن خيارها الفني: "اختبار الشَعر كحامل مضمر للزمن والذاكرة. تختلف الرؤية للشَعر بين الثقافات، وهو بدوره أيضاً رمز ثقافي. الشَعر كما النباتات، كلاهما ينمو ويزهر. إن الشَعر الذي ينمو ويحضر كاستطالة جزء عضوي من جسم الإنسان، يعبر عن النمو، عن الزمن، عن الاستمرارية. إنه تعبير دقيق عن التراكم الحيوي. ومن خلال تجربتي الفنية مع هذه المادة، أجد أن توظيفها فنياً يحيل دوماً إلى مفاهيم الذاكرة والزمن".
حكايات عالمية عن الشَعر
عملها المعنون "Tasreeha, 2020" تجهيز ضخم من جدائل الشَعر الممتد من سقف المعرض والممتد على الأرضية، العمل ينقل ما هو حميمي فردي إلى فضاء العام المركزي، ما يلبث المتلقي أن يستذكر حضور الشَعر في الفن، بحكاية مثل صاحبة الشَعر الطويل التي أنزلت شعرها عبر البرج الحجري لتمكن حبيبها من الصعود إليها، أو صورة مثل "الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع" لأنسي الحاج. وبما أن الشَعر ليس رمزاً أنثوياً فقط، بل أيضاً يدلل على الذكورة، فإن الحكاية التوراتية عن الجبار شمشون، الذي تكمن قوته في شعره، تحضر أيضاً إلى الذاكرة. لكن الحضور الإنساني غائب عن تجهيز الفنانة؟ ما يعيدنا مجدداً إلى جدلية الحضور والغياب.
في "المدن والإشارات 1" يتخيل الكاتب كاليفنو مدينة "تامارا"، التي قلّما تتوقف العين فيها على شيء ما، حتى تتعرف فيه على إشارة لشيء آخر. وفي شوارع المدينة لا ترى العين فيها أشياء، بل صوراً لأشياء تشير إلى أشياء أخرى. كل شيء في المدينة يشير إلى شيء آخر. كذلك تجربة التواصل مع عمل الفنانة المعنون "Fil Al Shaar، 2020" حيث يسير المتلقي بجانب فضاءات رباعية تتدلى فيها جدائل الشَعر على امتداد المكان. إن جدائل الشَعر في الصالة تحيل إلى أشياء أخرى، بإمكانها أن توحي بالقضبان، الأسوار، الشلالات، الستائر. ولأن المادة هي الشَعر، فإن الإحالة إلى ما هو حيوي أيضاً حاضرة: التوالد، الاستطالات العضوية، الخلايا المتسلسلة. هكذا يدمج هذا العمل بين الامتداد في الفضاء وبين عضوية مادة الشَعر والإحالات التي تثيرها في ذهن المتلقي.
الشَعر رمز ثقافي
لا يمكن التغاضي عن الاختلاف في التعامل مع الشَعر بين ثقافة وأخرى، وبينما هو محجوب عن الرؤية في بعض الثقافات، فإنه يعبر عن الحرية في ثقافات أخرى. إن نصب التجهيز كاملاً من الشَعر في الصالة الفنية تعبير عن حرية، ربما تكون مفقودة في المنطقة العربية. إن الصالة الفنية، وفق هذا التأويل، تصبح حلماً نسائياً بالحرية، تقول الفنانة: "إن الكثيرين ينظرون إلى شَعر المرأة وكأنه جزء من زينتها أو حشمتها، كما يعتقد بأنه ستر للمرأة في المجتمع الإماراتي، فيجب الاهتمام به بصورة معينة، ليظهر بشكل خاص متطابق بين النساء، وليس للتعبير عن الشخصية الفردية لكل امرأة".
الشَعر يحيل إلى الإنسان، إلى الحكاية
في عملها بعنوان "To detangle Series، 2020"، نجد جدائل الشَعر تخرج مما يشبه الصندوق، ذلك يحيل إلى صندوق الحكايات التي تتوالد منه القصص. الشَعر كالحكاية هو رمز للإنساني، وهو رمز لمرور الزمن، وبالتالي الذاكرة. وكذلك يرتبط بالذاكرة والحكايات عمل بعنوان "One at a Time، 2020" حيث نرى نهايات بقايا شَعر ملصوقة إلى الجدار، وكأنها بقايا أثر لحكاية، وهذا ما تصرح به الفنانة باستمرار، برغبتها بتجريب مادة الشَعر كحاملة لمضمون الزمان والذاكرة، ذلك أنه قادر في التعبير عن الوقت من خلال التبدلات التي تطرأ على هيئته وشكله. كذلك الكاتب كالفينو في "المدن والإشارات 2"، يبتكر مدينة "زيرما": "المدينة التكرارية. إنها تكرر نفسها بحيث ينحفر شيء ما في الذاكرة، فالذاكرة تكرارية. إنها تكرر إشاراتها من أجل أن تبدأ المدينة بالوجود". هكذا تصبح المدينة مولدة للذاكرة والذاكرة مولدة للمدينة، كما الشَعر مولداً للإحالات على الزمن والذاكرة.
الشَعر في مفاهيم العمارة وعلم الجمال
إن تجاور الشَعر مع مواد أخرى مثل الإسمنت والزجاج، في الأعمال الفنية للفنانة، كما هو الحال في عملها المعنون "Too Pretty To Let Go, Too Heavy To Carry On، 2020"، الذي يوحي بأن جديلة من الشَعر قادرة على تحمل التوازن بين قطعتين من الإسمنت، يفتح على أسئلة تتعلق بتاريخ العمارة. فبما أن الشَعر مادة تنمو باستمرار، كيف استفاد منها الإنسان في صناعة الأشياء التي تساعده في العمارة؟ بيوت الشَعر في التاريخ المعروفة، وكذلك كساء الإنسان ارتبط في مراحل طويلة بالشَعر، أو بالريش الخاص بالطيور. لكن السؤال المتعلق بالعمارة والذي يطرحه هذا العمل، يتعلق أيضاً بالمستوى الجمالي، فهو يقترح جماليات إسمنتية أو زجاجية في العمارة، تستلهم الأشكال التي يتجمع فيها الشَعر، ينمو، أو ينجدل.
إن العمل الفني الأوضح للفنانة التي تتبادل فيها الجماليات بين مواد مختلفة هو "Split Ends، 2020". في "المدن والإشارات 4" يكتب كالفينو عن "إيباتسيا" المدينة التي لا يطال فيها التغيير الكلمات فقط بل الأشياء. وكذلك هذا العمل الفني الذي تقدم فيه الفنانة جديلة ضخمة من الشَعر، مصنوعة من الإسمنت والاسفنج. أن يأخذ الإسمنت شكل جديلة الشَعر، أو أن يصمم باستلهامٍ منها، يوحي العمل بأنه سكة حديد، آلة ميكانيكية الحركة أو أنابيب ضخ حلزونية، يوحي بأنه قادر على أداء دور في المكننة والعمارة والديناميكية الفيزيائية.
تدفعنا التماثيل الشمعية للمشاهير للتشكيك بحقيقتها، وبالتالي بحقيقة العالم الفيزيائي من حولنا، لكن ذلك يفتح الخيال لتقبل الجديد
إن التجربة الفنية التي تقدمها الفنانة تبين وجود مساحات واسعة للاكتشاف، تسير فيها هذه التجربة، حتى أن الأعمال الفنية التي تقدمها تبدو وكأنها أشياء تحيل إلى مدن غير مرئية، حيث ترسم المسارات بين نقاط معلقة في الفراغ، والدخول إلى فضاءاتها الفنية يذكر بما كتبه الإيطالي كاليفنو عن مدينة "بنتسلي" المتخيلة، فأنت تتقدم ساعات ولا تدري إذا ما أصبحت في قلب المدينة أم ما زلت خارجها، وبينما تشعر بأنك اجتزت المدينة، تدفعك فضاءات الأعمال الفنية للسير قدماً. تمرّ من حد إلى حد، ومن عمل فني إلى آخر، دون أن تصل للخروج منها. كما هو الحال في عملها بعنوان "My Urban Desert، 2016" الذي يوحي للزائر بصحراء غير مرئية في فضاء المعرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...