شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كيف نقف عندما تثقلنا هموم الحياة؟ أين نضع أيدينا؟ معرض يجيب من دمشق

كيف نقف عندما تثقلنا هموم الحياة؟ أين نضع أيدينا؟ معرض يجيب من دمشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 11 فبراير 202008:22 م

كيف نقف عندما تثقلنا هموم الحياة؟ أين نضع أيدينا؟ خلف ظهرنا أم أمام صدورنا؟ وإلى أين تتجه رؤوسنا؟ هل نحنيها ونلقي بها بين أكتافنا، أم نرفعها ونمتنع عن النظر إلى أسفل؟ وهل فعلاً تختلف وضعية وقوفنا كلما تقدم بنا العمر وناءت ظهورنا تحت ثقل أفكارنا ومشاكل حياتنا اليومية؟

أسئلة قد لا نفكر في طرحها على أنفسنا عادة، ونحن مشغولون بتسارع إيقاع حياتنا كل يوم. وضعيات قد تتخذها أجسادنا في غفلة منا، وكأنها تريد أن تتخلص من همومها، ومشاهد قد تمر بجوارنا في كل مكان ولحظة دون أن نوليها أي اهتمام يذكر.

لكن الأمر كان مختلفاً مع المصور السوري عمر صناديقي، والذي اختار الانتباه لكل تلك التفاصيل وتوثيقها ثم تقديمها على شكل صور فوتوغرافية، ضمن معرض تصوير ضوئي افتتح في غاليري قزح للفنون في العاصمة السورية دمشق الأسبوع الفائت، تحت عنوان "بلا قيد".

كيف نقف عندما تثقلنا هموم الحياة؟ أين نضع أيدينا؟ خلف ظهرنا أم أمام صدورنا؟ وإلى أين تتجه رؤوسنا؟ هل نحنيها ونلقي بها بين أكتافنا، أم نرفعها ونمتنع عن النظر إلى أسفل؟ وهل فعلاً تختلف وضعية وقوفنا كلما تقدم بنا العمر وناءت ظهورنا تحت ثقل أفكارنا ومشاكل حياتنا اليومية؟

ومن خلال المعرض الموزّع بين قاعتين داخل صالة العرض، وضع عمر بين أيدي الزوار صوراً لشخصيات لا يجمعها شيء سوى وقوفها واضعة أيديها خلف ظهرها، ومتأملة مشهداً أو حدثاً ما، أو مارّة فقط من جانبه دون اكتراث، ومن غير أن نرى أو نميز وجوه معظم تلك الشخصيات. ونقرأ في بطاقة تعريف المعرض: "لكل منا أفكاره وهمومه ومشاكله. ومن خلال هذه الشخصيات التي ستشاهدها، قد تجد في إحداها نفسك.. أتمنى أن تضع نفسك في مكانهم، بمعزل عن جميع الظروف المحيطة بك".

خمس وأربعون صورة وحكاية، وتسعون يداً

تتنوع الصور في معرض "بلا قيد" زمنياً وجغرافياً، فكل واحدة التقطت بتاريخ مختلف –على الأغلب في السنوات الخمس الأخيرة- وفي بقعة ما داخل سوريا، وأيضاً من حيث حكاياتها ومواضيعها وأبطالها.

تظهر الصور مشاهد من مختلف مناطق الحرب في سوريا، والتي برع المصور بتوثيقها، خاصة خلال عمله كمصور لوكالة رويترز للأنباء: أطفال بأحد مراكز إيواء النازحين بدمشق، تجمع عقب تفجير إحدى محطات الحافلات بمدينة جبلة، إدخال المساعدات لواحدة من المناطق الساخنة بريف دمشق، وإتمام لعمليات مصالحة بين القوات الحكومية والفصائل المعارضة المسلحة جنوب البلاد

بداية، تقع عينا الزائر على صورة لرجل ستيني أو سبعيني ربما، يرتدي عباءة فاتحة اللون وعمامة بيضاء، ويقف واضعاً يديه خلف ظهره وهما تمسكان مسبحة صلاة. إلى جانبها صورة رجل آخر يقف بالطريقة ذاتها داخل واحدة من المؤسسات الاستهلاكية التابعة لوزارة التجارة في سوريا، والتي تبيع عادة السلع الغذائية الأساسية بالأسعار المدعومة.

تلي هاتين الصورتين مجموعة من تسع صور وضعت بجوار وفوق بعضها البعض. تتحدث الصور الثلاث الأولى عن فعاليات مختلفة في دمشق، إحداها في كلية الفنون الجميلة، الثانية في أحد مسارح المدينة، والثالثة ضمن معرض فني في صالة قزح نفسها، وتشترك جميعها بوجود شخصيات لا تبدو وجوهها واضحة بشكل كامل، لكنها تتأمل الحدث أو الفعالية بشغف وانتباه.

الصور الثلاث التالية هي سلسلة متكاملة لفلاحات عائدات من العمل في ريف مدينة طرطوس الساحلية، ويحملن أبناءهن الصغار، مستخدمات أيديهن المتشابكة خلف ظهورهن لتثبيت هذا الحمل. وتظهر في الصور الثلاث التالية مشاهد متنوعة، إحداها لامرأة تسير في سوق الحميدية الشعبي وسط دمشق ويداها وراء ظهرها، وهي تحمل كيساً صغيراً أسود اللون.

خلال جولاته الميدانية وتغطياته الصحفية لوكالة رويترز، انشغل عمر بالنظر بدقة أكبر إلى كيفية وقوف الأشخاص الذين يصادفهم، فالقصة لم تعد تتعلق بكامل الجسد وطريقة وقوفه، وإنما تحديداً بالأيدي وما تفعله أو تحمله، والحالة النفسية الكامنة وراء ذلك

على الحائط المقابل نرى ثلاث صور للرجل نفسه، وهي ملتقطة في مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية عام 2018، وتظهر الرجل العجوز بثلاث لقطات مختلفة، وهو ينظر لشارع في المدينة وأحد السراديب التي كان يستخدمها مع عائلته للاختباء أيام الحرب، لكننا لا نرى من الرجل سوى يديه وعقب سيجارته.

تتتابع الصور لتُظهر مشاهدَ من مختلف مناطق الحرب في سوريا، والتي برع المصور بتوثيقها، خاصة خلال عمله كمصور لوكالة رويترز للأنباء، من تلك المشاهد: أطفال بأحد مراكز إيواء النازحين بدمشق، تجمع عقب تفجير إحدى محطات الحافلات بمدينة جبلة، إدخال المساعدات لواحدة من المناطق الساخنة بريف دمشق، وإتمام لعمليات مصالحة بين القوات الحكومية والفصائل المعارضة المسلحة جنوب البلاد.

إضافة لذلك، نرى صوراً من الحياة اليومية في مختلف شوارع المدن السورية: رجل يمشي إلى جانب حافلة بيضاء كبيرة. عجوز يسير وسط أبنية مدمرة في أحد أحياء حلب الشرقية. رجل ينظر إلى جدار الجامع الأموي بحلب، وآخر وسط منتزه جنوب دمشق. صورة واحدة فقط تعود لسنوات ما قبل الحرب، وفيها فلاحة تحمل عصا خشبية وسط حقول منطقة اللجاة بدرعا جنوب سوريا. جميعهم بأيدٍ متشابكة خلف الظهر.

عندما يلاحق المصور شخصيات معرضه

"انطلقت فكرة المعرض عام 2017، وتحديداً مع صورة الرجل صاحب المسبحة والعمامة في حلب، حيث لفتتني طريقة وقوفه وتأمله للمشهد أمامه، وتذكرت صورة مشابهة التقطتُها في حي المزة بدمشق، لرجل يقف بذات الطريقة تقريباً في المؤسسة الاستهلاكية، وهنا كانت بداية هذه المتتالية التي استعنتُ لإكمالها بصور من أرشيفي ومن عملي اللاحق"، يقول عمر صناديقي أثناء لقاء مع رصيف22، داخل أروقة صالة قزح.

في الأعوام التالية، وخلال جولاته الميدانية وتغطياته الصحفية، انشغل عمر بالنظر بدقة أكبر إلى كيفية وقوف الأشخاص الذين يصادفهم، ثم تطورت الفكرة وتبلورت بشكل أكثر وضوحاً، فالقصة لم تعد تتعلق بكامل الجسد وطريقة وقوفه، وإنما تحديداً بالأيدي وما تفعله أو تحمله، والحالة النفسية الكامنة وراء ذلك.

"حينها، صرت أتقصّد ملاحقة الناس ومتابعتهم، لأرى ماذا يفعلون وأين وكيف يضعون أيديهم، الأمر الذي صارت له أكثر من دلالة بالنسبة لي وبات هو محور العمل، دون أن يعنيني بالضرورة النظر لوجوههم"، يتابع المصور حديثه مشيراً إلى أنه وفي بداية الأمر ركّز بشكل أساسي على كبار السن، معتقداً بأن طريقة الوقوف هذه مع تشابك الأيدي خلف الظهر لا تنطبق سوى عليهم، لكنه لاحظ وجودها حتى لدى من هم أصغر سناً، وربما الأطفال، إن كانوا ضمن حالات أو مواقف تحملهم هموماً وأعباء أكبر منهم.

وتدريجياً، ومع اكتمال فكرة وشخصيات الصور، توجه عمر لتطوير العمل فنياً، مع التركيز بشكل أكبر على جماليات الصور وتوزيع الكتل والألوان والخطوط فيها، فلم يعد الأمر مجرد التقاط صورة لقصة ما، وإنما متابعة اللحظة الملائمة، سواء من الناحية الفنية والجمالية، أو بما يخص القصة المحيطة وعناصرها وكيفية تموضع البطل ضمن لقطة فنية، وفي نهاية المطاف، اختار عمر الصور الخمس وأربعين لتكون مجموعة معرضه الفردي الأول.

قد يظن زائر "بلا قيد" للوهلة الأولى بأنه سيعاين صوراً لأشخاص تحرروا من قيودهم وما تكبله بهم الحياة، لكنه ومع كل صورة ومع كل يدين متشابكتين يرى ألماً وهمّاً ومعاناة، تبدو فعلاً بأنها القيد الأكبر، ربما لنا جميعاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard