"هذا هو سر تأخر مجتمعنا، المجتمع الشرقي كلّه، أننا نعتبر الابنة طفلة حتى بعد أن تصل إلى العشرين أو الثلاثين. لا نعترف أنها بلغت سن الرشد ولا نطمئن عليها إلا بعد أن تتزوج وكأن الزواج هو شهادة ميلاد البنت".
ما جرى في غزَّة، الأحد 14 شباط/ فبراير، أعاد هذه المقولة للكاتب المِصري إحسان عبد القدوس إلى السطح مُجدداً.
في تعميمه القضائي الأول لعام 2021، أصدر المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في قطاع غزة، الأحد، قراراً يمنع سفر الأنثى غير المتزوجة "بكراً كانت أو ثيباً" دون الحصول على إذن من "وليها العاصب" أي أبيها أو أخيها أو عمها أو جدها لأبيها. ونص القرار: "ولوليها أن يمنعها من السفر إذا كان في سفرها ضرر محض، أو وجدت دعوى قضائية بينهما تستلزم المنع من السفر" وذلك وفق المادة الرابعة من التعميم، من دون تحديد البنود التي يعتبر القرار أنها "ضرر محض".
وتضمّن التعميم الذي أصدره المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، بمادته الثالثة، تقييد حُرية الذكور ممن تجاوزا الـ18، إذ "يجوز لأحد الأبوين والجد لأب منع الولد الذي تجاوز الثامنة عشرة [...] من السفر إذا كان يترتب على سفره ضرر محض، بإقامة دعوى قضائية لدى المحكمة المختصة".
على النقيض، تضمّن التعميم ذاته انتصاراً ولو صغيراً للأُمهات المُطلقات إذ بموجبه "يمنع الأب من السفر بأولاده القاصرين والمشمولين بحضانة النساء بلا رضا حاضنتهم. وفي حال رضاها يتم عمل حُجَّة عدم ممانعة من سفر لدى محكمة أول درجة حسب الأصول"، وفقاً للمادة الأولى من التعميم.
ولكن يُحق للرجل الاعتراض في المحكمة، في حال عدم موافقة الأم على سفر أبنائها، إذ تنص المادة الأولى: "في حال عدم موافقة الحاضنة على سفر الأب بأولاد المذكورين في الفقرة الأولى، يحق له أن يتقدم بمشروحات إذن بالسفر لدى محكمة أول درجة على الحاضنة إذا كان هناك ضرورة للسفر".
يسقط القرار نفسه حق الأم المطلقة في ضمان عدم سفر أبنائها إذا لم تكن حاضنة لهم، وذلك بموجب المادة الثانية من التعميم ذاته، والتي تنص على أنه "إذا انتقلت حضانة القاصرين والمشمولين بحضانة النساء إلى الأب الذي طلق زوجته، وتزوجت بأجنبي ولم يوجد من ينتقل إليها حق الحضانة، جاز للأب أن يسافر بأولاده إلى أن يعود حق أمهم أو من يقوم مقامها في الحضانة، بشرط حصوله على إذن من محكمة أول درجة".
"يُمنع سفر الأُنثى غير المتزوجة بكراً كانت أو ثيباً من دون الحصول على إذن من وليها العاصب"... قرار صدر من غزّة عام 2021
"مخالفة صريحة"
بالتزامن مع صدور التعميم، نشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بياناً صحافياً أكد فيه أن هذا القرار يشكّل "مخالفة صريحة للقانون الأساسي الفلسطيني، والمواثيق الدولية ذات الصلة، وانتهاكاً واضحاً للحق في السفر".
وذكر المرصد الحقوقي أنه يتفهم القيود الواردة في المادة الأولى من التعميم، كونها تتعلق بالأطفال القاصرين وتراعي حماية الأطفال وحضانة أمهم لهم، ومنع أحد الآباء من التصرف في سفرهم منفرداً، مُنتقداً في المقابل المادة الثانية بالقول إنها "تُسقط حق الأم باستضافة ومشاهدة أطفالها بسبب عدم حضانتها لهم".
تعليقاً على المادة الثالثة التي تُقيّد حُرية الذكور ممن تجاوزوا الـ18 عاماً، قال المرصد إنها "تُخالف القانون الأساسي الفلسطيني، والمواثيق الدولية التي نصت على أنّ الأشخاص الذين تجاوزوا هذه السن (18 عاماً) أشخاص راشدون يتمتعون بالأهلية الكاملة، وبالتالي لا يجوز تقييد حريتهم وحقوقهم بما في ذلك الحق في السفر". وأضاف: "المادة تضمنت مصطلحاً فضفاضاً ومبهماً كـ'الضرر المحض'، ما يمكن تفسيره لمصلحة تقييد هذا الحق".
وانتقد بشدة المادة الرابعة التي تُقيد حرية المرأة غير المتزوجة، لافتاً إلى أن هذا البند ينطوي على تمييز واضح ضد المرأة، إذ "يُفرض عليها الحصول على إذن وليها قبل السفر، وهو ما يعني تقييد حقها المكفول قانوناً في حرية السفر"، مُطالباً المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بالعدول عن التعميم القضائي الأخير، "كون بنوده تتعارض مع أصول القانون والحق المكفول للأشخاص في التنقل والسفر، كما دعاه إلى ضرورة مراعاة سمو القوانين والالتزام بالنصوص الواردة في القانون الأعلى في البلاد". إذ يكفل القانون الأساسي الفلسطيني، الذي يقوم مقام الدستور، حق المواطنين في التنقل والسفر بحسب المادة (11) من القانون، والتي تنص على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة لا تمس. كما لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد، أو منعه من التنقل إلا بأمر قضائي وفقًا لأحكام القانون".
كذلك أكدت المادة (20) من القانون الأساسي الفلسطيني "حرية الإقامة والتنقل في حدود القانون".
"يُمنع سفر الأُنثى غير المتزوجة بكراً كانت أو ثيباً من دون الحصول على إذن من وليها… ويجوز لأحد الأبوين والجد لأب منع الولد الذي تجاوز الثامنة عشرة من السفر"... الحرية الشخصية في غزة عام 2021
جدل واسع
قرار المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في غزة تسبب في جدل واسع، خاصةً أنه يأتي بعدما رصد المجتمع الحقوقي الدولى مدى الانفتاح في المملكة العربية السعودية التي كانت تمتلك حتى وقت قريب واحداً من أسوأ السجلات الدولية في مجال حقوق النساء واحترام الحريات الفردية، إذ كانت السعودية تضع القيد نفسه الذي فرضه القضاء الشرعي الغزِّي على حق التنقل والسفر للنساء حتى في آب/أغسطس 2019 عندما أعلنت السعودية تعديلات على قوانينها تتيح للنساء اللوتي هن فوق 21 عاماً الحق في السفر إلى الخارج بحرية، واستصدار جوازات سفر من دون إذن أولياء أمورهن.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية قد سجلت اعتراضها على نص القرار السعودي، باعتباره "لا يعزز" حق السفر إلى الخارج، "ما يترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية قيام أولياء الأمور الذكور باستصدار أوامر من المحكمة تقيّد سفر قريباتهن الإناث".
ليست سابقة أولى
يعاني سكان قطاع غزة، الخاضع منذ سنوات لحكم حركة حماس ذات الميول الأصولية، من تراجع واسع في سجل حقوق الإنسان عموماً، وحقوق النساء خصوصاً.
ومع أن المنظمات الدولية وجهت انتقادات متعددة للسلطة الفلسطينية وقطاع غزة في ملف حقوق الإنسان، هناك ما يشبه الإجماع على أن سجل حقوق النساء في قطاع غزة أكثر تراجعًا من الملف نفسه في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية.
ورصدت الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" في ورقة حول أوضاع المرأة الفلسطينية نشرتها الهيئة عام 2018، أن نساء فلسطين يدفعن الثمن الأكبر لحالة الانقسام السياسي الجارية بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس والكيانات السياسية الموالية لكل منهما. في إشارة إلى الانقسام القضائي والتشريعي الذي يفصل بين الأراضي المحكومة من الجانبين و"جور" القوانين في قطاع غزة على حقوق النساء، وهو ما رصدته دراسة للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عنت برصد وتقييم الوضع القانوني للمرأة في قطاع غزة في ضوء الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد النساء.
وتُفرض على نساء غزّة بالتحديد قيود مضاعفة نظراً لإقامتهن في قطاع مُحاصر منذ نحو 14 عاماً، لا يُقيد من تنقلهنّ فقط، بل جعلهنّ يواجهنّ ظروفاً مادية صعبة إذ ارتفعت نسبة البطالة بين النساء المتعلمات في غزة (78.3% في الربع الثاني من 2018) "بسبب الحصار والقيود الصارمة على حركة الناس والبضائع والعمليات العسكرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى أثر الانقسام السياسي الفلسطيني"، وفقاً للأمم المتحدة.
وتلعب ثقافة "العيب" دوراً كبيراً بين أفراد المُجتمع الغزّي الذي يُصنف نفسه "مُحافظاً"، وينتهك بطُرق مباشرة وغير مباشرة حُريات النساء الشخصية.
على شبكات التواصل الاجتماعي، انقسم الفلسطينيون حول القرار، إذ اعتبر أحد المُعترضين على تويتر أن القرار بمثابة "تغول حقيقي على حرية الفرد إللي أصلاً ما عنده حرية في هيك بلد !". وتابع: "أنت مفروض تسهل كل عمليات خروج الإنسان بمختلف جنسه من عندك ليشوف حياته بعيد عنك وتدعيله كمان الله يوفقه".
وبلهجات ساخرة، كُتب على جدران التواصل الاجتماعي: "الله عليكي يا غزة"، و"صباح الخير يا وطن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت