"أنتم (الإسرائيليون) تعتقدون أننا لسنا بشراً. أنا مؤمن بشيء واحد في الحياة: الإنسان هو إنسان، ولا فرق بين كونه عربياً أو يهودياً. لقد استوليتم على أرضنا بالقوة، على الأقل لا تقتلوا أطفالنا".
كلمات مؤثرة جرت على لسان الأب الفلسطيني المكلوم ماهر نوفل (61 عاماً) والدموع تنهمر من عينيه وهو يتحدث عن فقدانه فلذة كبده، خالد (34 عاماً)، بعدما أطلق عليه مستوطن إسرائيلي النار وحرمه جيش الاحتلال حتى من احتضان جثمانه أو دفنه.
جريمة مفجعة
قبل أن تدق الساعة الرابعة فجر شباط/ فبراير، قُتل خالد أعزلَ في بؤرة سديه إفرايم الاستيطانية غير القانونية التي أقيمت على أرض عائلته المغتصبة. تفاصيل الجريمة ليست واضحة ولا حتى قابلة للاستيعاب وربما ستبقى سراً إذ دُفنت الحقيقة مع صعود روح الشاب الفلسطيني الذي يعمل محاسباً في مصلحة الضرائب برام الله إلى خالقها.
مع ذلك، المؤكد أن ملابسات القصة تعكس إلى أي مدى فاشية الأبارتهايد الإسرائيلي آخذة في الازدياد. حتى الآن، لم تفتح السلطات الأمنية الإسرائيلية أي تحقيق في الواقعة وليس متوقعاً أن يحدث ذلك بعدما اعتمدت رواية القتلة، المستوطنين، باعتبار إطلاق النار رداً على "اقتحام إرهابي". الجانب الأكثر مأسوية لأسرة المغدور هو حرمانها من وداعه الأخير نتيجة احتجاز جثمانه.
دأبت دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة على "أسر" جثامين الفلسطينيين الذين يقتلون في حوادث ضد إسرائيل أو أي من مواطنيها أو يموتون داخل سجونها.
أمر آخر أشد قسوة - ربما لا يحدث إلا في وطن محتل كفلسطين - هو أن القاتل يعيش على بعد بضع مئات من الأمتار من أسرة ضحيته، بل ينعم بحياته على أرض سلبها من الذي قتله بكل تبجح. تعيش أسرة خالد في قرية رأس كركر، شمال غربي رام الله. أما أرضها المسلوبة لصالح البؤرة الاستيطانية غير المرخصة، فتقع على جبل الريسان القريب.
"استوليتم على أرضنا بالقوة، على الأقل لا تقتلوا أطفالنا"... مستوطن إسرائيلي يقتل شاباً فلسطينياً أعزل وجيش الاحتلال يستند إلى رواية القتلة ويرفض التحقيق أو تسليم جثمان المغدور لأهله
بينما كان الأب المكلوم يتحدث إلى صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وصل شاب من القرية ليبلغه أنه رأى قاتل نجله مسلحاً ببندقية. رجحت "هآرتس": "بلا شك، نفس السلاح الذي قتل خالد. السلاح لم يصادر ولم توجه اتهامات للمستوطن الذي أطلقه".
عقب تصفية خالد، هجم جيش الاحتلال على منزل ذويه. لم يخبرهم بما حدث، وإنما قام بتفتيش المنزل بعنف وحقق مع الأب ونجله الآخر وسأل عن خالد. فوجىء الأب الذي كان مستيقظاً بأن نجله لم يكن في المنزل. لكنه رد بأن خالد شخص "منزلي"، إذا لم يكن في شقته بالطابق العلوي فحتماً سيكون في شقته الجديدة في رام الله التي كان بصدد الانتقال إليها لأنها قرب عمله.
غادر جنود الاحتلال الأسرة ولم يخبروها بما جرى لابنها. تلقى الأب لاحقاً اتصالاً من السلطة الفلسطينية، علم خلاله بمقتل المحاسب الشاب والتحفظ على جثمانه. وهو لا يزال عاجزاً عن استيعاب الأمر أو معرفة سبب وجود ابنه في المستوطنة في ذلك الوقت بعد مرور أسبوع على الحادث. قال الأب: "فكرت في الأمر كثيراً. إذا تتبعت ما قيل في إسرائيل، إما أن ابني غادر القرية وأراد الوصول إلى رام الله، وأخذه المستوطنون عند التقاطع بالقوة إلى سديه إفرايم، أو ذهب إلى هناك بمفرده وليس لدي أي فكرة عن السبب. لم يذهب إلى هناك من قبل، فلماذا يذهب الآن؟ لا أحد يجرؤ على الذهاب إلى هناك. أنا مشوش تماماً".
من أسباب حيرة الأب أنه عمل، وهو مقاول ترميم وكهربائي، طوال حياته في إسرائيل وكذلك في مستوطنات، وأنه وأولاده الثلاثة الذين درسوا في الجامعة لم يتعرضوا أو يسببوا مشكلات من قبل. قال: "ذهب جميع أبنائي (ثلاثة شبان وابنتان) إلى الجامعة، وجميعهم متعلمون، وجميعهم مدللون، ولا ينقصهم أي شيء ولم نتسبب بأي مشاكل. 40 عاماً عملت في إسرائيل وأنا عضو في مجلس القرية، ولم أواجه أنا وأطفالي أي مشاكل".
مجرم مطلق السراح
اللافت أن الأب كان ضحية هجوم عنصري قبل 22 عاماً. عام 1999، أصيب ماهر في حادث طعن نفّذه إسرائيلي في مدينة اللد. تضررت رئتاه وقتذاك وعولج في المستشفى وحين خرج "جاء الحي بأكمله للاعتذار". أُرسل المعتدي إلى مستشفى للمصابين بأمراض عقلية.
أن يقتل ابنك الأعزل بتهمة "الإرهاب"، بأيدي من اغتصب أرضك وعليها، فلا يحاكم المجرم ولا يسحب سلاحه ويظل يتجول قرب منزلك متفاخراً بسلاحه بينما أنت حُرمت حتى من رؤية جثمان فقيدك أو دفنه… يحدث هذا كله فقط في ظل الأبارتهايد الإسرائيلي
لكن قاتل الابن لم ولن يتعرض لأي مساءلة. زعم جيش الاحتلال في بيان اعتمد حصراً على شهادة القتلة: "يشير تحقيق أولي في مكان الحادث إلى أنه في الساعة 3:45 صباحاً قاد إرهابي سيارته بسرعة إلى داخل أراضي مزرعة سديه إفرايم، وعبر المنطقة بأكملها وأوقف سيارته بالقرب من باب صاحب المزرعة. خرج الإرهابي من السيارة وركض باتجاه منزل صاحب المزرعة وهو يهتف ‘الله أكبر‘ بينما يحاول اختراق الباب الذي كان مغلقاً. في الوقت نفسه، رصد حارس المزرعة الإرهابي وبدأ بالصراخ للحراس الآخرين الذين ينامون في مبنى مجاور. استمر الإرهابي في الجري باتجاه حارس المزرعة الذي لم يكن مسلحاً، وتشاجر معه. قام حارس آخر بتحييد (قتل) الإرهابي بسلاحه مع صاحب المزرعة الذي خرج بسلاحه. وقد تم تفتيش جثة الإرهابي وسيارته من قبل خبراء، ولم يتم العثور على سلاح معه".
حتى الصحف الإسرائيلية، شككت في رواية الجيش التي لا ترقى إلى سيناريو فيلم هابط. أثارت هذه الصحف التساؤلات العالقة: كيف كان الشاب الفلسطيني بصدد تنفيذ هجوم إرهابي بدون سلاح؟ كيف ومتى جاء كل هؤلاء الشهود في هذا التوقيت ورسموا رواية بتلك الحبكة غير المنطقية في ظل عدم وجود كاميرات مراقبة بالمكان؟ على الأقل، من الذي شاهد خالد وهو يركض نحو المنزل والجميع نيام والأبواب مؤصدة كما قيل؟ كذلك ادعاء أن المغدور صرخ "الله أكبر" وهو يهاجم "أعزلَ" يضفي الكثير من اللا منطقية على الرواية حتى مع عدم القدرة على تخمين سبب وجود الشاب الفلسطيني في المكان في مثل هذا التوقيت.
اكتفاء جيش الاحتلال بالتحقيق الأولي في موقع الحادث واعتماد رواية المستوطنين المزعومين "شهوداً" هما الأكثر إثارة للريبة، مع العلم أن القاتل إيتان زئيف - سارق المزرعة والمنزل مسرح الجريمة من آل نوفل - دين بتهمة "الاعتداء في ظروف خطيرة" بعدما فتح النار على مواطن فلسطيني في تموز/ يوليو من العام الماضي.
تمت محاكمة زئيف وإدانته وسحب سلاحه في واحدة من الحالات النادرة لإدانة المستوطنين المتورطين في العنف ضد الفلسطينيين على أكثرية هذه الاعتداءات.
حين أدين زئيف العام الماضي، كافح يفتاح نوركين، قائد اللواء المحلي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، لإعادة السلاح إليه. ليس واضحاً إذا كان السلاح قد أعيد أم لا. لكن مسؤولاً إسرائيلياً رجح أن يكون السلاح الذي قُتل به خالد لزوجته أو لأحد عماله.
عقب قتله خالد، استمر نوركين في الدفاع عن المستوطن قائلاً إن الحادث كان "محاولة هجوم، مما يبرر استخدام القوة المميتة ضد نوفل، على الرغم من الظروف غير العادية – الساعة المبكرة وعدم وجود سلاح – والأدلة المادية المحدودة".
حياة مفقودة
على الجانب الآخر، توجد حياة مفقودة وأسرة مكلومة بلا مستقبلها الذي رسمته. قُتل خالد في ريعان شبابه وخلّف وراءه زوجةً شابة - سوزان نوفل المهندسة المعمارية أردنية المولد - وطفلاً لم يبلغ الخامسة من العمر.
كانت سوزان وطفلها يوسف يقضيان إجازة مع أسرتها في عمان قبل أن يعلقا هناك لغلق معبر جسر الملك حسين ضمن تدابير مكافحة وباء كورونا. حُرم الاثنان من خالد حياً بسبب كورونا وميتاً الآن بسبب الفاشية الإسرائيلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...