لعلّ مقولة "عايشين من حلاوة الروح" هي الأكثر التصاقاً بواقع السوريين حالياً، إذ هناك حالة شبه عامة بين الشعب السوري، تجعل أفراده يبدون وكأنهم في خضم "سكرات الموت"، أو بحسب مقولة المتنبي: "كالطير يرقص مذبوحاً من الألم".
ومن شدة التراجيديا وأهوالها، كثرة جلّاديها وقسوة أقدارها، فإنهم باتوا يكفرون بكل شيء: بالله ونخَّاسيه، تُجَّار معابده، صيارفة هياكله الفارهة، المُرائين، مُطبِّقي عدالته، ممثليه على الأرض، نوَّاب عزرائيله وأبالسته المتمترسين بثياب ملائكته…
ما يزيد الوضع مأساوية أن أرواح السوريين لم تعد قادرة على النهوض من رمادها كطائر الفينيق
لذلك ترى السوريين يهيمون مُسائلين الرَّب: "فهل تجمع في روحي وفي جسدي.. آلام عيسى ويعقوب وذا النون؟"، من غير أن ينتظروا إجابة أو رداً ولا حتى تعليقاً سماوياً يشفي غليلهم، إذ باتوا غارقين بيأسهم، ويعيشون يومياً "أضيق العيش"، بعدما رأوا بأم أعينهم الذابلة من الألم، كيف تم تسليم "فسحة الأمل" لمقاول اغتنى عندما باعها بأضعاف ثمنها لأحد أثرياء الحرب الجدد، ومثلها "طاقة الفَرَج" التي لم تعد تضيء ولا حتى في فناجين قهوتهم المُرَّة، وأيضاً "الضوء في آخر النَّفق" اختفى هو الآخر، بعدما تزايد الطلب عليه، واستعيض عنه بـ"ليدَّات" نخب عاشر، لا تستطيع مقاومة العتم ولا إجلاء الظلمة، حتى لو نَفَّخت عليها عشر باكيتات "حمراء طويلة" لتنجلي، لاسيما بعدما باتت أسعاره تنطّ مع الدولار، رغم أنه "صناعة وطنية" بامتياز، مثله مثل الخيار البلدي، البندورة الحورانية، الليمون الساحلي، اللبن الحموي، البامية الديرية، الزعتر الحلبي وزيت الزيتون... التي باتت أسعارها تتبدل حسب سوق الصرف السوداء، في صعود فقط، أما في حال الهبوط فإنها تأبى إلا أن تبقى مُحلِّقة، ما جعل لقمة الشعب السوري مُغمَّسة بالدم والذل والهوان، وعلى عين المتاجرين بها، ابتداء من المحتكرين الصغار، وليس انتهاء بالأمم المتحدة ونداءاتها المتكررة بأن نصف السوريين ينامون جوعى، وأنهم على أعتاب مجاعة حقيقية، من دون أن تتحرك قيد أنملة لتسد الرَّمق المتبقي لهم.
انقطاع النفس
وما يزيد الوضع مأساوية أن أرواح السوريين لم تعد قادرة على النهوض من رمادها كطائر الفينيق، لأن ذاك الرماد تمَّ بيعه بصفقة من تحت الطاولة لبعض تجار آثار الشعوب ومآثرهم العظيمة، بحيث نستطيع القول إن كانت روح السكين هي قدرتها على القَطْع بحسب أرسطو، فإن معظم أبناء سوريا لم يعودوا قادرين حتى على قطع الطريق إلى دفء بيوتهم، بعدما انقطعت أنفاسهم في سعيهم نحو متطلبات الحياة الأساسية، فحتى الأكل والشرب بات معضلة، والسكن أعجوبة مع ارتفاع إيجارات البيوت التي توازي في بعض الأحيان استئجار يخت في الكاريبي، ولو كان المسكن في عشوائيات "المزة 86"، والمواصلات صارت هي الأخرى أحجية ولعبة حظ، بينما العمل، ولو كان بثلاث ورديات، فلن يرقى لأن يصبح لا "ساقية جارية" ولا "نهر مقطوع"، مع تراجع القيمة الشرائية لليرة السورية، رغم كل حملات "ليرتنا عزتنا"، و"ليرتنا بتحكي"، إذ بالعكس باتت الليرة خرساء تماماً، كالساكت عن الحق، الذي يقول بأنه "من غير الجائز على أي سوري أن ينام جائعاً، فكيف أن يموت من الجوع في بلد الخيرات"، التي لا تقف عند القمح والزيتون والفاكهة والخضروات والثروة الحيوانية والنفطية المسروقة، بل تتعداها إلى الثروة البشرية التي خارت قواها بسبب هذا الكم الهائل من المعيقات التراجيدية، التي جعلت بَلَّ الفقر لا يصل إلى ذقن السوريين فقط، بل وصل إلى أقفية أولادهم التي باتت مهددة هي الأخرى، بعدما صار سعر كيلو "الحفاضات" عشرة آلاف ليرة للنوع المتوسط.
ومن شدة التراجيديا وأهوالها، كثرة جلّاديها وقسوة أقدارها، فإنهم باتوا يكفرون بكل شيء: بالله ونخَّاسيه، تُجَّار معابده، صيارفة هياكله الفارهة، المُرائين، مُطبِّقي عدالته، ممثليه على الأرض، نوَّاب عزرائيله وأبالسته المتمترسين بثياب ملائكته
اتركوا شيئاً للأعور الدجال
ولم نتحدث بعد عن الأدوية التي تضاعف سعرها بين ليلة وضحاها، جاعلة نهار ذوي الأمراض المزمنة أسود، بما فيهم المتقاعدون الذي لا يشملهم التأمين الصحي، في سابقة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، رغم أنهم الأحوج له. ومع كثرة الفاسدين والمفسدين في كل قطاعات الدولة، واليأس من إمكانية إصلاح الحال والأحوال، والوعود السريالية لبعض مرشحي مجلس الشعب بـ"العودة إلى المستقبل"، والعدد الكبير لاجتماعات "الاستئناسات" الحزبية بغية اختيار الأفضل والأنسب للمرحلة الصعبة، فإن لسان حال السوريين يتجسد فيما كتبهم أحدهم على صفحته في فيسبوك: "اتركوا شيئاً للأعور الدجال، كرمى لحين ظهوره أن يجد فرصة يملأ الأرض فساداً".
والأنكى أن الحكومة العتيدة بعديد وزرائها ما زالوا يتفاجؤون بكل شيء، بما في ذلك أمطار الشتاء، فلا يَعدّون العدّة قبل المصيبة وتبعاتها، بل ينتظرونها على أقل من مهلهم، طالما أنهم ينأون عن أنفسهم وأنفس عائلاتهم في قصورهم العالية وفيلاتهم الفخمة، وكأن شعارهم "ليفنى الغنم"، فهل يُعقل مثلاً ألا يكون لديهم خطة لمواجهة قانون "قيصر" وانعكاساته على حياة المواطنين وتفاصيل يومياتهم؟ وهل ما زالت شماعة الحرب والدعوات الغريبة العجيبة لمزيد من "الصمود والتصدي" كافية لإقناع السوريين بالصمت عن الإمعان في تمويتهم وإزهاق أرواحهم في بازارات السياسة، بعد تسع سنوات وبضعة أشهر من الموت بزمنه الحاضر المستمر؟
والسؤال الأهم: كيف ستقنع من يموت جوعاً بأن "كورونا" هو الأكثر فتكاً، بينما يرى أنياب القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنغرز أكثر فأكثر في قلبه وروحه، ومنها إيمانه الخالي من الشك بأن الحكومة باتت توزِّع "كوفيد 19" على البطاقة الإلكترونية وبالسعر المدعوم، مثله مثل الخبز والسكر والأرز والزيت النباتي، وبأن معظم حملات التوعية من مخاطره غير مقنعة، وليست أكثر من تكاليف إضافية ونهب مُبطَّن، طالما أن الطوابير على الأفران وعلى المعاملات الرسمية وفي مراكز خدمة المواطن قادرة على خرق أعتى المناعات التي اكتسبها السوريون على مر الأزمان، وليس فحص الحرارة، ورشّ بعض المعقمات منتهية الصلاحية بالمجمل أكثر من "ضحك على اللحى"، خاصة أن كثير من السوريين بات أهون عليهم الإصابة بكورونا من الاستمرار في ظل هذا الواقع المعيشي الصعب الذي تفرضه قرارات المسؤولين، وتكالب السياسة الدولية على أبسط حقوقهم في العيش، حتى أنهم طالبوهم بأن يطفئوا ضميرهم ويعيدوا تشغيله عسى أن يعودوا إلى جادة الصواب، لكن من دون جدوى، فعلى ما يبدو أن تلك الضمائر ارتحمت وذهبت إلى بارئها.
لذلك لم يعد أمام هذا الشعب إلا السخرية، ورغم أنه فقد كل شيء إلا أنه لم يفقد حس النكتة، بل تضاعف عنده، وبات يتهكم ويتندَّر وكأنه ينتقم لذاته من واقعه والمسؤولين عن تعتيره عبر النكتة
لا ترفع معنوياتي
لذلك لم يعد أمام هذا الشعب إلا السخرية، ورغم أنه فقد كل شيء إلا أنه لم يفقد حس النكتة، بل تضاعف عنده، وبات يتهكم ويتندَّر وكأنه ينتقم لذاته من واقعه والمسؤولين عن تعتيره عبر النكتة، التي باتت "وجعاً مقلوباً"، في مقاربة لتعريف "الأمل" عند الشاعر نزيه أبو عفش بأنه "يأس مقلوب"، فها هو أحد المواطنين ينصح الطلبة المتفوقين بأن يساعدوا زملاءهم الأغبياء في الامتحانات، لأنهم سوف يحتاجونهم عندما يصبحون مسؤولين، وآخر يُقدِّم مقترحاً فائق الهضامة، بالقول: "بعدما صار سعر قنينة الكولا 3000 ليرة، إذا غصَّيت وأنت تأكل نَزِّل اللقمة بعصا المَسَّاحة"، وثالث يوصي المُقرَّبين منه بألا يرفعوا له معنوياته لأنه لا يلبس شيئاً تحتها، بينما تضحك أخرى من ألمها الناجم عن ارتفاع حرارتها، وإحساسها بأن جسمها مُتَكسِّر، متمنية أن يكون ذلك بسبب بزوغ أسنانها، في حين نشر سوري عرضاً خاصاً من وزارة الصحة مضمونه "مع كل 12 إصابة جديدة، تُشفى 5 حالات، وتموت واحدة"، وآخر نقل عن مصدر موثوق في وزارة التموين والتجارة الداخلية بأنه "ليس هناك دراسة لرفع أسعار مادة السكر حالياً، لذا قمنا برفعها من دون دراسة"، وأخيراً نصيحة المسؤول لابنه التي نقلها مواطن عَتْعَتَهُ القَهْر عبر صفحته في فيسبوك: "اشتغل بالحلال بتاكل خبز... اشتغل بالحرام بتشتري الفرن"، وتصبحون على وطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...