"عدد من الموسيقيين، اضطرّتهم الظروف الراهنة للتخلي عن ممتلكاتهم. أعرف من باعوا سياراتهم، بل حتى آلاتهم الموسيقية، فيما اضطرّ آخرون لدخول نفق الكآبة والصمت"، يقول منصور الإدريسي، وهو موسيقي بالعاصمة الرباط، اعتاد أن يُطرِبَ، هو وفرقته الموسيقية "بابِلون سيستيم"، رواد مطاعم وحانات العاصمة، قبل أن يجبروا، مثل كثير من فناني العروض الحية، على التوقف عن العمل بسبب وباء كورونا.
لما يقرب السنة، توقفت حناجرهم عن الغناء وآلاتهم عن العزف. وبعيداً عن أضواء المسرح ونغم الموسيقى، دخلوا في صمت قسري ومعاناة قاسية، بعد أن علا نشاز الجائحة فوق كل صوت، كاسراً النظام واللحن العادي للحياة.
بإلغاء المهرجانات ومنع الحانات والمطاعم من تنظيم الحفلات وعروض الموسيقى، ضمن الإجراءات الصارمة التي أقرّتها السلطات، تستمر أزمة القطاع الموسيقي بالمغرب، متسبّبة ببطالة فنية للعاملين بالمجال، الذين يمرون بمأساة مزدوجة، عنوانها ضيق اليد والبعد عن شغفهم الأول، أي الموسيقى.
يعاني القطاع الموسيقي بالمغرب من أزمة بسبب إلغاء المهرجانات ومنع الحانات والمطاعم من تنظيم الحفلات وعروض الموسيقى.
يؤكد منصور، ونبرة من الأسى تعلو صوته، أن التوقف التام للفعاليات الثقافية، تضرّر منه فنانو العروض الحية بشكل أكبر من غيرهم، مع عدم استفادتهم من الدعم المادي الذي خصّصته وزارة الثقافة لقطاعات أخرى، وعدم حصولهم على التأمين الصحي.
مع إقرار التدابير الاحترازية، يوضّح الموسيقي الشاب: "التزمنا بكل ما اتخذ من إجراءات، لكن مع طول المدة يتزايد حجم المعاناة على مستويات عدة، سواء المادية، الاجتماعية أو النفسية". اليوم أصبح منصور عاجزاً عن الغناء، ويقضي أيامه في انتظار قرار يحرّرهم من هذا النفق المظلم، ويعيد المياه إلى مجاريها.
وضع خانق
من جهته، يصرّح هشام اشتوك، وهو موسيقي، لرصيف22: "منذ مارس/آذار من السنة الماضية، ونحن بدون عمل. الكل يعاني، خصوصاً الأشخاص مثلي الذين لديهم أسر لإعالتها. كنا نقول إنه بعد شهرين أو ثلاثة سنعود لعملنا، غير أن الوضع استمرّ لنصل إلى سنة كاملة من البطالة التامة، دون مورد رزق، مع انعدام فرص العمل الأخرى".
يتابع ابن مدينة القنيطرة، شمال الرباط: "نعيش أزمة حادة، ما دفعني إلى مزاولة مهن لا علاقة لها بالموسيقى، لكن مداخيلي ضعيفة والمصاريف قاهرة. مؤخراً رزقت بمولودة، وازدادت احتياجات المنزل ومصاريفه". وضع الرجل ليس استثناء بل شبه قاعدة يعيشها كثيرون.
هشام اشتوك
مع رفع الحجر الصحي، أعيد فتح المطاعم والحانات وغيرها من الفضاءات، لعدد محدّد من الساعات، لكنها تجبر على الإغلاق في الثامنة ليلاً، بسبب فرض حظر التجول. رغم فتحها لبضع ساعات، تظل عروض الفن والموسيقى ممنوعة من العودة لنشاطها، بمبرّر احترام إجراءات التباعد الاجتماعي.
بهذا الصدد، يصف منصور قرار استمرار منعهم بـ "الغريب جداً"، مضيفاً: "بدأت الحياة تعود نسبياً لوضعها الطبيعي، وعملنا يمكن أن يستأنف بطريقة لا تؤثر على إجراءات التباعد، إذ إن عدد أعضاء الفرق الموسيقية لا يتجاوز 4 أفراد، كما أن هناك موسيقيين يعملون بشكل فردي".
بالإضافة إلى منصور وهشام، يُجمع موسيقيون آخرون، أن قرار منعهم يبقى دون مبرّرات معقولة، مشدّدين على أنه يعكس النظرة الدونية التي ينظر بها المسؤولون إلى الموسيقى والفن والثقافة عموماً، باعتباره نشاطاً لا داعي ولا أهمية له، وحضوره وعدمه سيان، مقارنة بباقي المهن والأعمال.
ويؤكد الفنانون رأيهم هذا، بنقطة إقصائهم من الاستفادة من الدعم الذي قُدّم لقطاعات واسعة، فيما استثني العاملون في مجال الموسيقى والعروض الحية منه. يكشف هشام، أنه تقدّم، وعدد من زملائه الموسيقيين، مرتين بطلب للاستفادة من برنامج الدعم المالي الشهري للطبقات الاجتماعية الأشد عوزاً الذي أطلقته الحكومة، دون تحقق مطلبهم.عدد من الموسيقيين، اضطرّتهم الظروف الراهنة للتخلي عن ممتلكاتهم. أعرف من باعوا سياراتهم، بل حتى آلاتهم الموسيقية، فيما اضطرّ آخرون لدخول نفق الكآبة والصمت
بالإضافة إلى ما يعتبرونه "عدم التفاعل" مع الاقتراحات التي قدّموها من أجل العودة لاستئناف عملهم، يوضّح منصور أنهم راسلوا مختلف المؤسسات الحكومية، ووقعوا بياناً أرسلوه للسلطات وطرقوا كل الأبواب لفتح النقاش حول وضعهم، لكن دون رد أو جواب من المسؤولين، وكأن قدر الفنان أن يصمت عن "الغناء المباح" في ظل الجائحة.
كآبة وإدمان
إلى جانب المشاكل الاجتماعية والتنظيمية هناك مستوى آخر يحجم كثيرون عن الحديث عنه، وهو المعاناة الشخصية التي يعيشها هؤلاء الموسيقيون، دون قدرة على طلب الدعم النفسي، بسبب ابتعادهم عن شغفهم، المسرح والموسيقى، مع توقفهم عن الأداء واشتياقهم للحياة الطبيعية واللقاء بالجمهور. يؤكد منصور: "الغناء والعزف بالنسبة لي مثل الهواء، والتوقف عن ممارستهما قاتل".
يسترسل في بوحه لرصيف22: "حتى البروفات الموسيقية التي نقوم بها متعثّرة وغير مُنتظمة، أمام استمرار إغلاق قاعات التدريب، بالإضافة إلى أن أعضاء عدد من الفرق الموسيقية لم يعد بمقدورهم حضور التجارب. بسبب الضائقة المالية، هناك من لم يعد يستطيع دفع مبلغ قاعات التدريب، رغم أنه لا يتعدى خمسين درهماً (6 دولارات)".
منصور الإدريسي
هذا الوضع المقلق يدفع هشام إلى دخول دوامة أزمة نفسية صعبة، لدرجة أنه فقد الرغبة في حمل آلته الموسيقية في ظلّ الظروف الحالية. يضيف: "نحن بحاجة إلى التفاتة حتى لو كانت معنوية فقط، وطمأنتنا حول مستقبلنا، لكن لا تجاوب ولا تفاعل مع مطالبنا الملحة".
لا يتردد الموسيقيون في التأكيد لرصيف22، أن صعوبات هذه الفترة تسبّبت في دخول بعض الفنانين الشباب في دوامة من الكآبة والقلق المؤرق، فيما يهرب آخرون من واقعهم اليومي نحو إدمان الكحول والمخدّرات.
مشاكل بنيوية
مسعود بوحسين، رئيس إحدى نقابات الفنانين، يؤكد خطورة الوضع الحالي الذي يعيشه العاملون في مجال فنون العرض والفنون الحية، مبرزاً أن القطاع الثقافي في مجمله يعيش أزمة مشاكلها أعمق من كورونا.
الفاعل النقابي، لفت في مداخلته ضمن ندوة حول واقع الفنون الحية خلال جائحة كورونا، إلى أن الثقافة المغربية "تعيش على وقع مشاكل بنيوية، في ظل غياب استراتيجية بعيدة الأمد، وتدبير الآليات المؤسساتية لمساعدة الفنانين في هذه الظرفية الصعبة".
وأوضح المسرحي والنقابي أن الفترة الأخيرة أضرّت بالقطاع الثقافي عموماً، وأبرزت هشاشته وضعف تدبيره، خصوصاً على مستوى غياب الدعم المالي لفناني الأداء والمسرحيين والموسيقيين الذين يجدون أنفسهم بلا دخل مادي. وأضاف بأن غياب الحكومة عن الواقع اليومي لهؤلاء، وعدم التفاعل مع الاقتراحات العديدة المقدّمة من طرف العاملين في القطاع الثقافي، لا تؤدي إلّا للإضرار أكثر بمن يعيشون وضعاً هشاً.
ودعا بوحسين للتفكير في سبل ناجعة لإصلاح القطاع، على الشقين الاجتماعي والإبداعي، موضحاً ما اعتبره مفارقة، أن أغلبية المعنيين يفكرون في الثقافة ليس كممارسة مستمرة، إنما على أنها تدخل في خانة الترف، كما لفت إلى ما اعتبره "ظهور عقليات مناوئة للثقافة والفن والحداثة، تطرح سؤال جدوى الفن والثقافة، وضعف حضور الثقافة في حياة جزء مهم في المجتمع، ومن ضمنهم أفراد من النخبة السياسية".
يُجمع موسيقيون مغاربة، أن قرار منعهم يبقى دون مبرّرات معقولة، مشدّدين على أنه يعكس النظرة الدونية التي ينظر بها المسؤولون إلى الموسيقى والفن والثقافة عموماً، باعتباره نشاطاً لا داعي ولا أهمية له، وحضوره وعدمه سيان، مقارنة بباقي المهن والأعمال
من جانبه، تطرّق وزير الثقافة المغربي السابق، أمين الصبيحي، إلى ضرورة هيكلة القطاع الفني، وبناء نموذج اقتصادي جديد يراعي الخصوصيات الثقافية المغربية.
وانتقد الصبيحي، خلال مداخلته بالندوة ذاتها التي كنا متواجدين فيها، "عدم قدرة وزارة الثقافة الحالية على استثمار التجارب السابقة وتطويرها"، مبرزاً الحاجة إلى ما اعتبره وضع استراتيجية ثقافية، تحمي حرية الفكر والإبداع والحق في الثقافة، وتدعم الإبداع الفني بشكل ملموس عبر ترويجه.
وتحدث الوزير السابق عن مرتكزات أساسية، ينبغي أن يقوم عليها هذا النموذج، يتمثّل أبرزها في تدخّل الدولة لهيكلة القطاع الثقافي، موضحاً أن حتى أكثر الدول ليبرالية تتدخل عبر هذا المستوى لدعم المشاريع الثقافية، والاهتمام بالمقاولات الثقافية والفكرية، بالإضافة لحماية الحقوق الفنية والاجتماعية للفنانين.
لكن كلمات المسؤول السابق عن قطاع الثقافة ونقابات الفنانين تبدو بعيدة عن الواقع اليومي لهشام ومنصور والآخرين، وعن مطاعم وحانات المغرب التي أضحت أقل دفئاً بغياب الفنانين، وإلى حين نهاية الجائحة، فإن مطرب الحي لن يطرب!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...