عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً، غادرت السينمائية التونسية مفيدة التلاتلي عالمنا، صباح يوم الأحد الفائت. وسرعان ما أعلن "مهرجان أسوان لأفلام المرأة" إهداء دورته المقبلة (الخامسة) إلى من: "حملت على عاتقها مهمة التعبير عن معاناة المرأة، ونجحت في طرح مشاكلها على الشاشة الفضية بحرفية شديدة في أفلامها".
عند كل حديث عن سينما التلاتلي يتحول الأمر سريعاً ليصير حديثاً عن المرأة، وبشكل أدق، عن النساء التونسيات وقضاياهن، مع العلم أن المخرجة المذكورة قليلة الظهور على الإعلام، ولا تدّعي في إطلالاتها حمل قضية المرأة والدفاع عنها، على عكس متن أفلامها الثلاثة، الأمر الأخير يبدو وأنها قد اكتسبته من الخبرة العملية الاستثنائية التي تميزها عن كثير من سينمائيات العالم العربي.
بعد دراسة السينما في باريس، والعودة إلى تونس مطلع السبعينيات، بدأ يبرز اسم التلاتلي كموهبة استثنائية في عالم المونتاج في بلاد المغرب العربي، وخاصة مع فيلم مرزاق علوش الأول "عمر قتلاتو الرجلة، 1976"، الذي يشكل علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية.
حملت السينمائية التونسية الراحلة مفيدة التلاتلي على عاتقها مهمة التعبير عن معاناة المرأة، ونجحت في طرح مشاكلها على الشاشة الفضية بحرفية شديدة في أفلامها
بعدها، وخارج حدود بلاد المغرب، ستقوم بتركيب فيلم "ذاكرة خصبة، 1980" لميشيل خليفي، وهو الفيلم الأول للمخرج الفلسطيني البارز. لاحقاً، سنجد اسمها في واحد من أبرز أشرطة الثمانينيات في المغرب العربي "الهائمون في الصحراء، 1984" لناصر خمير، وبعدها ستترك بصمتها في أعمال عدد كبير من المخرجين، داخل تونس وخارجها: عبد اللطيف بن عمار، الطيب الوحيشي، فريد بوغدير، سلمى بكار، ناجية بن مبروك وغيرهم.
الفيلم الأول
بعد عشرين عام من بدء عملها في المونتاج، ستوقع مفيدة التلاتلي فيلمها الأول كمخرجة "صمت القصور"، بالشراكة مع مواهب تمثيلية نسائية استثنائية: ناجية الورغي، هند صبري، آمال الهذيلي، زهيرة بن عمار، سنية المؤدب والرائعة فاطمة بن سعيدان. الفيلم الذي حظي بإشادة لجنة التحكيم في دورة مهرجان كان سنة 1994 (جائزة الكاميرا الذهبية)، لا يزال يصنف حتى اليوم، كواحد من أبرز الأفلام العربية التي صنعتها "المرأة عن المرأة".
والمفارقة أن الفيلم المذكور أنجز بميزانية فقيرة جداً، ولم تتلق صاحبته أي أجر مادي، بالإضافة إلى أنها اضطرت لتصويره وإنجاز كافة العمليات الفنية خلال أربعة أشهر فقط، وهذا زمن قياسي في ميدان صناعة الأفلام، خاصة وأن بطلة عملها، الممثلة هند صبري، كانت تقف للمرة الأولى أمام الكاميرا: "المرأة التي غيّرت حياتي رحلت اليوم... المرأة التي اكتشفتني ورأت ما لم يره غيرها، رحلت اليوم وطوت صفحة لم أكن جاهزة لطيّها"، كتبت صبري بعد تلقي خبر وفاة التلاتلي.
يروي الفيلم قصة فتاة تعمل بالغناء، اسمها علياء (هند صبري)، حامل من رجل تعيش معه (لطفي)، ولكنه لا يريد الزواج منها ولا الاحتفاظ بالطفل. أُجبرت علياء على الإجهاض مرات عديدة تحت ضغط حبيبها سابقاً. تعود إلى القصر، الذي عملت فيه مع أمها كخادمتين، من أجل تقديم واجب العزاء، بعد وفاة أحد السادة. كأن العودة هي عودة التلاتلي إلى مشاهدات طفولتها في مطلع خمسينيات تونس، تحت ظل الاستعمار الفرنسي، لتنبش ذاكرة فردية/جماعية مؤلمة، تحكي عن النساء اللاتي مررن بهذا المكان، راويةً ما تعرضن له من تحرش ومضايقات واحتقار مستمر. القصر هو تصغير للبلاد، فلا حدود تفصل بين الخاص والعام، ولا يعيش فيه الحاكم والمحكوم تحت سقف واحد.
الممثلة هند صبري: "المرأة التي غيّرت حياتي رحلت اليوم... المرأة التي اكتشفتني ورأت ما لم يره غيرها، رحلت اليوم وطوت صفحة لم أكن جاهزة لطيّها"
إن الفيلم أشبه بمحاكمة للمرحلة التاريخية التي عبرت فيها تونس إلى ضفة الاستقلال، وهو في ذات الوقت سؤال عن المكتسبات والحريات الشخصية والبنى العميقة للتحرر و"ماذا تغير؟". فالحبيب الثائر المناضل الذي عايش الظلم الواقع بخادمات القصر، نراه بعد الاستقلال ضد حبيبته ورغباتها، بل إن الفيلم هو سؤال عن "الاستقلال" ذاته.
"صمت القصور" أشبه بلوحة سينمائية شاعرية عن الظلم الواقع على النساء في المجتمعات الذكورية، حيث تنشأ الفتاة وتجبر على التعايش مع فكرة أن ضحكتها وجسدها ورغباتها ليست إلا خطايا وأسباباً للمشاكل، بل إنها تغدو مرتابة من كل ما حولها، فترى "في كل نظرة تتجه نحوها تهمة"، تقول علياء في أحد مشاهد الفيلم.
ما بعد صمت القصور
صحيح أن المخرجة الراحلة ستختار الفرنسية كلغة لشخصياتها في الفيلمين اللاحقين لـ "صمت القصور"، إلا أنها ستبقى وفية لعوالمها الخاصة والحميمة التي شيّدتها ببراعة في فيلمها الأول، حيث رأينا أجساد النساء متماهية وشديدة التلاصق والاحتكاك كما لو أنها جسد واحد. كذلك، تبقى الراوية أنثى، والعالم الذي تحيا فيه بطلات الفيلم شكلته ذائقتهن، ومرئي ويتم وصفه وفهمه في الفيلم من قبلهن.
في "موسم الرجال، 2000"، ستقف مجدداً هند صبري أمام كاميرا التلاتلي، وستقدم واحداً من أجمل أدوارها. نتتبع بطلات الفيلم فنعثر عليهن على جزيرة جربا السياحية، المشهورة بهجرة ذكورها لتأمين لقمة العيش، تلاحقهن الكاميرا وتروي عن احتفاء النساء بأجسادهن وأنوثتهن لحظة غياب الذكر.
أما في فيلم "نادية وسارة، 2003"، ستبتعد المخرجة عن البطولة الجماعية للنساء لصالح تقديم حكاية شديدة الخصوصية، وكأنها تروي ما لا يقال عن العلاقة بين الأم والابنة، ساعية لفهم تلك الغريزة الحيوانية الدفينة، المجبولة من مزيج من الغيرة والحب والخوف والقلق، في ظل تحولات الجسد وتبدل علاماته.
"إنني خائفة على ابنتي، لأن المجتمع لم يتحرر بعد كما يزعم القانون. العقلية في الداخل لا زالت هي، والتغييرات التي تعتريها بطيئة بشكل كبير"
العمل أقرب إلى دراما نفسية يحكي أزمة امرأة وحيدة تقترب من سن اليأس، تلعب دورها الممثلة الفلسطينية هيام عباس، فتبدأ مشاعر الغيرة في التشكل داخل لاوعيها، فتبدو مذعورة وهي تقارن، بشكل لحظي، بين ترهلات جسدها وبين طزاجة جسد ابنتها وجسد طالباتها في المدرسة الثانوية.
مرة جديدة تتداخل حياة مفيدة بحياتها الشخصية، فكما روت عن بعض من مشاهداتها أيام الطفولة في "صمت القصور"، تروي في "نادية وسارة" عما يدور في لاوعي الأم: "إنني خائفة على ابنتي، لأن المجتمع لم يتحرر بعد كما يزعم القانون. العقلية في الداخل لا زالت هي، والتغييرات التي تعتريها بطيئة بشكل كبير"، تقول في إحدى مقابلاتها الصحافية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...