كم من ضحكة، دمعة، وحتى قبلة، احتفظت بها الكراسي الضيّقة كأسرار تخصّ أصحابها فقط؟ هي كراسٍ ضيّقة، لكنها واسعة، تحمل كل أشكال المشاعر المجتمعة أمام شاشة لا يهم ما يُعرض فيها بقدر أهمية أنهم كانوا أمامها في تلك اللحظات. وكم من مرة نجح الضوء العابر من غرفة التحكم بالصوت والصورة فوق، بالتقاط أيادي عشاق متشابكة في أسفل المقاعد، أمام تلك الشاشة؟
أسئلة تجيب عليها قصص سيدات وشابين من جيلين مختلفين، تحدثت معهم/ن رصيف22. اختلف ماضيهم في مطارح كثيرة، لكن ذكرياتهم اجتمعت أمام بوابات دور السينما القديمة، أو سينما "أيام زمان" في الأردن.
"أمنيتي أن يعود بي الزمن وأذهب إلى السينما مع حبي الأول، ثم أتوب وأموت"
"أبي فوق الشجرة" أو "فيلم المليون قبلة"، هي الأفلام التي ذكرتها ثلاث سيدات تحدثت معهن لهذا التقرير، وكذلك أفلام فريد الأطرش، والفيلم الهندي "الإخوة الثلاثة"، وغيرها من الأفلام الهندية، وبالطبع الكثير من "أفلام الحب والغرام"، كلّها كانت أبرز ما حفظته ذاكرة السيدات اللواتي تحدثت معهن، وهن ليس فقط من نفس الجيل، بل أيضاً صديقات مقربات جداً. كما تحدثت إلى جيل آخر من محبي السينما، والذين عاشوا "مراهقتهم" في دور سينما عمّانية متنوعة، للإطلالة على قصص مختلفة.
قبل أن نُبحر في القصص والسينما، من المهم الإشارة إلى أبرز دور السينما القديمة التي كانت في الأردن هي: "الفيومي، زهران، البتراء، بسمان، رغدان، فرساي، الحسين، فلسطين، عمان والكواكب". وما يقارب 17 دار سينما، من بينها الأسماء هذه، اندثرت اليوم، واستُبدلت بدور سينما تتمركز في المجمعات التجارية وتتسابق في عرض أحدث تقنيات عرض الأفلام، مع الإشارة إلى أن تمركز دور السينما اليوم مقتصر على العاصمة عمّان فقط.
"كان بشبه حبيبي"
ترفض صباح (اسم مستعار) 66 عاماً، أن يروي أحد غيرها ذكرياته عن سينما أيام زمان في الأردن، "ولا حدا بعرفها قدي"، بحسب حديثها مع رصيف22، خصوصاً أفلام محمود ياسين التي كانت تُعرض في دور السينما: "لأن محمود ياسين كان يشبه حبيبي"، تقول هذه العبارة بخجل.
وتتدارك خجلها وهي تذكر محمود ياسين الذي كان يشبه حبيبها، وتبين أن كل يوم ثلاثاء أسبوعياً، كان يُعرض فيلم جديد في دور السينما في العاصمة عمان، مثل سينما "زهران، الحسين، بسمان"، وكانت تصطحب بنات المرحومة شقيقتها معها إلى هناك، رغم صغر سنهن.
أما فيلم "أبي فوق الشجرة" أو "فيلم المليون بوسة" كما تقول صباح، فتعود ذكرياتها معه بحسب ما روت، أنه وبعد مدة قصيرة من بدء عرضه في دور السينما، اتفقت مع شقيقتها التي تكبرها بأن يكذبا على والدهما بأنهما مدعوتان لحضور زفاف صديقتهما، وأضافت: "وحرصنا أن نجعل الكذبة مقنعة، فقلنا لوالدنا أن صديقتنا مسيحية والعرس سيكون في الكنيسة"، ذلك لتزامن أوقات الإكليل في الكنائس في عمّان مع وقت عرض فيلم "أبي فوق الشجرة"، وأضافت قبل أن أسألها: نعم صحيح شاهدنا الفيلم مع "اللي بالي بالك"، في إشارة إلى حبيبها.
"وحرصنا أن نجعل الكذبة مقنعة، فقلنا لوالدنا أن صديقتنا مسيحية والعرس سيكون في الكنيسة"، ذلك لتزامن أوقات الإكليل في الكنائس في عمّان مع وقت عرض فيلم "أبي فوق الشجرة"، وأضافت صباح: "وقد شاهدنا الفيلم مع "اللي بالي بالك"، في إشارة إلى حبيبها
مشاهدة بالسرّ
تسع كان عدد مرّات مشاهدة السبعينية ناهد (اسم مستعار بحسب رغبتها أيضاً) لفيلم "أبي فوق الشجرة"، توزّعت صحبتها لمشاهدة الفيلم كما تقول لرصيف22: "مع أخواتي، صديقاتي، ومع..."، تسكت قبل أن تكتم ضحكتها، وتضيف: "كان سعر التذكرة نصف دينار، حضرته في سينما رغدان، الحسين، وبسمان، وفي أكثر من مرة حبيب صديقتي كان يدفع عنا حق التذاكر".
وبحسب حديث ناهد، فإنها وبرغم أنها حضرت "أبي فوق الشجرة" تسع مرات، إلا أنها كانت تخفي ذلك عن والدها رحمه الله، نظراً لأن: "مشاهد التقبيل كثيرة في الفيلم"، وهو أمر "ممنوع " بالنسبة لوالدها، وتضيف: "كان والدي عندما يعرض فيلم جديد في السينما يذهب مع صديقه لحضوره، لغاية فحصه، فإذا كان الفيلم يخلو من مشاهد (خلاعة)، كان يفاجئني أنا وأخواتي بتذاكر من أجل حضور الفيلم".
وتسترسل ناهد الحديث عن ذكرياتها عن سينما أيام زمان وتقول: "كانت حياتنا وعقلنا وروحنا السينما".
وتختم حديثها: "من الصعب عليّ سرد كل ذكرياتي في السينما… لو ذهبنا اليوم إلى السينما لن نشعر بالسعادة التي كنا نشعر بها أيام زمان، الأفلام تغيرت وأشكالنا تغيرت، ومات الحب. من يريد الذهاب إلى السينما يجب أن يكون لديه قصة حب، وأمنيتي أن يعود بي الزمن وأذهب إلى السينما مع حبي الأول، ثم أتوب وأموت".
بكاء من أول الفيلم إلى آخره
باتجاهها إلى سينما "بسمان" وهي خارجة من مدرستها في منطقة "جبل النظيف"، برفقة زميلاتها في الصف، لحضور أي فيلم هندي وصل حديثاً لشاشات دور سينما عمّان في الستينيات، كانت الستينية مريم (اسم مستعار) كما جاء في حديثها لرصيف22، تحرص هي وزميلاتها على ملء حقائبهن بالمحارم، وتضيف: "تعوّدنا عند مشاهدة أي فيلم هندي في السينما أن نعبئ حقائبنا بكمية من المحارم، نظراً لتواصل بكائنا منذ لحظة مشاهدة الفيلم حتى انتهائه، وحتى في طريق عودتنا مشياً على الأقدام إلى بيوتنا".
"أنا كنت مؤدبة وما كان عندي أيامها اللي بالي بالك"، تمازحني وهي تروي ذكرياتها في دور سينما زمان، وتقول: "كنت أحب نجلاء فتحي كثيراً، أذكر أنني كنت أحضر أفلامها مع زميلاتي في الصف في سينما الرينبو، كنت أحب شكلها وتمثيلها أيضاً".
وتتابع: "أول مرة في حياتي أكلت كاجو كانت في العام 1978 في سينما بسمان… عندما تزوجت. أخدني زوجي إلى سينما بسمان وقبل أن ندخل اشترى لي من المحمص كاجو، كنت أعتقد أنه فستق كبير، طعمه لذيذ جداً".
رغم أنها كبرت وتزوجت، لكن مريم استمرت في حب مشاهدة الأفلام الهندية، وإحدى ذكرياتها في تلك الفترة كما تختم حديثها كانت: "في مرة كان زوجي مسافر، وذهبت لحضور فيلم الأخوة الثلاثة، وهو فيلم هندي، مع ابن عمتي وعمتي، وعندما عرف زوجي استاء وهاتفني غاضباً وقال: أليس من العيب أن تذهبي مع ابن عمتك على السينما، فأجبته: أنا مش رايحة رانديفو ".
"اكتشفت عندما دخلت غرفة العرض، أن الفيلم المعروض هو فيلم هندي قديم جداً، وبعد فترة من عرض الفيلم يتم قطعه واستبداله بفيلم بورنو، وفي نصف الفيلم يأتي موظف في السينما حاملاً ضوء (لوكس) ويقول: بيس بيس فاين؟ وعندما يكتشف وجود أولاد صغار السن يطردهم من القاعة... وياما انطردت"
استبدال الفيلم المعروض بفيلم بورنو
لا تقتصر ذكريات دور السينما أيام زمان في الأردن على جيل النساء اللواتي تحدثت معهن، بل أيضاً من راهق في التسعينيات له كمّ من الذكريات لا بأس به مع السينما، مثل الشاب الثلاثيني خالد (اسم مستعار) الذي يعود بنا إلى ذكريات المراهقة خاصته في دار سينما "الجميل".
ويقول: "عندما كنا نهرب من المدرسة التي كانت في نصف السوق، كانت هناك سينما قريبة اسمها الجميل، وكان هناك شخص يقف عند الباب، أذكر أن شعره كان كثيفاً، وفي ساعة معينة تقريباً 12 الظهر، يخرج ويصرخ: بداااا بداااا، وفجأة تبدأ حالة تدافع وأزمة على شباك التذاكر".
ويضيف: "في يوم قررت أن أكتشف سر ذلك التزاحم بعد صراخ ذلك الشخص (بدااا)، لأكتشف بعد نجاحي في الدخول بين المتزاحمين إلى داخل غرفة العرض، أن الفيلم المعروض هو فيلم هندي قديم جداً، وبعد فترة من عرض الفيلم يتم قطعه واستبداله بفيلم بورنو، وفي نصف الفيلم يأتي موظف في السينما حاملاً ضوء (لوكس) ويقول: بيس بيس فاين؟ وعندما يكتشف وجود أولاد صغار السن يطردهم من القاعة... وياما انطردت"، يضحك خالد.
هل تذكر اسم واحدة من تلك الأفلام الهندية؟ سألته في ختام الحديث معه وقال: "كان في فيلم اسمه مهراجا، وعندما يأتي البطل تأتي لحظة قطع الفيلم واستبداله بفيلم بورنو".
مكان للتدخين والسكس
"تجربتي مع السينما جاءت في نهايات هذا العصر الجميل... السينما يعني الانبهار"، يقول الثلاثيني وائل (اسم مستعار) خلال الحديث معه، ويقول: "أول مواجهة لي مع شاشة السينما كان فيلم في دار سينما في محافظة إربد، صُنّف للبالغين. كان فيلماً إباحياً ومن يحضره فئة واحدة، يعني مراهقين يبحثون عن مكان للتدخين وعن السكس".
"بعد فترة صدر قرار بإغلاق متنفس المراهقين، (قاصداً دار السينما تلك والتي يصفها أيضاً بأنها المكان)، ويتابع: "الذي كنا نقصده حتى نكبح جماح ذاكرتنا البصرية من أفلام البورنو التي كنا نحضرها"، ويضيف: "قرار الإغلاق حدث بعد اكتشاف مؤامرة العامل الوافد الذي كان يفتح السينما بشكل سري لي ولأمثالي من المراهقين، ويقوم بتشغيل الأفلام (إياها)".
أما سينما عمّان التي ارتادها وائل قادماً من الشمال "إربد"، فذاكرته معها بحسب سرده: "لحقتها في فترة المراهقة المتقدمة، عندما أصبحت أكثر جرأة في التعبير عن مشاعري. وكنت مثل غيري من جيلي، نذهب لحجز المقاعد الخلفية، قبل يوم من الحضور مع رفيقات قلوبنا للسينما، تلك المقاعد التي كنا نسمع فيها أصوات احتكاك الكفوف... وغيرها".
ويختم ذكرياته مع سينما زمان: "نحن جيل عاصر كل شيء، عاصر طابور انتظار السرفيس من أجل أن نمارس مراهقتنا في السينما، عاصرنا أفيش الأفلام القديمة مثل بروسلي، وامرأة هزّت عرش مصر"، ويقول: "اكتشفت السينما، بعد انتهائي من مرحلة الإباحية ومصارعة كبت المراهقة، إنها مرآة الحياة، حياة عاشقي الحب والحياة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...