أضاع الأمريكان علينا، في ما أضاعوا، فرصة نادرة لا يمكن استعادتها: أن نسمع شهادة صدام حسين في الأسر، لمعرفة أسرار وخبايا تفيد علماء النفس وكتّاب الدراما والروائيين أكثر من فائدتها لأجهزة الاستخبارات. هل جرى ترتيب مبكر لجهاز سرّي معه أثناء دراسته بجامعة القاهرة؟ كيف تمّت عملية 17 تموز 1968؟ كيف ضمن نجاح تراجيديا "قاعة الخلد" عام 1979، وفيها قام بتصفية قيادات البعث، وهو يبكي "خياناتهم" وفراقهم؟ أسرار الحرب العراقية الإيرانية ما تفاصيل لقائه بالسفيرة الأمريكية، أبريل غلاسبي، قبل غزو الكويت؟ من الكاتب العربي الذي كتب روايات صدام؟ وهل صحيح أنه، في ذروة القصف الأمريكي البريطاني عام 2003، كان مشغولاً بكتابة رواية جديدة؟
فاتنا الكثير من تلك الدراما المفقودة، ولم نعرف إلا ما أرادت سلطة الاحتلال لنا أن نراه ونسمعه، فأعادت إذاعة مختارات من جلسات محاكمة صدام، وصولاته مع ممثل الادعاء، واستعلائه على القضاة، وإهانته لقضاء يرتهن بإملاءات أمريكية. وقد حكى بعض الذين اقتربوا منه تفاصيل إنسانية، وجانباً من اهتماماته، مثل رغبته في قراءة ثلاثية نجيب محفوظ، وأنه طلب نسخة ورقية. الأسير المهيب، الذي كانت مياه دجلة تجري من تحت قصوره، لم يعد أمامه من وسائل الترف إلا أن يقرأ كتاباً، ولعلهم لم يسمحوا له بالكتابة والتوثيق الصوتي المرئي، وبالطبع لم يكن في الأسر رفاهية تجهيز شاشة عرض لمشاهدة الأفلام، ومن تلك الأفلام ما شجعه على دماء ذوي القربى.
أغرب اتهام يمكن توجيهه إلى الفن هو قدرته على الإلهام الإجرامي. لا يلام الفنان على إخلاصه لما يحبّ، ودأبه على إتقان الكذب المباح. والفن في العموم كذبة أكثر صدقاً من الحقيقة، وأعمق سحراً من زيف الواقع، ولهذا يكتسب عمراً أطول. ولا يحتاج الفن، إثباتاً لجدارته، إلى اقتفاء البعض لأثره، تقليداً وتماهياً، وتسويغاً لقتل "عنصر" بشري من أجل حماية كيان اسمه العائلة، كما فعل صدام حسين، استناداً إلى نهج "مايكل كورليوني" في فيلم "العراب" (The Godfather) لمخرجه فرانسيس فورد كابولا، وقد دفعه الحرص على الأسرة إلى مباشرة قتل الأعداء، ولو ضحى بأخيه الكبير وفاءً للهدف نفسه.
أخبرتني سيدة، غير عراقية، أنها سألت صدام حسين في إحدى زياراتها لبغداد: "لماذا قتلت صِهريْك، زوجيْ ابنتيك؟" ردّ صدام على السؤال بإجابة تتماهى فيها العشيرة مع الوطن: "أحياناً تفرض الضرورة على العائلة أن تضحي بفرد خائن من أجل تماسكها." وسألها: "ألم تشاهدي فيلم (الأب الروحي)؟"
في ثلاثية "الأب الروحي"، وهي خارج مصر تحمل عنوان "العراب" تفادياً لأي غضب! ينتهي الجزء الأول بمشهد يبرع فيه المونتاج المتوازي، فيتزامن الانتقام الجماعي مع تعميد ابن الأخت في الكنيسة. كان أيضاً تعميداً بالدّم، إثباتاً لجدارة جيل جديد من عائلة كورليوني. بدأ مشواره بتصفية الحسابات القديمة للعائلة مع أعدائها ومنافسيها. وفي الجزء الثاني لا يتردد مايكل (آل باتشينو) في التخلص من أخيه فريدو (جون كازال). وفي الجزء الثالث سنرى أختهما كوني (تاليا شاير)، التي واجهت مايكل من قبل واتهمته بقتل زوجها في نهاية الجزء الأول، قد نسيت ألمها الشخصي، واستبدلت به إيماناً بالعائلة، حتى أنها توفر غطاءً أخلاقياً لمايكل، قائلة إن قتل شقيقهما فريدو من إرادة الله.
التحقيق العائلي الهادئ، مع زوج الأخت المتآمر، كارلو ريتزي (جياني روسو)، هو نقطة الاختلاف بين مايكل (آل باتشينو) وصدام حسين. فالأب الروحي، مايكل كورليوني، لا ينفعل ولا يصرخ، ولا يطلق رصاصاً من مسدسه، وهو يوجه الاتهام إلى زوج أخته، ويمنحه فرصة الدفاع عن نفسه، بشرط ألا يدّعي أنه بريء؛ فالكذب يهين ذكاء "العراب" ويثير غضبه. والمفاجأة تربك الشاب، فيجف حلقه، ويأمر العرابُ مساعديه بأن يقدموا إليه شراباً. ثم يساعدونه على ارتداء الجاكيت، ويسبقه أحدهم لكي يفتح له باب السيارة. سلوكٌ "شيك" يجمع بين أناقة القتلة وعدم النيل من مكانة قتيل لا يهان في لحظاته الأخيرة. وكذلك فعل مايكل مع أخيه فريدو، وكان قد اكتشف ما تصور أنها حماقة تهدّد مستقبل العائلة، بانحيازه إلى أعدائها.
وفي صخب حفل عام يحتضن مايكل شقيقه فريدو بقوة كأنه يعتصر روحه، ثم يقبض على رقبته. يهجم بقبضتيه في صفعة تهزّه وتكاد تخنقه، ولكنه يقبّله ويصارحه بأنه خيّب أمله وحطم قلبه، ويصدر مايكل حكماً بالتخلّص من شقيقه، ويؤجل التنفيذ حتى وفاة الأمّ. وبقلب عمليّ بارد، يراقب من خلف الزجاج عملية إطلاق النار.
أغرب اتهام يمكن توجيهه إلى الفن هو قدرته على الإلهام الإجرامي. لا يلام الفنان على إخلاصه لما يحبّ، ودأبه على إتقان الكذب المباح. والفن في العموم كذبة أكثر صدقاً من الحقيقة، وأعمق سحراً من زيف الواقع
أخبرتني سيدة، غير عراقية، أنها سألت صدام حسين في إحدى زياراتها لبغداد، في سنوات الحصار التالية لغزو الكويت: "لماذا قتلت صِهريْك، زوجيْ ابنتيك؟" أنقلُ نَصّ السؤال المكون من خمس كلمات، مع عدم يقيني بقدرة زائرة على توجيه سؤال صريح ومباشر، يمسّ قضية شديدة الحساسية؛ فحسين كامل وشقيقه صدام كانا ابنيْ عمّ الرئيس وزوجيْ ابنتيه. الأول انتهى صعوده السريع وزيراً للتصنيع العسكري، والثاني أصبح مسؤولاً عن الحرس الخاص بصدام حسين. وتمكنا عام 1995 من الفرار إلى الأردن بصحبة زوجتيهما، وأعلنا الانشقاق عن النظام، ومنحهما الملك حسين لجوءاً سياسياً، إلى أن نالا في فبراير 1996 عفواً رئاسياً، وتعهد صدام بألا يمسّهما سوء.
لا نعلم إلى أي جهاز استخباري تحدّث حسين كامل وشقيقه صدام في فترة اللجوء، ولا مَن أمَر بالتخلص منهما بعد استنفاد ما في الذاكرة من أسرار، واعتصارهما لآخر معلومة، ولكننا نعلم مصيرهما، إذ حدث ما كان متوقعاً، وتمت تصفيتهما في عملية "الصولة الجهادية"، وقد أخذت تلك الصولة أباهما كامل حسن المجيد.
كانت السيدة موضع ثقة صدام واحترامه، وسؤالها ليس انتقاداً، بل رغبة في معرفة السبب. ردّ صدام على السؤال بإجابة تتماهى فيها العشيرة مع الوطن، ورئيس الدولة مع رب الأسرة: "أحياناً تفرض الضرورة على العائلة أن تضحي بفرد خائن من أجل تماسكها." وسألها: "ألم تشاهدي فيلم (الأب الروحي)؟"
سؤال دلّ على واحد من أسوأ الآثار الجانبية للسينما. ومنه للّه ماريو بوزو وفرانسيس فورد كوبولا!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين