"الدم المهدور بغير حق يتسبب بالكساد في السوق لمدة أربعين يوماً، وأحياناً حتى يوم القيامة". هذه العبارة من أقوى العبارات الواردة في الفيلم الإيراني "بيت الأبوة" الممنوع من العرض، والذي يضيء على أبعاد سياسية واجتماعية عبر قصة "جريمة شرف"، ما استفز أصحاب السلطة والرقابة.
بعد تسع سنوات كاملة من حظره، سمحت وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران بعرض الفيلم السينمائي للمخرج كيانوش عياري (إنتاج 2010)، ولكن القرار الصادر في 21 تشرين الأول/ أكتوبر لم يستمر أكثر من أسبوع واحد إذ عادت النيابة العامة لمنع الفيلم مرة ثانية، في 28 منه، مبررة قرارها بأن الفيلم يحوي مشاهد عنيفة.
وجاء المنع الثاني للفيلم تحت ضغوط إعلامية كبيرة مارستها جبهة المتشددين في إيران والتي اعتبرت أن الفيلم يشوّه الثقافة الإيرانية والإسلامية. وشنّت صحيفة كيهان حملة واسعة على الوسط السينمائي الذي رحّب بالفيلم معتبرةً إياه مخالفاً لحرية الرأي.
مشهد عنف مكرر
معارضو عرض "بيت الأبوة" اعتبروا مشهد قتل الأب لابنته في بداية الفيلم عنيفاً. ويصور المخرج مشهد تربص الأب والأخ الصغير بالشابة "ملوك" أثناء عودتها إلى المنزل ومطاردتها ثم قتلها لدواعي الشرف. يخنق الأب ابنته في سرداب المنزل أولاً ثم يكسر أخوها الصغير رأسها بهاون حجري كبير ثم يقوم الاثنان بدفنها تحت أرضية نفس السرداب.
هذا المشهد حسب مؤيدي الفيلم لا يخلو من العنف، لكن تخصيص الفيلم للفئة العمرية (+15) يحل هذه الإشكالية برأيهم.
ولفت نقاد إلى أن المشهد المذكور ليس جديداً على السينما الإيرانية فقد عُرض مشهد مشابه جداً له في فيلم "العقول الصغيرة الصدئة" للمخرج هومن سيدي، حين يخنق شاب صغير أخته إيضاً لدواعي الشرف في ظل سكوت جميع أفراد عائلتها الموجودين في المنزل. کما أن فيلم "بتوقيت الشام" للمخرج إبراهيم حاتمي كيا يتضمن مشاهد عنيفة وعُرض على شاشة التلفزيون الإيراني مراراً.
وللصدفة، عرض التلفزيون الإيراني مشهداً عنيفاً آخر يقتل فيه الأب ابنته، في مسلسل "ستايش"، في نفس اليوم الذي منعت النيابة العامة فيه عرض فيلم "بيت الأبوة"، ما أثار سخرية واسعة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، إذ قارن البعض بين المشهدين متسائلاً عن سبب المنع الحقيقي، في وقت تُعرض فيه مشاهد الإعدام في الكتب المدرسية والساحات العامة وعلى التلفاز.
الأب المتدين لا يقتل
صرح أغلب المخالفين لـ"بيت الأبوة" بأن موقفهم لم يأتِ بسبب العنف فقط بل بسبب تشويه الفيلم للثقافة الإيرانية حسب تعبيرهم. فبعد قتل الأب والأخ للشابة ملوك يصل عمها وأولاد أعمامها ليتأكدوا من مقتلها ويأخذ أحدهم سيفاً من صندوق جانبي ويغرزه في الأرض الرطبة ليخرج مبللاً بالدماء ثم يقبّلون قدم الأب القاتل لحفظه شرفهم.
هذا المشهد هو في الحقيقة ما أثار غضب المتشددين في إيران، لأن السيف وما ظهر من أدوات أخرى في الصندوق يدلان على أن الأب متدين ويشارك في مراسم العزاء المذهبية المعروفة في إيران، لكنه قتل ابنته ودفنها تحت منزله وعاش طيلة حياته غير آبه بجثتها.
وزير الثقافة الإيراني الأسبق محمد حسيني رأى في الفيلم تشويهاً لشخصية الأب الإيراني وتشبيهاً له بالعربي الجاهلي الذي كان يدفن ابنته حية، معتبراً أن هذا الفيلم يروّج لفكرة إرهابية الشعب الإيراني وداعشيته.
يصور مخرج فيلم "بيت الأبوة" تربص الأب والأخ الصغير بالشابة "ملوك" أثناء عودتها إلى المنزل ومطاردتها ثم قتلها لدواعي الشرف. يخنق الأب ابنته في سرداب المنزل أولاً ثم يكسر أخوها الصغير رأسها بهاون حجري كبير ثم يقومان بدفنها تحت أرضية نفس السرداب
"الدماء التي تسفك بغير حق ستجلب الدمار". هذه إحدى الرسائل التي أراد المخرج الإيراني كيانوش عياري إرسالها عبر فيلمه "بيت الأبوة" الذي يعالج قضية جريمة شرف، ولذلك منعته الرقابة
آخرون أيضاً اعتبروا أن امتعاض المتشددين من الفيلم يأتي من إضاءته على الشخصية الإيرانية الحاكمة في المجتمع اليوم، فكل الأشياء المزعجة تُقتل وتدفن وتنسى كأنها لم تكن.
بين السينما والواقع
الجدل الذي أحدثه فيلم "بيت الأبوة" توزع على عدة محاور: الأول، قضية منع الأفلام في إيران وتوقيف العروض عندما لا تتماشى مع رؤية النظام الحاكم؛ والثاني تقديس المتدينين وضرورة عدم المساس بصورتهم اجتماعياً حتى ولو ارتكبوا المجازر؛ والثالث هو جريمة الشرف.
تنتشر جرائم الشرف في إيران، وأغلب ضحاياها فتيات دون الـ20 سنة. ووفقاً للمادة 630 من قانون العقوبات الإيراني، يحق للرجل قتل زوجته إذا تأكد من ارتكابها لفعل الزنا أما إذا كانت مجبرة على ذلك فيحق له قتل المعتدي فقط.
نجح المخرج كيانوش عياري في نقل صورة المجتمع الذكوري في إيران بذكاء سينمائي كبير. انتقاله بين مشاهد الفيلم عبر الزمن منذ عهد الشاهنشاهية إلى يومنا هذا، أي لما يقارب مئة عام، كان مميزاً من حيث الصورة والتقنيات. فالمنزل الشعبي وأزياء العائلة كنت تتغير لكن العقلية الذكورية بقيت كما هي: الأب أورث أبناءه ثم أحفاده السلطة الذكورية، ومهنة حياكة السجاد الذي عملت بها العائلة في بداية الفيلم اندثرت وحلت مكانها وظائف حديثة لكن العقلية الذكورية بقيت كما هي، على الرغم من النضال النسوي.
ملامح الأنثى المضطهدة في المجتمع الإيراني تظهر واضحة في شخصيات الفيلم من الضحية الأولى المقتولة ملوك، إلى أمها التي ماتت على قبرها بعد سنوات، إلى الحفيدة التي أرادت الانتحار هرباً من زواج أجباري، إلى الحفيدة الأخرى التي عُنّفت أمام صديقاتها.
"الدماء التي تسفك بغير حق ستجلب الدمار". هذه إحدى الرسائل التي أراد كيانوش عياري أن يرسلها عبر فيلمه "بيت الأبوة"، ولذلك وضعته الرقابة في الأدراج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون