"دي عليها جن العاشق"، كلمة لطالما ترددت في القصص والحكايات الريفية القديمة في مصر، ولا يزال البعض يزعم بوجود علاقة جنسية مع أشخاص من عوالم أخرى.
"الجن العاشق" تم توظيفه درامياً بكثرة في أفلام ومسلسلات، مثل "الإنس والجن"، و"جمال الحريم"، و"أبواب الخوف" و"التعويذة".
ويفسر البعض الآية: "يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس" بأنها عن المعاشرة بين الجن والناس، مما يدفع الكثيرين لتفسير هلوساتهم، ومشاعرهم، وبعض الأعراض بأنها "مس شيطاني".
"أنفاس ساخنة على وجهي"
شعرت أميرة جمال (30 عاماً)، تسكن في قرية بمحافظة الغربية قبل زواجها، بوجود شخص يرافقها، خاصة في أوقات النوم.
أحياناً كانت تحس بأنفاس ساخنة على وجهها، وأن "شيئاً خفياً" يسحب الغطاء من فوق جسدها، ويداً تتحسسها، وكثيراً ما كانت تستيقظ في الليل لترى قطة سوداء جالسة بجانبها على السرير.
انتهى الأمر بعد زواجها، ولكن ما تراه يعود فقط عندما تنام في بيت العائلة، بحسب رواية أميرة لرصيف22.
يتذكر محمد يوسف (32 عاماً) جيداً واقعة حدثت أيام دراسته في المرحلة الثانوية، في قرية الرجدية بمحافظة الغربية، حيث كان له جار معالج بالقرآن معروف بإخراجه الجن من أجساد الناس، يُدعى الشيخ عبد العال علام، أتته امرأة أربعينية تصيح بصوت عالٍ أن "الجن أقام علاقة جنسية معي منذ فترة"، لكنها خجلت أن تصرح بهذا الأمر لأي شخص، نظراً لكونها سيدة متزوجة.
كانت تحس بأنفاس ساخنة على وجهها، وأن "شيئاً خفياً" يسحب الغطاء من فوق جسدها، ويداً تتحسسها، وكثيراً ما كانت تستيقظ في الليل لترى قطة سوداء
وعندما تلا الشيخ بعض آيات القرآن، تحول صوتها بدرجة حادة ومخيفة، دفعت محمد إلى الإسراع بالخروج، بحسب حديث محمد، يعمل في مجال التدريس، لرصيف22.
أما أم لوسيندا (25 عاماً)، ممرضة، تقطن بمدينة المحلة الكبري في محافظة الغربية، فكانت تشعر هي الأخرى بأن شخصاً لا تراه يرافقها، فذهبت إلى الشيخ، وتلا عليها آيات من القرآن، وقال لها إنها "ممسوسة بالجن العاشق"، ولن يدعها تتزوج، ونصحها بممارسة بعض الطقوس الدينية.
إجابة شبيهة تلقتها سلمى الأباصيري (26 عاماً)، تسكن في مدينة طنطا، ومدرسة في "روضة أطفال"، من المشايخ، بعد رؤيتها المتكررة للكوابيس، مثل خيال أبيض، الذي رآه طليقها أيضاً، بحسب روايتها لرصيف22.
تقول الأباصيري: "عندما سألت بعض الشيوخ عن السبب، قالوا لي إن الجن يريد إقامة علاقة جنسية معي، ولكن جسدي يقاوم ذلك". قال لها شيخ آخر: "أحد الناس عمل لك عمل، وأنت مسحورة"، ولكن بعد مرور وقت طويل، تجاهلت الموضوع، وعادت لحياتها الطبيعية، ولم يعد ذلك الخيال يرافقها.
"الجن لديه مشاعر طبيعية"
تتحدث أماني الوشاحي، معالجة روحانية، عن الأفكار الشائعة عن الجن، تقول لرصيف22: "الجن مثله مثل البشر، منهم الذكر والأنثى، ويتزاوجون بنفس طريقة البشر، ولديهم مشاعر طبيعية، كالحب والخير والشر والفرح والحزن، وتركيبتهم النفسية تشبه البشر إلى حد كبير، لكن الاختلاف يكمن في قدرتهم على رؤية البشر ولا يمكن للبشر رؤيتهم".
وتفسر الوشاح تكرار الأحلام الجنسية، وظهور آثار على الجسد بعد الحلم مثل الكدمات بأنها تعكس "علاقة جنسية حقيقية بين الإنسان والجان".
أما عن رأي الأزهر، فينفي الشيخ أحمد كريمة بشدة لرصيف22 وجود "ما يعرف بالجن العاشق"، يقول: "هو محض خرافات، فالغيبيات التي لا نعلمها نسكت عن الخوض فيها، لا يوجد شيء في القرآن والسنة يدل على ما يعرف بالجن العاشق".
وشدد كريمة على رؤية يتبناها غير قليل من مشايخ الأزهر، وهي أن طرح مثل تلك الموضوعات "يدل على أن المجتمع غارق في تفاهات الإعلام، وهي مخططات مؤلفة، ومختلقة لإلهاء الشعوب من أجل التغطية على القضايا السياسية الهامة والكبرى".
"يسعون للتميز والسلطة"
اجتماعياً، يرى طه أبو الحسن، دكتور علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية، أن وجود كلمة "المس من الجن" تحمل "تنوعاً، بمعنى أن الشخص الذي يدعي ذلك يود أن يكون متنوعاً، أي له سلطة وقوة لا يدركها العامة البسطاء، بغرض إيصال فكرة أنه قوي ومميز، وله القدرة على الاتصال بالغيبيات، لذا يلجأ للالتصاق ببعض الأمور التي يصعب إيجاد تعريف لها، حتى يراه الناس مميزاً ومصدقاً".
"عندما تسأل شخصاً أعزب على سبيل المثال عن سبب تأخره في الزواج، وهو لديه مانع من موانع الزواج سواءً مادية أو أحد الأمراض التي تعيق قدرته على الزواج، وهو يريد أن يصرفك عن إطار التفكير المنطقي في هذا الأمر، سيقول لك "أنا عاشق جنية"، فمن الطبيعي أن الأشخاص البسطاء سيتوقف تفكيرهم عند هذه النقطة الغامضة، ولن يتمكنوا من التكذيب أو التصديق، ويظل هذا الشخص في زاوية الغموض، وتلك الحالة الغامضة تفرض على الناس شيئا من "الإجبار"، فكونك لا تستطيع رؤية الجن سيجعلك تصدق كل الأقاويل المبالغ فيها"، يقول أبو الحسن لرصيف22.
"عندما سألت بعض الشيوخ عن سبب الخيال الأبيض الذي أراه، والكوابيس المتكررة، قالوا لي إن الجن يريد إقامة علاقة جنسية معي، ولكن جسدي يقاوم ذلك"
من ناحية أخرى، تنتشر دوافع مادية ربحية، بحسب أبو الحسن، فالبعض ينشر الرعب والخرافات حتى يفتحوا لأنفسهم أبواباً من التربح، من خلال الادعاء بأن هناك ما يعرف بالجن العاشق، أو المس عموماً، وأن هؤلاء الدجالين يتمتعون بقدرات خارقة، تمكنهم من إخراج هذا الجن، وأن لهم قدرات أخرى مثل "جلب الحبيب" أو إحضار أي شيء يخطر ببالهم بواسطة الجن وقراءة المستقبل".
وشدد أبو الحسن على "أنه لا يوجد في العلم أو الشرع ما يثبت صحة هذه الخرافات، خاصة أن العلم يقول ان الجن لا يُرى أي أنه ليس مادة، وشرط المادة هو المشاهدة فكيف ستتفاعل المادة المحسوسة مع الأشياء غير المحسوسة".
خرافات الشرق الأوسط
يرجع الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، "الجن العاشق" إلى أفكار قديمة مرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط، وقد دعم تلك الخرافات بعض رجال الدين الأصوليين، بمعنى أن "اليهود السفرديم، والمسيحيين الأرثوذكس وبعض شيوخ السنة مؤمنون بتلك الخرافة، وعلى النقيض لا يوجد شيخ شيعي أو مسيحي كاثوليكي أو بروتستانتي أو يهودي أشكنازي يعالج تلك الفكرة، فهي ثقافة مرتبطة بالمكان، وقد ألصقوها بالدين من باب الترويج لها".
ويضيف فرويز لرصيف22: "على مدار التاريخ نجد أنه إذا أردت أن تخدع شعباً فعليك بمأخذ الدين، كما أنه لا يوجد حاكم دكتاتور إلا ووجد رجل دين يحلل له أفعاله، ويدعمه في أقواله".
"يفضلون إضاعة أكبر قدر من الوقت في التردد على الشيوخ".
وعن التحليل النفسي، لمن يزعمون وجود علاقة جنسية مع الجن، يقول فرويز لرصيف22: "الأشخاص الذين يدعون وجود جن عاشق يلازمهم أو حالات المس عموماً هم يفضلون إضاعة أكبر قدر من الوقت في التردد على الشيوخ، تروقهم فكرة جذب الانتباه، والمماطلة لأن لديهم أهدافاً داخلية، فعندما تدعي سيدة إصابتها بالمس، تحظى باهتمام كبير من قبل الأسرة والزوج والأبناء، ويظلون مترددين على المشايخ من أجل التخلص من تلك المشكلة، والغريب أنهم يرفضون الذهاب للطبيب النفسي خوفاً من كشف الأكاذيب".
وشدد فرويز على ضرورة الابتعاد عن الدجالين، وعن الذين يدّعون العلاج الروحاني، في حالات الصرع والانفصام، وحالات الاكتئاب الشديد، والهوس، والأمراض النفسية والعقلية "لأن تدخل المعالجين الروحانيين والدجالين في علاج هؤلاء الأشخاص يفسد حالتهم أكثر، علماً أن هذا شأن الأطباء فقط".
وفيما يتعلق بالأمراض النفسية المرتبطة بالجنس، يقول: "زيادة الرغبة الجنسية أو الشره الجنسي يندرج بشكل كبير تحت بند المرض النفسي، إذ يعدّ كل عرض من أعراض الهوس يعرف بـ"الهوس الجنسي"، وقد تكون له أسباب طبية أيضاً كوجود ورم في المخ يزيد من الرغبة الجنسية. وما يعرف بالفتور الجنسي أو ضعف القدرة الجنسية له أكثر من سبب طبي يمكن علاجه بالأدوية والعمليات الجراحية بعيداً كل البعد عن عالم الجن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...