بعد 23 عاماً من الدعوة الإسلامية، توفي النبي محمد بين أصحابه في المدينة، عام 622 ميلادياً (11 للهجرة)، بعد أن عمّ الإسلام جزيرة العرب، وسرعان ما تنازع الصحابة حول مَن يتولى القيادة من بعده في ما يُسمّى بـ"اجتماع السقيفة"، وهو الاجتماع الذي شكّل هوية الإسلام لقرون تالية.
تنازع المهاجرون والأنصار حول الأحق بخلافة النبي بعد وفاته، الأمر الذي انتهى بالسيطرة القرشية عبر شخصية أبي بكر الصدّيق، وإخفاق سعد بن عبادة زعيم الأنصار في نيل الاعتراف به كخليفة للنبي، بسبب الرفض الذي تلقّاه من فريقه متمثلاً في قبيلة الأوس، والذين رفضوا اختياره كونه زعيم قبيلة الخزرج، لما بين القبيلتين من عداوة جاهلية قديمة.
مثّل تمرد الصحابي سعد بن عبادة على السيطرة القرشية، وهو إحدى الشخصيات المحورية في عصر صدر الإسلام، أول انشقاق في الجبهة الإسلامية.
وانتهى تمرّد زعيم الأنصار باغتياله في مدينة حوران في سوريا، عام 14 للهجرة، بعد ثلاث سنوات من "اجتماع السقيفة"، ويُفترض أنها أول عملية اغتيال سياسي في الإسلام تجري بين المسلمين.
حامل راية الأنصار وحامي الرسول
سعد بن عبادة بن دليم بن الخزرج، زعيم قبيلة الخزرج، أسلم قبل الهجرة. هو أحد النقباء الـ12 الذين بايعوا النبي محمد بيعة العقبة الأولى التي مهّدت الطريق إلى يثرب.
يقول عنه ابن سعد صاحب "الطبقات الكبرى": "كان سعد في الجاهلية يكتب بالعربية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً، وكان يحسن العوم، فكان يُلقّب بالكامل لذلك".
تمتّع سعد بالثراء والكرم. يقول ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" عن كرمه: "كانت جَفنة سعد تدور مع النبي وفي بيوته جميعاً"، وعندما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار كان الرجل ينطلق إلى داره ومعه النفر والنفرين من أصحابه المهاجرين وكان سعد ينطلق بالثمانين نفراً.
لم يقتصر بذل زعيم الخزرج للإسلام على الدعم المالي، بل سخّر روحه ونفسه أيضاً لنصرة الدين الجديد وحماية الرسول، فقد كان يجيد الرمي ويتمتع بشجاعة أهّلته ليقود مع علي بن أبي طالب قوات المسلمين أثناء دخول مكة عام 8 هـ. ويقول ابن حجر في "الإصابة": "كان لرسول الله في المواطن كلها رايتان، مع علي بن أبي طالب راية المهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار".
وكان سعد يتمتع بمنزلة عالية لدى النبي وهو ما ضمن له القبول لدى السنّة والشيعة على حد سواء، فلم يضعه الشيعة مع أخصام الإمام علي الذين نازعوه الخلافة، إذ يرى السيد علي البرجرودي في "طرائف المقال" أنه ما طلب الخلافة لنفسه وإنما لعلي بن أبي طالب.
إخفاق في خلافة النبي
يُعتبر "اجتماع السقيفة" أهم اجتماع في تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي. تنازع أصحابه حول الأحق بالقيادة من بعد النبي على ثلاث شخصيات رئيسية: أبي بكر بن أبي قحافة عن القرشيين، وعلي بن أبي طالب عن الهاشميين، وسعد بن عبادة عن الأنصار.
انشغل أهل البيت بعد وفاة النبي، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، بشؤون تغسيله وجنازته. يروي الطبري (ت. 310هـ) في تاريخه: "لما قبض النبي اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة"، الأمر الذي لم يفت القرشيين، فهبّ عمر بن الخطاب وأبي بكر إلى السقيفة مُعلنين رفضهم لخلافة سعد بن عبادة، وانتهى النزاع بسيطرة القرشيين.
يتبيّن من الأحاديث المتبادلة بين الفريقين (القرشيين والأنصار) داخل اجتماع السقيفة، كما أوردها الطبري وغيره، عودة أو لنقل انتعاش الحس القبلي من جديد بعد ساعات من وفاة النبي، إذ يتضح من مقولة الخليفة الأول "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش" الاتجاه صوب إعلاء الانتماء العرقي والقبلي فوق الانتماء الديني، وهي السياسة التي عاش سعد بن عبادة محارباً لها وجرفته في تيارها.
وقعت في خلافة الراشدين أربعة حوادث اغتيال طالت خليفتين (عثمان وعلي) وصحابياً كبيراً (سعد بن عبادة) وقائد جيوش علي بن أبي طالب (مالك الأشتر). جاءت هذه الحوادث في إطار الصراع السياسي الذي انفجر بين الجيل الأول من المسلمين بعد وفاة النبي
رفض سعد الإذعان للسيطرة القرشية. يروي الطبري أنه رفض بيعة أبي بكر، وقال حين أرسلوا له ليبايع: "أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأيم الله ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما في حسابي"، فكان لا يصلّي بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ولا يحج ولا يفيض بإفاضتهم، وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر ووُلّي عمر.
حملت الروايات التاريخية عن "اجتماع السقيفة" صيغاً مختلفة لكنها متقاربة تفيد بإخفاق الأنصار بقيادة سعد بن عبادة والهاشميين بقيادة علي بن أبي طالب في تولي زمام الأمور، وقبول علي للقيادة الجديدة، مقابل رفض سعد بن عبادة الإذعان لقريش، حتى ترك المدينة ورحل إلى الشام ليلقى هنالك حتفه.
صريع الجن أم صريع قريش؟
وقعت في خلافة الراشدين (11-40هـ) أربعة حوادث اغتيال طالت خليفتين (عثمان وعلي) وصحابياً كبيراً (سعد بن عبادة) وقائد جيوش علي بن أبي طالب (مالك الأشتر). جاءت هذه الحوادث في إطار الصراع السياسي الذي انفجر بين الجيل الأول من المسلمين لحظة وفاة النبي، وانتهى بسقوط الخلافة الراشدة وتأسيس الإمبراطوية الأموية (41-132هـ).
مع مبايعة عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين، بعد وفاة أبي بكر، عام 13 هـ، قرر سعد بن عبادة ترك المدينة والرحيل إلى الشام بسبب العلاقة المتوترة مع الخليفة الجديد. يروي ابن سعد في "الطبقات" أنه لم يلبث إلا قليلاً حتى خرج مهاجراً إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب فمات بحوران.
تعددت الروايات حول مقتل سعد بن عبادة لكنها جميعاً تتفق على موته اغتيالاً. يقول ابن عساكر (ت. 571هـ) في "تاريخ دمشق": " توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر، كأنه مات في سنة خمس عشرة فما علم بموته حتى سمع غلمان في بئر منبه أو بئر سكن وهم يقتحمون نصف النهار في حر شديد قائلاً يقول من البئر:
قتلنا سيد الخزر/ ج سعد بن عبادة
رميناه بسهمين/ فلم تخط فؤاده
فذعر الغلمان فحفظ ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعد وإنما جلس يبول في نفق فاقتتل فمات من ساعته".
وروى نفس الرواية ابن سيرين وابن عبد البر وغيرهما كثر من أصحاب التراجم والطبقات من أهل السنّة. أما ابن عبد ربه، صاحب "العقد الفريد"، فقد أتى بثلاث روايات عن حادثة مقتل سعد، إحداها تفيد بضلوع الخليفة عمر في مقتله، فيروي عن أبي المنذر هشام بن محمد الكلبي: "بعث عمر رجلاً إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعه واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع قرشياً أبداً! قال فإني أقاتلك! قال وإن قاتلتني! قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله".
تُعتبر نهاية الصحابي سعد بن عبادة من أكثر النهايات الجدلية في عصر صدر الإسلام، وذلك لكثرة الروايات المتداخلة والمتقاطعة حول طريقة موته، إذ لم تتفق حول طبيعة موته (طبيعية أم اغتيالاً)، وهو ما لم يحدث مع صحابي آخر بوزنه السياسي والديني
تُعتبر رواية ابن عبد ربه عن حادثة الاغتيال، وهي الرواية الوحيدة من الجانب السنّي، مع رواية البلاذري التي تحدد هوية الرجل المُرسَل بخالد بن الوليد، إدانة واضحة للخليفة عمر وللتصور الطوباوي لدى أهل السنّة عن مجتمع الصحابة، لذلك يشكك أهل السنّة فيها، ويكتفون بالقول إنه مات في مغتسله، ويسمحون بالرواية التي تقول بقتله عن طريق الجن، الأمر الذي فتح الباب للتفسير المنطقي لدى الشيعة والحداثيين حول عملية الاغتيال.
اغتيال سعد في الروايات الشيعية والحداثية
يعتقد الشيعة أن سعد بن عبادة رفض البيعة لأبي بكر، لمناصرته لعلي بن أبي طالب. ينقل علي خان المدني المعروف بـ"ابن المعصوم"، وهو مؤلف شيعي وصاحب كتاب "الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة" عن ابن جرير الطبري عن أبي علقمة، قال: "قلت لسعد بن عبادة، وقد مال الناس لبيعة أبي بكر تدخل في ما دخل فيه المسلمون. قال إليك عني فوالله لقد سمعت رسول الله يقول: ‘إذا أنا متّ تضلّ الأهواء ويرجع الناس على أعقابهم، فالحقّ يومئذ مع علي’".
ومن أجل ذلك، بحسب الشيعة، قتله عمر، إذ يتبنّون الرواية التي نقلها البلاذري في تاريخه، وهي أن "عمر بعث محمّد بن مسلمة الأنصاري، وخالد بن الوليد من المدينة ليقتلاه، فرمى إليه كلّ منهما سهماً فقتلاه".
وجاء في "الاحتجاج" للطبرسي: "كانت لأبي جعفر مؤمن الطاق مقامات مع أبي حنيفة، فسأله لمَ لمْ يطالب علي بن أبي طالب بحقه بعد وفاة رسول الله إن كان له حق؟ فأجابه مؤمن الطاق: خاف أن يقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم المغيرة بن شعبة".
وفي إطار حديثه عن أسباب انتحال الشعر وتقاطعه مع المصالح السياسية والدينية، يشكك طه حسين، في كتابه "في الشعر الجاهلي"، في قتل الجن لسعد بن عبادة ويقول تحت عنوان "الدين وانتحال الشعر": "اتخذت السياسة الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي، في قتل سعد بن عبادة، ذلك الأنصاري الذي أبى أن يذعن بالخلافة لقريش، فتحدثوا أن الجن قتله، وهم لم يكتفوا بهذا الحديث، وإنما رووا شعراً قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد".
لم يكن طه حسين وحده من بين الحداثيين الذين شككوا في اغتيال الجن لزعيم الخزرج. يرى هادي العلوي في كتابه "الاغتيال السياسي في الإسلام" أن عملية اغتيال سعد بن عبادة تمت بتدبير من عمر بن الخطاب، وأن الباعث عليه هو إصراره على عدم إقراره بخلافة القرشيين حتى بعد أن قبل بها الهاشميون بقيادة علي بن أبي طالب وهم أحق منه في الخلافة.
يُذكَر أن قيس بن سعد، أبرز أبناء سعد بن عبادة، انضمّ إلى صف علي بن أبي طالب في حربه مع معاوية.
من جهة أخرى، يرى أكاديميون آخرون، مثل المؤرخ المصري عبد الحي شعبان والمؤرخ التونسي هشام جعيط، أن وفاة سعد بن عبادة كانت طبيعية وقد جرى تلفيق قصة اغتياله من أجل مكيدة سياسية.
ففي كتابه "صدر الإسلام والدولة الأموية"، يقول شعبان: "كان سعد هو القائد الوحيد الذي رفض بإصرار قيادة أبي بكر وعمر بن الخطاب ثم غادر المدينة في أول مناسبة سنحت له إلى سورية حيث قضى نحبه، ومما له مغزاه أن ابنه قيساً كان آخر مَن ترك القتال في سبيل علي بعد مرور أكثر من ربع قرن".
تُعتبر نهاية الصحابي سعد بن عبادة من أكثر النهايات الجدلية في عصر صدر الإسلام، وذلك لكثرة الروايات المتداخلة والمتقاطعة حول طريقة موته، فلم تتفق حول طبيعة موته هل كانت وفاة طبيعية أم عملية اغتيال، وهو ما لم يحدث مع صحابي آخر بوزنه السياسي والديني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين