انشغلت المدينة الألمانية التي نعيش فيها، بين شهري تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت، بانتخابات رئاسة البلدية. بدأت أرى صور المرشحين معلقة في أنحاء المدينة. في إحداها، سيدة خمسينية مستندة إلى دراجة هوائية، أعرف من الدراجة أنها تنتمي إلى حزب الخضر المهتم بشكل رئيسي بأمور حماية البيئة. صورة لشاب ثلاثيني وسيم وأنيق، وشعاره المكتوب على الصورة "الشباب قادرون".
من الوجوه التي رسخت في ذهني أيضاً، شاب أربعيني، ذو شعر مائل للحمرة ووجه ضاحك. تحمل صور المرشحين اسم المرشح وعبارة تمثّل أولويات برنامجه في حال صار رئيساً للبلدية. تمنيت في نفسي الفوز لبعض المرشحين الذين التمست في وجوههم لطفاً وتواضعاً، وفي شعاراتهم وعداً بالاهتمام بشؤون العائلة والطبيعة. لكن فكرة المشاركة والتصويت لأحدهم كي يفوز كانت بعيدة عن خيالي، كأنني اعتبرت نفسي حينها ضيفة على المدينة، أراقب شؤونها عن بعد دون أن أتدخل، كما هو متوقع من أي ضيف مؤدب لا يقحم نفسه في شؤون بيت مضيفيه.
أمشي في أنحاء المدينة، أنظر إلى صور المرشحين، وتمر في ذاكرتي شرائط من الذاكرة. خيام الاحتفالات التي كانت تنصب للدبكة احتفاء بحدث "الانتخابات" أو "تجديد البيعة"! ويقفز فجأة لذاكرتي اسم شخص كان لمدة رئيس بلدية مدينتي، رسخ اسمه في ذهني لأن أهل المدينة استبدلوا كنيته بكلمة "المطبات"، حيث إن رئيس البلدية ذاك لم يفعل شيئاً يذكر سوى إضافة مطبات لتخفيف السرعة في كل شوارع المدينة، وكأن هذا أولوية مدينة عدد السيارات فيها، كان ومازال، محدوداً ومحصوراً بالعائلات الميسورة. أمشي في المدينة وأدندن ما يتيسر لذاكرتي من سكيتش فيروز ونصري شمس الدين: "يا رئيس البلدية، بلديتكم كريمة، كل يوم عندا عزيمة، طعمين على حسابك بيصير عندك شعبية!".
خلف لامبالاتي هناك عدم ثقة بالعاملين بالسياسة ووعودهم. خلف لامبالاتي هناك غربتي عن كل هذا الحدث، فما شهدته في بلادي لم يكن إلّا مسرحية أجبرنا على التمثيل فيها، وأداء الدور المرسوم والمكتوب لنا
بيني وبين وجوه المرشحين والانتخابات حاجز غير مرئي، حاجز ظهر في وعيي على شكل لامبالاة واستبعاد المشاركة بالتصويت. حاولت فيما بعد استكشاف عمقه وجذوره. هذه اللامبالاة الظاهرة ليست إلا العرض المرئي لعدم إيماني بأن المواطن العادي يمكن أن يكون مؤثراً من خلال صوته الانتخابي، بما سيكون ومن سيكون. خلف لامبالاتي هناك عدم ثقة بالعاملين بالسياسة ووعودهم. خلف لامبالاتي هناك غربتي عن كل هذا الحدث، فما شهدته في بلادي لم يكن إلّا مسرحية أجبرنا على التمثيل فيها، وأداء الدور المرسوم والمكتوب لنا. خلف لامبالاتي جبل من مخلفات العيش في ظل الديكتاتور ومشاعر العجز وصوت يقول: "مهما حاولنا سيبقى القرار في يد آخرين لديهم ما ليس لدينا من سلطة وقوة".
لكن انتخابات رئيس البلدية غافلتني وزارتنا في البيت. أخبرني زوجي أنّنا، وكل مواطني المدينة، سنتلقى دعوة بريدية للمشاركة في التصويت. صار ما أتابعه على يوتيوب يقطع بإعلانات يظهر فيها أحد المرشحين ليتحدّث عن خطته لتطوير المدينة والحياة فيها. يقول أحدهم إن ضفتي النهر الكبير الذي يجتاز المدينة مهملتان جداً، وهو لديه خطة لتصبح ضفتا النهر أمكنة منظمة تزدهر فيها الحياة. سيكون هناك مقاه ومطاعم وملاعب أطفال ومسارات طويلة للمشي والتنزه. أسمعه وترتسم صورة خطته خيالاً جميلاً، وأقول ليتك تفوز ليتحقق هذا الحلم. في إعلان آخر يظهر الشاب ذو الشعر الأحمر، بوجهه اللطيف المبتسم وملابسه الشبابية البسيطة، فيبدو كشخص مألوف قريب، لا بدلة رسمية ولا كرافات، لا وجه صارم ولا كلام نظري متكلّف، يقول في إعلانه الذي لا يتجاوز الدقيقة من الوقت، إن أولويته هي جعل المواصلات العامة مجانية ومتوفرة كي يستغني الجميع عن سياراتهم، وأن طرق الدراجات الهوائية ستطوّر، وأن الحدائق ستوسع ويعتنى بها أكثر لخدمة العائلات مع أطفالهم. أسمعه ويرفرف قلبي فرحاً وأتمنى له الفوز.
ظهرت النتائج في اليوم التالي، خسر المرشح الذي صوتنا له، ولكن لا يهم، ما دام من فاز لا يحلم أو يطمح للبقاء للأبد، خسر المرشح وفازت الأحلام وقال قلبي: "عقبال الفرح بديارنا"
حدثت الجولة الأولى من الانتخابات، ذهب زوجي وحده لينتخب، وتحججت بالبرد والتعب وعدم معرفتي الكافية ببرامج المرشحين كي أختار. ظهرت النتائج وأصيب زوجي بخيبة أمل، لأن من حقق أفضل النتائج كان مرشح الحزب المحافظ. لكن هناك جولة ثانية، أي هناك فرصة جديدة للتغيير. صارت انتخابات رئيس البلدية حديث عائلتنا. قرأ زوجي عن برامج المرشحين الباقين في الجولة الثانية. بدأنا نستمع كعائلة إلى جولات المنافسة الحوارية بين المرشحين في الجولة النهائية، وكانوا ثلاثة رجال. دخلت انتخابات رئيس البلدية حيز اهتمام طفلتي الصغيرتين، تستمعان باهتمام كبير للجولات الحوارية بين المرشحين، وتعلقان على ما يقال. تقول الكبرى: "ليتهم يسمحون للأطفال أيضاً بالتصويت! أريد أن أشارك لأمنع الشرير، الذي قد يسمح بقطع أشجار الغابة للسماح للأغنياء ببناء بيوتهم فيها، من أن يصير رئيس البلدية!"، وتقول الصغرى المولعة بالخيول: "إذا أصبحت أنا رئيسة بلدية، لن يكون هناك سيارات بل أحصنة وعربات تجرّها أحصنة".
كنت أستمع لجولات النقاش بين المرشحين ولتعليقات صغيرتي بسعادة واستمتاع. ذاب جليد لامبالاتي تجاه الانتخابات تحت شمس اهتمام عائلتي الصغيرة وتعليقات طفلتي. إذن يمكن لطفل أن يحلم بأن يكون يوماً فاعلاً ومؤثراً في شأن مدينته وبلده! صارت الانتخابات شأناً يخصّنا، يمكننا أن نؤثر فيه من خلال تصويتنا، ونتيجته ستؤثر علينا سلباً أو إيجاباً، تبعاً لما سيأتي به رئيس البلدية الجديد من خطط للمدينة ونمط الحياة فيها. جاء يوم التصويت وانتخبنا أنا وزوجي مرشحنا المفضّل. ظهرت النتائج في اليوم التالي، خسر المرشح الذي صوتنا له، ولكن لا يهم، ما دام من فاز لا يحلم أو يطمح للبقاء للأبد، خسر المرشح وفازت الأحلام وقال قلبي: "عقبال الفرح بديارنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين