شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يبقى الخروج من سوريا أعظم إنجاز يُسجل في سيرته الذاتية التي يستخدمها كثيراً

يبقى الخروج من سوريا أعظم إنجاز يُسجل في سيرته الذاتية التي يستخدمها كثيراً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 29 يناير 202103:17 م

لو سمح لي عمر الخيام، وأذِنَ أحمد رامي، أنا أيضاً سمعتُ صوتاً هاتفاً في أسحارِ العشر الأخير من ليالي الشام، ينادي باسمي، كما يُبشّر السجناء المحظوظون ربّما: ضبْ غراضك... إفراج!

 عرفتُ حينها أن الرحيلَ عنها قد أزِف، لا تهم الوجهة بقدر ما يهم الخروج فقط، هكذا يقول حديثو الحرية.

لماذا نهاجر؟

لماذا نترك بيوتنا وحاراتنا وأصدقاءنا؟

لمن نترك تلك الأمكنة المسمّاة في كتب القومية المنافقة والمزوّرة "أوطان"؟

لماذا نتحول إلى غرباء حتى إشعار آخر؟

كرمى لمن؟

لماذا لم نكتب داخل السجن؟ 

لماذا الآن فقط نشعر وكأن بحراً من الكلام يريد الخروج من الأفئدة والألسنة والأقلام؟ 

لو سمح لي عمر الخيام، وأذِنَ أحمد رامي، أنا أيضاً سمعتُ صوتاً هاتفاً في أسحارِ العشر الأخير من ليالي الشام، ينادي باسمي، كما يُبشّر السجناء المحظوظون ربّما: ضبْ غراضك... إفراج!

الأسئلة كثيرة، والأجوبة أيضاً كثيرة، يعرفها كل واحد يريد أن يسترجع ما تبقى من إنسانيته، خاصةً إذا كان سورياً، حينها ينتهي الكلام، ويبقى الخروج فقط من تلك البقعة أعظم إنجاز يسجل في سيرته الذاتية التي سيستخدمها كثيراً. 

قبل يوم فقط من هطول المطر العظيم في الشام، وتدهور المنظومة الكهربائية، المتدهورة أساساً، قبل يومٍ فقط من الاجترار الحكومي المعتاد، في كلِّ شيء، حُلَّ وثاقنا...

ففي الطريق إلى آخر باب من أبواب السجن الكبير، لا أعرف لماذا صار أوتوستراد العدوي أحد شوارع غواتيمالا الكئيبة، وساحة العبّاسيين وملعبها ارتديا أحزان كابول، وأحياناً اعتقدنا أننا ذاهبون إلى مطار هانوي، أو ربّما أبوجا أو كراتشي أو بيروت، لكنْ عند أول حاجز تفتيش، للشباب الطيبين، تلاشت الصور، ووقف الزمن لثوانٍ، فأدركنا أننا ذاهبون إلى مطار دمشق التي اجتمعت فيها كل المدن الحزينة.

"بعد كم ساعة رح تشوف غير هالسما، وتشم غير هالهوا، معقول ما عاد نشوفك؟" يسألني صديقي الذي كان من أصحاب الحظ الجيد، أمس ذلك اليوم، حين أمّن على سيّارته، وعبّأها من كازية القصور، خلال نصف ساعة فقط، يا لفرحته! 

لكن للأسف لم أمتلك أي جواب سوى: "البس كمّامتك وصف بهالطابور الحلو" المكتظ بأجهزة التنفّس السليمة، وحاملي المسحات السلبية، ونحن منهم بالمناسبة، فليسقط الكورونا، الموت للكورونا، دفعنا 126 ألفاً و500 ليرة عالفاضي!

حقائب كثيرة، ودموع غزيرة، وكمّامات بكل الأشكال والألوان، وأناس من جميع الفئات العمرية، وكم امرأة جميلة، اجتمعوا عند أول نقطة عبور التي كانت آخر مرة ألمح بها أمي "التنحة" جداً وأبي الذي أتعبني بهمساته على الطالعة والنازلة: أوعك تحكي سياسة! 

عبرنا أول نقطة والثانية ثم الثالثة والرابعة بنجاح، ومن دون "إكراميات"، أولئك الموظّفون يمتازون بنوعٍ خاصٍ جداً من الوقاحة -لا ليس مثل الهجرة والجوازات، وشعب التجنيد، هؤلاء يبقون في المقدمة- وعودي الكاذبة أنقذتني من "الدفع" يلي مو طالع من خاطري بنوب.

الانتظار في قاعات المطار كان ثقيلاً جداً، مثل الانتظار داخل الشام المليئة بصلبانه، أينما يمّمت وجهك تجد حقيبة أو اثنتين، يا لكثرة المسافرين! يا لكثرة السجناء!

حقائب كثيرة، ودموع غزيرة، وكمّامات بكل الأشكال والألوان، وأناس من جميع الفئات العمرية، وكم امرأة جميلة، اجتمعوا عند أول نقطة عبور التي كانت آخر مرة ألمح بها أمي "التنحة" جداً وأبي الذي أتعبني بهمساته على الطالعة والنازلة: أوعك تحكي سياسة! 

التقيت بفراس من سهل حوران، يمتهن صناعة الحلويات العربية، قدّم لنا قطعتين من "المبرومة" التي كان يحملها بعلبة صغيرة للتسلية في تلك القاعات، ثم تبادلنا السجائر والنكات على أنفسنا قبل هذا البلد، قال لنا إنه أتى إلى مطار دمشق كي يعود مرةً أخرى إلى الخرطوم، للعمل، على الأغلب كان في زيارة عائلية. 

وهذا عامر قدم من حلب، انتهى من دراسة الحقوق فيها، وعلى الرغم من امتلاكه فرصة تأجيل من الخدمة العسكرية بما تسمى "الأستذة" فهو مصرٌ على السفر بأي طريقة كانت: خيو داق النَفَس! لكنّ وجهته ليست إلى الخرطوم، بل إلى أربيل، عاصمة إقليم كوردستان العراق. 

على العموم، السودان وإقليم كوردستان العراق فقط، هما العنوانان البارزان، أو بالأحرى الرئيسيان، للسوريين الراحلين من تلك البقعة، إلا من كان قاصداً بغداد للعمل، أو بيروت وطهران كـ "ترانزيت" إلى دولة الإمارات أو تركيا، هكذا شاهدنا، ولاحظنا، وتحدثنا.

لكن ما لم نتوقعه هو أن الطائرة المزيّنة بالشعارات القومية، تحولت خلال لحظات من دخول الناس إليها إلى "ميكرو مهاجرين صناعة". فعلى ما يبدو أن الناس قد اجتوت الشام، بل البلد بأكمله، ولهم أعذارهم، أو بالأحرى ما عادوا بحاجة لها.

الأمر المهم والأساسي الذي وقفنا عنده كثيراً خلال هذا المخاض، هو أن المضيفات السوريات "عاديّات" جداً، بالكمّامات، وبدونها، هنّ ووجباتهنّ. 

دقائق قليلة، وتقلع الطائرة، فتغيب تلك المدينة المظلمة عن الأنظار، تغيب هي، وتبقى سنواتها العشر الأخيرة في غياهب الوجدان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image