لم يذكر المؤرخون أن تونس كانت عبر العصور الماضية مُنفّرة للإنسان، بل على العكس تماماً إذ أخبر الدارسون أنها كانت قبلة الشعوب من كامل أرجاء المعمورة، غير أنه وبعد أكثر من 3 آلاف سنة، منذ سكن الإنسان لأول مرة هذه الربوع، أصبح حلم الشباب متمثلاً بما وراء البحار، من خلال الهجرة الشرعية وغير الشرعية.
تونس التي كانت جاذبة للإنسان في فترة قوتها وضعفها، وأثناء ازدهارها وحتى أثناء أفول نجمها، أصبحت اليوم مُصدّرة للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وبالتحديد نحو جنوبي القارة العجوز التي يمنّي الشباب أنفسهم عند الوصول إليها بحياة كريمة.
حسب معطيات نشرها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، في كانون الثاني/ يناير عام 2021، حول الهجرة غير الشرعية خلال عشر سنوات ما بعد الثورة فإن 65657 مهاجراً تونسياً بلغوا إيطاليا، دون اعتبار الذين لم يُسجّلوا أو اختفوا عن الأنظار، في حين تم إيقاف 42019 مهاجراً، بمعنى أن ثمة نحو مئة ألف شاب وأكثر، وصل منهم حوالي 95% إلى السواحل الأوروبية، عبر مختلف الطرق البرية والبحرية.
حسب المنتدى، فإن أغلب الذين هاجروا اتجهوا بحراً نحو إيطاليا ومالطا، حيث تجاوز عددهم الـ12 ألف مهاجر، أما من اتجهوا براً فكان عددهم حوالي 192 مهاجراً نحو إسبانيا ثم نحو البلقان وصربيا وتركيا، بينما تم احتجاز أكثر من 600 مهاجر تونسي في مليلية الإسبانية، ما قلّص من توجه المهاجرين نحو إسبانيا في الفترة الأخيرة.
وانطلقت الهجرة غير الشرعية من جنوب البحر الأبيض المتوسط، خاصة من تونس، نحو جنوب قارة أوروبا عام 1990، بعد انضمام إيطاليا وإسبانيا إلى منطقة "الشنغن"، وفرضهما لتأشيرة دخول إلى أراضيهما بالنسبة للأجانب، خاصة للآتين من دول شمال إفريقيا، وهو ما دفع الشباب إلى ركوب البحر وأهواله بحثاً عن حياة أفضل.
لكن قبل 70 عاماً من الآن، كان مشهد الهجرة مختلفاً تماماً عما هو عليه اليوم، فقد كان الأوروبيون يهاجرون نحو تونس طلباً للشغل والكرامة والسلام، وهرباً من الفقر والجوع والحرب.
الهجرة نحو الجنوب... منذ العهد الحفصي
يذكر أحمد الطويلي، في كتابه "في الحضارة العربية التونسية"، أن التجارة بين تونس وبلاد الإفرنج نشطت ورافقها انتقال العديد من العمال والتجار للإقامة في تونس بفضل سياسة التفتّح التي انتهجها المستنصر، وذلك بعد الحملة الصليبية الثامنة الفاشلة على إفريقيا (تونس) عام 1270 وتوقيع اتفاقية الصلح بين المستنصر بالله الحفصي وشارل دانجو.
خلال الحكم المرادي لتونس كانت مدينة طبرقة الجبلية وجهة المهاجرين نحو تونس، ثم شهدت البلاد بعد ذلك دفعات متتالية من المهاجرين اليهود الوافدين من مدينة ليفورنو الإيطالية، وقد فضّل هؤلاء الاستقرار في تونس بعد أن أقاموا طيلة أجيال متعاقبة في هذا الميناء التجاري الإيطالي منذ أن تم تهجيرهم من إسبانيا والبرتغال، إثر استعادتهما من قبل المسيحيين.
مثّلت تونس على امتداد قرون من الزمن أرضاً جاذبة للمهاجرين والتجار الأوروبيين، خاصة من جنوب القارة العجوز وبالتحديد إيطاليا وصقلية وفرنسا. وكانت عمليات الهجرة تتطور خلال فترات الاستقرار والازدهار وانتعاش الاقتصاد، بينما تتراجع خلال فترات الاضطرابات، لذلك شهدت بعض الفترات مداً من الهجرة على غرار فترة حمودة باشا الحسيني وكذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى باتت القوانين في تونس تذكر ما يضمن حقوق الجاليات الأوروبية على غرار "عهد الأمان" عام 1857 ودستور عام 1861.
بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس، عرفت الأخيرة موجات من الهجرة الشرعية وغير الشرعية، حيث ازداد عدد الأجانب فيها بشكل لافت، خاصة من الإيطاليين، بينما اعتمدت سلطات الاستعمار توجهاً يقضي باستقدام المعمّرين من أجل إرساء دعائم الاستعمار في تونس والسيطرة على أراضيها.
غالبية المهاجرين من العمال والفقراء
عرفت الهجرة من أوروبا، وخاصة إيطاليا، إلى تونس تطوراً كبيراً مع بداية الربع الأخير للقرن التاسع عشر، لتشهد بداية القرن العشرين طفرة كبيرة، تجاوز خلالها عدد الإيطاليين في تونس الـ100 ألف مهاجر.
وفي هذا الشأن، قال الأستاذ في الجامعة التونسية والمؤرخ عبد اللطيف الحناشي، في حديثه لرصيف22، إن الهجرة نحو تونس من جنوب القارة الأوروبية خاصة إيطاليا برزت بشكل كبير منذ عهد خير الدين باشا (الوزير الأول بين عامي 1873 و1877)، حيث كان المهاجرون يعملون في التجارة والطب والأعمال اليدوية، ثم تطورت الهجرة بشكل جلّي بعد الاستعمار الفرنسي.
ولفت الحناشي إلى أن الهجرة القانونية تزامنت مع أخرى غير قانونية عبر تجاوز الحدود التونسية خلسة، خاصة عبر البحر، مبيّناً أن عدد الإيطاليين كان في تونس عام 1881 -عندما دخل الاستعمار الفرنسي- حوالي 10 آلاف مقابل 700 مهاجر فرنسي فقط.
وبحسب الحناشي، برزت هجرة الإيطاليين نحو تونس بشكل جلّي بعد توقيع اتفاقية بين فرنسا وإيطاليا عام 1896، ما سمح بتزايد عدد المهاجرين نحو تونس، مشيراً إلى أن 70 في المئة من هؤلاء كانوا من الكادحين الذين يشتغلون في البناء والزراعة، في ظل الظروف الصعبة مثل الفقر والبؤس وشبه الحرب التي عرفها الجنوب الإيطالي في تلك الفترة.
وأوضح الحناشي أن عدد الإيطاليين في تونس بلغ عام 1936 أكثر من 94 ألف مهاجر مقابل 108 آلاف فرنسي، مشيراً إلى أنه منذ الثلاثينيات بدأ عدد الإيطاليين بالتراجع في تونس بسبب تجنس عدد كبير منهم بالجنسية الفرنسية.
وقال الحناشي إن الإيطاليين الذين كانوا يهاجرون إلى تونس أغلبهم من الجنوب الإيطالي الفقير، وكانوا يأتون إلى هنا من أجل العمل في مختلف الأنشطة وخاصة الزراعة والبناء، مبيّناً أنهم كانوا يتعرّضون لمعاملة سيئة من الفرنسيين لكنها بطبيعة الحال كانت أفضل من معاملة الفرنسيين للتونسيين.
برزت هجرة الإيطاليين نحو تونس بشكل جلّي عام 1896، و70 في المئة ممن وصلوا إليها كانوا من العاملين في البناء والزراعة، والهاربين من الظروف الصعبة مثل الفقر والبؤس وشبه الحرب التي عرفها الجنوب الإيطالي في تلك الفترة
كما أبرز الحناشي تطور عدد المهاجرين الإيطاليين في تونس، حيث كان الإيطاليون الذين يشتغلون في القطاع الصناعي في بداية القرن العشرين حوالي 48 ألفاً مقابل 21 ألف فرنسي، بينما في القطاع الزراعي كان هناك 14656 إيطالياً مقابل تسعة آلاف فرنسي.
وأشار الحناشي إلى العديد من الجنسيات الأخرى التي كان أصحابها يأتون إلى تونس، على غرار المالطيين والبريطانيين والسويديين واليونانيين، إضافة إلى العرب من الجزائر وليبيا خاصة.
بين اللجوء السياسي والتهجير
إضافة إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية، ثمة عوامل عدة ساعدت في تطوّر هجرة الإيطاليين إلى تونس ومنها العامل السياسي خاصة بعد صعود الحزب الفاشي في بداية العشرينيات، وهرب الآلاف إلى تونس خوفاً من بطش نظام موسوليني.
وفي هذا الخصوص، قال الحناشي إن فترة العشرينيات شهدت هجرة آلاف الإيطاليين من المعارضين للفاشية، وهو ما جعلهم يهاجرون إلى تونس، علماً أن السلطات الاستعمارية الفرنسية قابلتهم بخشية كبيرة.
وأكد الحناشي أن الإيطاليين قدموا إلى تونس في بداية العشرينيات خوفاً من النظام الفاشي، على غرار الشيوعيين والاشتراكيين، مبيّناً أن سياسيين إيطاليين هربوا كذلك إلى تونس كزعيم الحركة القومية الذي لجأ إليها عام 1860، فيما كان موسوليني يملك قصراً في منطقة بوعرقوب في محافظة نابل.
وأكد المؤرخ التونسي تعرّض آلاف الإيطاليين في تونس بعد الحرب العالمية الثانية إلى عمليات إبعاد ونفي وتهجير إلى إيطاليا من قبل سلطات الاستعمار، بتهمة المشاركة في الحركة الفاشية، مشيراً إلى أنه تم الاستيلاء على كل أملاكهم الخاصة على غرار المملكات في جهة قرمبالية والأراضي التي كانت تُزرع عنباً وخموراً.
وبموازاة ذلك، حظر الاستعمار الفرنسي الصحف الشيوعية الإيطالية بشكل عام، كما تم وضع العديد من الإيطاليين في الإقامة الجبرية على غرار الإيطاليين الموجودين في محافظة الكاف التي كانت تضم العدد الأكبر من الشيوعيين.
وقال الحناشي إن الإيطاليين كانوا يصدرون صحفاً خاصة بهم ولديهم مدارس ونقابات ومصانع ومستشفيات، مثل "المستشفى الإيطالي" سابقاً والذي تغيّر اسمه الآن إلى "مستشفى الحبيب ثامر".
"نحن نموت من الجوع في صقلية"
في 6 آب/ أغسطس عام 1947، نشرت الجريدة التونسية الناطقة باللغة الفرنسية "La Dépêche Tunisienne" مقالاً عنوانه "تونس أرض الاختيار: الوطن القبلي المكان المفضّل لهبوط المهاجرين غير الشرعيين من صقلية".
"يمكن أن تكون إعادة قراءة صفحة من صفحات تاريخ إيطاليا المعروف قليلاً لدى الكثير من العامة مثيرة للاهتمام، وهي تاريخ الإيطاليين في تونس"... عن زمن هاجر فيه الإيطاليون وغيرهم إلى تونس بحثاً عن الخبز والأمان والحرية
وتحدث المقال عن اعتقال مهاجرين غير شرعيين في منطقة قليبية من محافظة نابل، جاؤوا يبحثون عن السلام والخبز والحرية، مؤكداً أن هذه الظاهرة مستمرة وهنالك قوات للدرك والشرطة تقاومها.
وحسب ما ورد في المقال، فإن هؤلاء المهاجرين قالوا "نحن نموت من الجوع في صقلية ونفضل الموت هناك على العودة".
وذكر مقال لجريدة "Aujourd'hui"، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1953(قبل 3 سنوات من الاستقلال)، تحت عنوان "يهددهم الموت والسجن"، أن "السياح السريين القادمون من صقلية يقطعون مسافة 250 كيلومتراً بحراً ليقتربوا من الوطن القبلي"، مشيراً إلى أن" المهاجرين يركبون البحر بحثاً عن لقمة العيش وهرباً من فقر الجنوب الإيطالي غير الآمن".
ذكر الكاتبان ألفونسو كامبيزي، وهو أستاذ فقه لغة القصص في جامعة منوبة في تونس، وفلافيانو بيزانيللي، وهو أستاذ مساعد في جامعة مونبلييه، في كتابهما "ذكريات وقصص من البحر الأبيض المتوسط - تاريخ الهجرة الصقلية في تونس بين القرنين التاسع عشر والقرن العشرين"، أنه "في وقت مشابه لوقت الهجرة الحالية من الجنوب إلى شمال العالم، يمكن أن تكون إعادة قراءة صفحة من صفحات تاريخ إيطاليا المعروف قليلاً لدى الكثير من العامة مثيرة للاهتمام، وهي تاريخ الإيطاليين في تونس".
أكثر من 100 ألف إيطالي وصلوا إلى شواطئ تونس في بداية القرن العشرين بعد أن انطلقوا في قوارب من سواحل إيطاليا إثر استفحال البؤس والفقر المدقع في الجنوب الإيطالي وارتفاع البطالة.
ولفت كل من كامبيزي وبيزانيللي إلى أن أكثر من 100 ألف إيطالي وصلوا إلى شواطئ تونس في بداية القرن العشرين، بعد أن انطلقوا في قوارب من سواحل إيطاليا إثر استفحال البؤس والفقر المدقع في الجنوب الإيطالي وارتفاع البطالة، فركبوا القوارب من جزيرة بانتيليريا متجهين جنوباً إلى تونس بحثاً عن العمل والرزق، وهرباً من اليأس والجوع والحاجة.
وأضاف الكاتبان أن الإيطاليين وصلوا إلى تونس على متن قوارب بسيطة من سواحل صقلية، جالبين معهم القليل مما كان لديهم من رؤوس الماشية وجاءوا وهم يملكون الرغبة في العمل... أملاً في حياة أفضل".
"هؤلاء الناس كانوا من البنائين والمزارعين والصيادين، لكن في الغالب من العمال الكبار، حيث أنهم كانوا يعرفون كيفية بناء وإعطاء الحياة لأحياء بأكملها انتشرت بعد ذلك في جميع أنحاء البلاد"، وفق الكاتبين.
كما ذكر كتاب "تونس موزاييك" للكاتبين باتريك كابانال وجاك ألكسندوبولوس أن عدد الإيطاليين في تونس تطوّر، إذ بلغ عددهم عام 1881 حوالي 11200 (عدد الفرنسيين 700 شخص)، بينما كان عدد سكان تونس آنذاك مليون ونصف المليون، وبلغ عدد الإيطاليين عام 1901 أكثر من 71 ألفاً ثم كان عددهم حوالي 94 ألف شخص عام 1936، بينما كان عدد الفرنسيين آنذاك 108 آلاف. عندها كان عدد السكان في تونس 3 ملايين و783 ألفاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...