في كل مكان حلّت فيه، ولّدت الهيمنة صوراً وخيالات أظهرت أجساد الخاضعين لها كأدوات تضع نفسها "بشكل تلقائي" في خدمة الباحثين والرحّالة والمستعمِرين.
رجلان أبيضان يقيسان بواسطة فرجار (بيكار) مؤخرة امرأة سوداء البشرة، بحّار أمريكي يضع يده براحة على نهد امرأة فيتنامية، صورة امرأة تُظهر ثدييها علناً مكتوب عليها "بعض النساء يفضلن من الخلف"، رجل أسود عارٍ يجلس على سرير سيدة بيضاء عارية يراقبها أثناء نومها، رجل أبيض يعتلي امرأة سوداء مستسلمة للنوم، جنود فرنسيون يحيطون بامرأة في الجزائر يمسكها أحدهم رافعاً فستانها بينما تعلو الابتسامات الوجوه، يابانيون يُقحمون نباتات "البامبو" في الأعضاء الجنسية لنساء صينيات، مصوّر في السنغال يلتقط صورة فتاة (أول المراهقة) عارية تماماً في حديقة منزله…
صور ولوحات جنسيّة/ بورنوغرافية كثيرة تركها وراءهم مستعمرون - على اختلاف أشكالهم - منذ القرن الخامس عشر إلى اليوم. هذا "الإرث"، ظهر في أكثر من ألف صورة ولوحة (1200 تحديداً) جمعها الكتاب الموسوعي الجديد بعنوان "الجنس، العرق والمستعمرات"(Sexe, race et colonies) في 544 صفحة ملونة، لم تكن بمعظمها موجودة في أي من المتاحف أو المعارض نتيجة إخفائها أو نسيانها.
ورغم ما نُشر سابقاً من صور "استعمارية" متفرّقة هنا وهناك، أتت صور الكتاب الجديد (دار "la Découverte"/ السعر 65 يورو) مكثّفة لتقدّم بعداً آخر لفهم المستعمرات كما كان يراها أصحابها: جنة مأهولة بأجساد عارية تنتمي إلى الطبيعة البدائية وبديهي أن تكون تحت تصرفهم، هم الذين كانوا يتحررون من "ثقل" القيم الأخلاقية بمجرد وصولهم إلى "الجنة".
ومنذ الإعلان عن صدوره، أثار "الجنس، العرق والمستعمرات" الجدل (لا يزال فرنسياً بشكل أساسي بفعل طزاجة الكتاب)، والسبب ما تضمنه من صور مباشرة وصادمة أولاً، ثم والأهم حول أحقية نشر تلك الصور من عدمها.
ملكية الجسد من ملكية الأرض
ستة قرون من تاريخ الإمبراطوريات الاستعمارية ادعى الكتاب توثيقها بفيضان من الصور المباشرة، من دون غطاء يحجب أي جزء من الجسد. ومع تزاحم الصور، أراد معدو الكتاب أن تتعرّى أمام القارئ تلك النزعة الاستعمارية التي غلّبت امتلاك الجسد على امتلاك الأرض، أو اعتبرت الأول مدخلاً أساسياً للثاني.
97 كاتب وباحث، يُعرف العديد منهم بجهودهم في العمل على تفكيك الاستعمار، شاركوا في إنجاز الكتاب، وأبرزهم كان المؤرخ باسكال بلانشار، الذي أدار العمل.
في مقدمة الكتاب، كان السؤال "ما هي المستعمرات إن لم تكن ثقباً عجيباً، مركّباً متناقضاً يمنح في إحدى وجوهه، للراغبين والراغبات، باباً مباشراً مطلقاً للجنس باعتباره مزيجاً من المكونات الغامضة التي تُختصر وظيفتها بإيقاظ الرغبة؟ ندخل في المستعمرة كمن يقع في فخ، ننتقل من جسد لآخر بطفرة وحشيّة ورغبة مسعورة بامتلاك سلطة تكون شاذة بقدر ما هي سادية، ندخل في المستعمرة كمن يقع في مساحة للتفريغ المرتبط بالعدائية والعنصرية والكره، الكره الذي يتضمن بدوره كرهاً للذات".
وفي مقطع آخر من المقدمة، كان تعريف الاستعمار ببعده الجنسي أكثر وضوحاً "أن تستعمر يعني أن تتدخل في شكل التبرّج ومستحضرات التجميل والجسد نفسه وصولاً إلى إعادة تركيب مفهوم المخيال الجنسي من جديد… أن تستعمر يعني أن تُحدث شرخاً بين ما يراه صاحب الجسد في نفسه وبين ما تحدّده أنت كمستعمِر باعتباره صالحاً للمشاهدة في صورة (الآخر)، بما يعني أن يكون الجسد مخصصاً لإنتاج المتعة التي تتخطى صاحب هذا الجسد والتي لن تكون بالضرورة ملكه…".
في السياق ذاته، كتبت فرانسواز فيرجيس في الكتاب مشيرة إلى منح المستعمرين الأوروبيين واليابانيين والأمريكيين أنفسهم، ليس فقط حق الاستمتاع بالأجساد بل كذلك حق تنظيم العلاقات الجنسيّة، كما حصل في تنظيم الدعارة من قبل الفرنسيين في الجزائر بعد أسبوع على وصولهم إليها، حيث تمّ تشريع العمل فيها بما يسمح للجنود، البعيدين عن زوجاتهم، أن يفرّغوا "التعب والضغط" الذي يواجهونه. أما حين بدأ مسار إنهاء الاستعمار، أطلق المستعمِرون العنان للعنف الجنسي.
صور تسبّب الدوار
كتبت سونيا فور في صحيفة "ليبراسيون"، التي تفرّدت بالإعلان عن الكتاب قبل صدوره وخصصت مقالات عديدة لمناقشته، معلقة بأن "استعمار بلد ما يعني تعرية الآخر، تفصيل خريطة جسده، امتلاكه، تصنيفه، سواء في الصور الفوتوغرافية واللوحات أو في كتب الإثنوغرافيا والطب. آلاف البطاقات البريدية التي تمّ تبادلها عبر العالم لصور الأجساد العارية، لوحات دولاكروا الشهيرة، البورنو الاستعماري المربح اقتصادياً... كلها عناصر أسهمت في رسم الحدود البصرية الحقيقية بين (الآخرين/ المُستَعمَرين) والمستعمِر، والتي لا تزال ترخي بثقل التسلسل الهرمي الرهيب للأعراق على مشهد عالمنا اليوم".
1200 صورة صادمة تقدّم بعداً آخر لفهم المستعمرات كما رآها أصحابها: جنة مأهولة بأجساد عارية تنتمي إلى الطبيعة البدائية وبديهي أن تكون تحت تصرفهم، هم الذين كانوا يتحررون من "ثقل" القيم الأخلاقية بمجرد وصولهم إلى "الجنة"
"الكتاب وقع في فخ ما ادعى محاربته، داخلاً في لعبة تبادل البطاقات البريدية الإباحيّة بالشكل نفس"... واجه الكتاب انتقادات عديدة شكّكت في أخلاقيّة مضمونه
أما الروائية المغربية ليلى سليماني، المشاركة في العمل، فقالت "هذا الكتاب ليس تمريناً على جلد الذات، أو فعل ندامة، بقدر ما هو إرادة علمية تسعى لإخبار قصة استعمارية مختلفة، عن الخيالات الجنسيّة وصناعتها، مدعومة بأداة جبارة هي الصورة".
لكن الصورة في "الجنس، العرق والمستعمرات" مختلفة. الكتاب أشبه بـ"كاتالوغ"، صوره بأغلبها ملونة لا تحصر الاستعمار في الانتهاكات الجسدية والاغتصاب، بل تقدّم جانباً إيروتيكياً يحاكي الأفلام والصور الإباحية المعاصرة، مسببة للقارئ الدوار، وتاركة إياه حائراً بشأن الحاجة الأخلاقية لنشرها بهذا الوضوح وذلك الكمّ. (ملاحظة: الصور المنتقاة هنا لا تُجسّد الجانب الأكبر مما نشره الكتاب، لكنها الأقل استفزازاً ومباشرة للقارئ الذي يختار ألا يشاهدها في رابط الكتاب ومقالات الصحيفة الفرنسية لأسباب أخلاقيّة).
أي علاقة بين إباحيّة يومنا والاستعمار؟
إلى جانب الرغبة بـ"تفكيك الاستعمار" من خلال الوقوف أمام تابوهاته وجهاً لوجه، يشير الكتاب إلى نقطة ثانية وهي أن الإنتاج الإباحي اليوم والسياحة الجنسية المنتشرة ما هي إلا استعادة للتصورات الاستعمارية القديمة وانعكاس للصور التي صنعت النظرة الإكزوتيكية عن "الآخر"…
وهو ما لفت إليه باسكال بلانشار قائلاً إن المخيال الجنسي عن "الآخر" لم يتغير إلى اليوم رغم أن الأمور تتطور بتطور الأجيال. كيف ذلك؟ رغم أن اختلاط الأجناس والطبقات صار مدعاة للإشهار مثالاً، إلا أن العالم لم يتخلص من هذا الإرث والإنتاج الإباحي عبر الانترنت خير دليل، إذ يسترجع ويعيد بناء تصورات الهيمنة التي كانت مسجّلة في الحيّز الاستعماري على شكل إيروتيكي - إباحي (مثال:الأفلام الإباحيّة في العصر الحالي وبطلاتها "عابرات/ عابرو الحدود"، "لاجئات/لاجئون"، "محجبات" وغيرهن/م مع رجال أمن أو شرطة، والعكس أفلام لسيدة بيضاوات مع مجموعة رجال سود البشرة في سيناريوهات اختطاف أو عنف جنسي...)
يوضح الباحث نيكولا بانسيل هذه النقطة قائلاً إن السياحة الجنسية أو بعض الأنماط (العنفيّة/ الاستسلاميّة) المعتمدة في الإباحية تحمل آثار عديدة من مرحلة الاستعمار.
وفي مقابلة مع بلانشار، يشرح أن تلك الصور العارية لأجساد مستسلمة بكسل لم تكن مجرّد حكايات عابرة، بل كانت جزءاً من نظام ممنهج من قبل الدول المستعمرة. "أولئك الذين يعتقدون أن الإباحية كانت مغامرة على هامش النظام الاستعماري مخطئون: لقد كانت مركز الاستعمار"، يقول بلانشار.
ويشرح بأن عشرات الملايين من البطاقات البريدية لأجساد عارية كانت تصل إلى فرنسا كما هو الحال إلى بريطانيا العظمى. بحجة الدراسات الإثنوغرافية، تحايلت الصور "الإكزوتيكية" على الرقابة وانتشرت في مجتمعات كانت للمفارقة تسيّج "السيدة البيضاء" بشبكة من "الأخلاق الحميدة".
"أن تستعمر يعني أن تُحدث شرخاً بين ما يراه صاحب الجسد في نفسه وبين ما تحدّده أنت كمستعمِر باعتباره صالحاً للمشاهدة في صورة (الآخر)، ما يعني أن يكون الجسد مخصصاً لإنتاج المتعة التي تتخطى صاحب هذا الجسد والتي لن تكون بالضرورة ملكه…"
سافرت البطاقات، والكلام لبلانشار، إلى دول الاستعمار حتى من دون جهد لتخبئتها في مظاريف. كان يمكن لجميع أفراد الأسرة رؤيتها، وكذلك لساعي البريد! وكان المرسل من المستعمرات يكتب عليها تعليقات مذهلة لشدة ابتذالها ووقاحتها، لتجد لها مكاناً في فضاءات أولئك الذين لم يذهبوا إلى المستعمرات... وهكذا تحولت الصور إلى ثقافة، أسهمت في بناء خيال عدة أجيال، روّجت للاستعمار وصوّرته كـ"رحلة سفاري جنسية".
نشر الصور… ضرورة أم انتهاك؟
يفهم بلانشار اللوم الذي سيواجهه معدّو الكتاب، كما يقول، لكنه يبرّر بما يلي"لكي نفهم هذا الماضي الاستعماري حقاً، وبالتالي تفكيكه، يجب أن نرى ما لا يمكن وصفه بالكلام… المرئي يثير النقاش ويسمح للباحثين بالفهم الدقيق، لإبراز تفاصيل معينة دون غيرها، لتجنب التعميم…".
كتاب عديدون اعتذروا عن المشاركة للسبب نفسه، ورفضوا نشر الصور بتلك الفجاجة.
"الكتاب وقع في فخ ما ادعى محاربته، داخلاً في لعبة تقديم البطاقات البريدية الإباحيّة بالشكل نفسه… هو في النهاية كتاب من دون طموح علمي"، هذا ما كتبته ميلوزين، المعروفة كناشطة نسائية ومحاربة للعنصرية.
"كتاب علمي أم مجرّد كتاب جميل؟"، علّق فيليب آرتيير، منتقداً شكل الكتاب وألوانه وسعره وغلافه باعتباره يقدّم الصور بطريقة إباحيّة هو بدوره، كما في صورة المدخل هذه.
من جهته، كتب الباحث مهدي درفوفي مراجعة مطوّلة انتقد فيها بشدة الكتاب ومعديه، ورأى فيه بروباغندا أخرى تُظهر وكأن ما يقدّمه لم يُحكى من قبل في أغاني وأفلام ومقالات وروايات مناهضة للاستعمار، "انتهازية قدّم المعدون من خلالها أنفسهم باعتبارهم رائدين في التفكيك لسرديات الاستعمار".
باعتباره باحثاً يعمل بشكل أساسي على الصور كما يقول، رأى درفوفي أن الكتاب يبرز أهمية الصور متناسياً أن بعضها وُجد في سياق تاريخي معيّن ربما لا يناسب سياق اليوم، فـ"هناك صور تموت، وصور متخيّلة، وصور مخفيّة تظهر لاحقاً يمكننا مع ذلك رفض رؤيتها والتصرف كما لو لم تكن موجودة".
كما تساءل الباحث المتخصص في سينما الاستعمار ونظريات ما بعد الاستعمار عن المنهج العلمي والأخلاقي المعتمد في الكتاب، معلقاً بالقول إن الأخير موجّه لـ"ورثة المستعمِر الحاليين، موجه للعين البيضاء"، وهو مرة أخرى "ساهم برسم ذاك الشرخ بين من يشاهدون الصورة وبين من يُعتبرون أدوات فيها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...