شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أفكارٌ منزلية عن روبوت يؤدّي وظيفتي

أفكارٌ منزلية عن روبوت يؤدّي وظيفتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 5 فبراير 202111:54 ص

الأوامر العسكريّة مستمرة، لا كي نذهب للقتال على الجبهات هذه المرة، بل كي نبقى ممددين على الأرائك في المنزل. الأكثر حظاً بيننا، مَن يعملون مع جهات أو مؤسسات تلتزم بالتوجيهات الصحيّة العامة وتحترم موظفيها، يعيشون ترف أن يقبضوا رواتبهم دون أن يذهبوا إلى العمل، يقبضون ليعملوا من المنزل. حال الوباء هذه جعلتْ نقاشاً قديماً حول العمل، كمفهوم مجرد أولاً ثم كمكان فيزيائي وكحالة اجتماعيّة، أكثر إلحاحاً.

الصورة متفقٌ عليها من البداية: تهيئ المدارس الطلاب لعالم مقسم إلى ناجحين وفاشلين، وكي تكونوا في الطرف الأول يجب أن تستمروا في أداء وظائف يمليها عليكم معلمون صارمون. ثماني ساعات في المدرسة تتحول مع العمر إلى أعمال تؤدى لثماني ساعات أو أكثر. السلطات بأشكالها تؤيد الفكرة، فالعمل عبادةٌ في سياق ديني، وواجبٌ أخلاقي، ومديونية للمجتمع في نظر السلطة السياسيّة. الاتفاق هذا يقود إلى قدسية مبالغ بها متعلقة بالعمل، وبالتالي إلى انتقاص تلقائي من العاطل، اختيارياً، عن العمل.

الجدل مستمر، مع الوباء ومن دونه. في عالم سريع يدعو إلى حريات مطلقة، لا يمكن أن ترتبط قيمة الإنسان بعمل يُجبَر عليه. والافتراض هنا تعميم أنّ كلّ عمل هو إجبار يقبله العامل لأسباب مختلفة منها حرصٌ مفهومٌ على دخل كاف أو رغبةٌ في تشكيل صورة اجتماعية مقبولة للعموم. دون براءة، يُطرح السؤال: هل ستستمر في عملك الحالي دون مقابل مادي أو وضع اجتماعي؟

سؤال العمل في جانبه المادي يحيل في دول الرفاه إلى نقاش آخر حول ما نصطلح على تسميته بـ"الدخل غير المشروط" Unconditional basic income أو "دخل المواطن" Citizen's basic income والمقصد هنا فكرةٌ طوباوية تقوم على أن تدفع الحكومات لمواطنيها بشكل دوري مبلغاً مادياً يغطي تكاليف المعيشة الأساسية دون أي مقابل، أي دون أي إنجاز ودون أداء أي مهمات أو طلبات تُقدَّم إلى مؤسسات الضمان الاجتماعي.

المؤيدون للفكرة ينطلقون من أن شكلاً من الدخل غير المشروط، عدا أنه يعالج مشكلة الفقر، يوفّر طمأنينةٌ مادية للمواطنين تخفف عنهم الضغوط النفسية المتعلقة بالعطالة، وبالتالي تؤدي إلى تحسن في الصحة العامة، وأن الدخل ذلك يعطي قيمةً مادية للأعمال المنزلية التي تقوم بها النساء غالباً وكذلك قيمة للعناية بالأطفال، ثم أنه سيؤدي في النهاية إلى تحويل العمل إلى حالة اختيارية ينجز فيها المواطنون ضمن مجالات يهتمون بها فعلاً، مفسحاً بذلك مجالاً أكبر للحصول على أعمال برواتب أعلى أو للتفرغ للأعمال الإبداعية.

"الأوامر العسكريّة مستمرة، لا كي نذهب للقتال على الجبهات هذه المرة، بل كي نبقى ممددين على الأرائك في المنزل. الأكثر حظاً بيننا... يعيشون ترف أن يقبضوا رواتبهم دون أن يذهبوا إلى العمل... حال الوباء هذه جعلتْ نقاشاً قديماً حول العمل... أكثر إلحاحاً"

جُرِّبت الفكرة ضمن سياقات مختلفة في عدة أماكن من العالم. في فنلندا أُجريت دراسة على ألفي شخص عاطلين على العمل يحصلون على مبلغ مالي شهري دون أي مقابل، وأظهرت النتائج أن المشاركين لم يحصلوا على أعمال أعلى أجراً مع الدخل هذا، لكن شعورهم بالأمان والرفاهية كان أفضل من السابق. وفي سويسرا حرّض ناشطون في حركة "جيل دخل المواطن" Generation Grundeinkommen على حالة مشابهة، وذلك عن طريق حملات توعوية وأنشطة ثقافية، من بينها إلقاء ثمانية ملايين قطعة نقدية سارية المفعول في ساحة بونديلاتز في برن احتفالاً بنجاحهم بجمع أكثر من مئة ألف توقيع داعم للحملة، ولاحقاً نوقش اقتراح اعتماد دخل المواطن في سويسرا بحيث يحصل كل مواطن على حوالي ألفي يورو شهرياً، ولكن نتائج التصويت كانت ضد الاقتراح بنسبة 76.9%.

رغم النتائج في المثالين السابقين، يستمر المنظرون لفكرة الدخل غير المشروط في الدفاع عنها، مضيفين إلى الأبعاد النظرية للطرح بعداً مستقبلياً متعلقاً بتأثير التغيرات التكنولوجية على سوق العمل، فالجزء من الأعمال الذي تنجزه الآلات يتضخم باستمرار على حساب ما ينجزه البشر، ليس فقط في القطاعات التي تتطلب أداء مهمات روتينية تسهل برمجتها، بل حتى في الأعمال الأكثر تعقيداً. الأعمال، بمفهوها التقليدي تتناقص مع الوقت، وحين تُقاد السيارات تلقائياً، أو حين يكتب الحاسوب مقالات بديعة عن المنطق، يصبح السؤال عن خيارات أخرى للسائق والكاتب إجبارياً.

"الصورة متفقٌ عليها من البداية: تهيئ المدارس الطلاب لعالم مقسم إلى ناجحين وفاشلين، وكي تكونوا في الطرف الأول يجب أن تستمروا في أداء وظائف يمليها عليكم معلمون صارمون. ثماني ساعات في المدرسة تتحول مع العمر إلى أعمال تؤدّى لثماني ساعات أو أكثر"

لا شك في أن مستقبل العمل وفكرة التوقف عنه نقاشٌ مترف لا يملكه الأفراد في دول تنعدم فيها مؤسسات تحميهم. لكنه يبقى سؤالاً يفرضه التغيير المتواصل. السلطات السياسية تستطيع التأثير على جزء من هذا المستقبل عن طريق قوانين تتعلق بسن التقاعد أو بعدد ساعات العمل، ويبقى الأثر الأكبر متعلقاً بتغيير طرق تنفيذ الأعمال. تاريخياً، فَرَضَ تغيير وسائل الإنتاج انتقالاً للعمالة من الزراعة إلى التصنيع ورافقه انتقالٌ من الريف إلى المدينة. الانتقال التالي سيكون حتماً أكثر راديكالية.

العمل مستمرٌ من المنزل. الكسول الحالم سعيدٌ بالحال هذه، متحرراً من أوهام الواجب ومنطلقاً من فكرة قديمة ترى في العمل المأجور عبوديةً حديثة، يستغل الوقت الفائض في ما يراه ممتعاً، في النوم مثلاً أو في الرسم أو في التحديق المستمر في جدار أبيض.

يسأل المتشائم: ـ وماذا أفعل إذا توقفت عن العمل؟ - ابحثْ عمّا يناسبك، وخذ الرضيع مثالاً، لا خطط عمل لديه ولا جداول للمهام، مع ذلك ينجح دائماً في أن يجد ما يسليه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image