"بالحضن يامه بتبتدي حكايات وبتنتهي حكايات، الحضن يامه حاجات بتتقال فيه، الحضن ده إحساس يساوي حياة، وقت الفرح نملاه وقت التعب والآه هنهرب فيه... في حضن بعض بنلاقي راحة منلقهاش في الوحدة... الحضن روح إنسان هو أحن مكان بتلجأ ليه"، هذه مقتطفات من الأغنية التي خصصتها الفنانة اللبنانية إليسا، للحديث عن أهمية "الحضن"، من ألبوم "سهرنا يا ليل".
واليوم، بعد مرور عام ثقيل ومرهق في حياتنا، فإن كل ما نحتاجه هو حضن دافىء يبدد همومنا، روح تحتوينا وعناق صادق يصل إلى عمق مشاعرنا ويداوي جروحنا، ولكن يبدو أن فيروس كورونا لم يتعب بعد، فهو مستمرّ في حصد الأرواح وسلب كل شيء منّا، وبالأخص تلك اللحظات التي كنّا نحتضن خلالها أحبابنا، ونقوم بوضع أذرعنا حولهم، لنشعر سوية بكل الحب والأمان.
هذه التفاصيل الصغيرة كنّا نمرّ عليها مرور الكرام، وعلى الأرجح أننا لم نكن نقدّر قيمتها من قبل كما نفعل اليوم، إذ إن "الحرمان من اللمس" جعلنا نشتهي ولو ضمّة واحدة خاطفة، تنسينا جميع أوجاعنا.
قوة "الحضن"
تبدأ حاسة اللمس في الرحم، ومع الوقت تتطور لتصبح تجربة حيوية للحياة، تساهم في النمو الاجتماعي والعاطفي والمعرفي للمرء.
والواقع، إن الحاجة إلى اللمس موجودة تحت أفق الوعي. قبل الولادة، عندما يدور السائل الأمنيوسي في الرحم حولنا، وعندما يتمكن الجهاز العصبي من أن يميّز جسدنا عن جسد والدتنا، فإن مفهومنا الكامل عن الذات متجذّر في اللمس.
بعد مرور عام ثقيل ومرهق في حياتنا، فإن كل ما نحتاجه هو حضن دافىء يبدد همومنا، روح تحتوينا وعناق صادق يصل إلى عمق مشاعرنا ويداوي جروحنا
المصافحة القوية، التربيت على الكتف والعناق الشديد، كلها تصرفات قد تعبر عن مكنونات القلب بطريقة أفضل من أي لغة لفظية، غير أننا اليوم، ومع تفشي كوفيد-19، فقدنا هذه اللغة غير المحكية، وبتنا نصارع وحشاً ظالماً اسمه الوحدة، ونعاني من "جوع" كبير و"ظمأ" للعناق والارتماء في حضن من نحب.
والحقيقة أننا لا نفتقد العناق فحسب، بل نحتاجه للسيطرة على مشاعر القلق والتوتر، وهو ما أكده جوهانيس إشستيدت، عالم الاجتماع وأستاذ علم النفس في جامعة ستانفورد: "يمتلك البشر مسارات دماغية مخصصة تحديداً لاكتشاف اللمسة العاطفية"، مشيراً لصحيفة نيويورك تايمز إلى أن هذه هي "الطريقة التي تتواصل بها أنظمتنا البيولوجية مع بعضها البعض، وتؤكد أننا آمنون، محبوبون، وبأننا لسنا لوحدنا".
لا نفتقد العناق فحسب، بل نحتاجه للسيطرة على مشاعر القلق والتوتر
في هذا السياق، تحدث الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، عن أهمية "الحضن" بالنسبة للبشر، انطلاقاً من الحضن الأول الذي يختبره المرء في العادة، وهو حضن الأم.
وأوضح رستم لرصيف22، أن أول خطوة نحو تكوين "الأنا" لدى الإنسان، تتشكل في اللحظة التي تحتضن الأم طفلها، وكأنها تعترف بوجوده وتؤكد له أنه بأمان بين ذراعيها: "من خلال هذه الطريقة، تعترف الأم بكيان الطفل، وتبعث له رسالة اطمئنان بأنها تحبه ومستعدة لحمايته وتوفير الأمان له"، وأضاف قائلاً: "من خلال العناق، تشكل الأم حاجزاً بين العالم الخارجي وطفلها، لحماية الأخير من الأذى الذي يمكن أن يلحق به".
واعتبر هاني أن السعي وراء حضن يحتوينا هي حاجة ترافقنا طوال حياتنا، بالأخص في خضم الأزمات والضغوطات النفسية: "في ظل هيدي الأوضاع الصعبة يلي عم نعيشها اليوم، في كتير أشخاص عم بحسوا إنو بطلوا قادرين يوقفوا على إجرين، وبعبروا عن حاجتن لحضن يلمّن، تماماً متل حضن الإم يلي بلمّ الطفل".
وفي حين شدد رستم على أن فقدان القدرة على العناق والارتماء في حضن شخص عزيز على قلبنا، تعد خسارة كبيرة، إلا أنه استدرك بالقول إن الإنسان قوي بما فيه الكفاية ليتمكن من التأقلم مع الواقع الذي فُرض عليه: "صحيح أن خسارة الحضن هو أمر مؤلم نفسياً، إلا أننا نتمتع بالقدرة على التفكير المنطقي ومقاربة الأمور بعقلانية، إذ إننا نعلم بأن هذه المرحلة مؤقتة فقط، لضمان سلامتنا وسلامة أحبائنا".
اللمس... تجربة حيوية
في استطلاع أجرته BBC وWellcome Collection لعام 2020، تبيّن أن الكلمات الثلاث الأكثر شيوعاً المستخدمة لوصف اللمس هي: "الراحة، الدفء والحب".
والواقع، إن اللمس له تأثير كبير على صحتنا النفسية والجسدية، بخاصة وأننا نلمس في العادة بعضنا بعضاً أكثر مما نعتقد.
وكانت تجربة من الخمسينيات قد كشفت أهمية الاتصال الجسدي بشكل مثير للإعجاب، فقد وضع عالم النفس هاري هارلو، صغار القرد الريسوسي في قفص، وتركهم بمفردهم لبعض الوقت.
وبمجرد أن أخرجهم الباحث من القفص، وضع أمامهم خيارين: شكل مصنوع من الأسلاك، يحاكي الأم التي تحمل زجاجة حليب. والثاني عبارة عن مادة ناعمة ورقيقة على هيئة أم، لكنها لا تحمل زجاجة حليب. هل اختاروا "الأم" التي تحمل الحليب الضروري لبقائهم على قيد الحياة أم "الأم" الرقيقة المحبوبة؟
المفارقة أن غالبية صغار القرود اختاروا هيئة الأم المصنوعة من المادة الناعمة، وبالتالي وجد هارلو أن الاحتكاك الجسدي كان أكثر أهمية بالنسبة لهؤلاء من الحليب.
العديد من التجارب التي أجريت على البشر أشارت إلى نتيجة مماثلة: يعاني الأفراد من العزلة الاجتماعية، ولكن يتفاعلون بشكل إيجابي مع الاتصال الجسدي. يتعلق هذا بحقيقة أنه عندما نعانق شخصاً ما، يتم إطلاق هرمون الأوكسيتوسين في الجسم، ما يقلل بشكل فعّال من مستويات التوتر لدينا، بالإضافة إلى ذلك، ينخفض ضغط الدم ونشعر بقلق أقل أثناء العناق.
وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نعانق بعضنا اليوم ونستعيد ولو جزءاً بسيطاً من هذه اللحظات الجميلة؟
خلال هذه الأوقات الصعبة التي تتسم بالحرمان من اللمس، لا يوجد بديل حقيقي لما نحصل عليه في العادة من البشر الآخرين، بما في ذلك العناق، القبلات والأحضان، ولكن هناك طرق لتهدئة أنفسنا، بما في ذلك النظرية القائلة بأنه، وبالطريقة نفسها التي نعتقد أننا نشعر فيها بألم الآخرين، قد نكون قادرين على تجربة اللمس بشكل غير مباشر أيضاً، وذلك من خلال رؤية اللمس على التلفزيون أو في الأفلام، والذي يمكن أن يمنحنا بعض فوائد الشعور باللمس. هذه "اللمسة غير المباشرة"، من خلالها نشعر بألم وملذات الآخرين بمجرد رؤيتهم، بالإضافة إلى "المعانقات عن بعد" التي يقوم بها الأفراد من وراء شاشاتهم، بهدف التعبير عن حبهم واشتياقهم لبعضهم البعض أثناء المحادثات.
هذا ويحاول بعض الأفراد ابتكار وسائل تساعدهم على تبادل العناق من دون خطر الإصابة بكورونا. في هذا الصدد، كان قد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، فيديو مؤثر، يُظهر شابة كندية تقوم بمعانقة والدتها من خلال ستارة بلاستيكية مزودة بأربعة أكمام ومعلقة على حبل غسيل.
وعن "قفّاز العناق" الذي ابتكرته كارولين إليس بمساعدة زوجها، قالت: "يسمح لنا بالقيام بأمور طبيعية نوعاً ما. إنه يمنحنا أملاً بأن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد".
أول خطوة نحو تكوين "الأنا" لدى الإنسان، تتشكل في اللحظة التي تحتضن الأم طفلها، وكأنها تعترف بوجوده وتؤكد له أنه بأمان بين ذراعيها
تحدثت الطبيبة لينسي مار، وهي واحدة من الخبراء العالميين الرائدين في مجال الأمراض المنقولة عبر الهواء، عن الطرق الأكثر أماناً للعناق أثناء تفشي فيروس كورونا: "إذا كنتم/نّ لا تتحدثون/ن أو تسعلون/ن أثناء العناق، فيجب أن تكون مخاطر انتقال الفيروس منخفضة للغاية".
وفي حين أنه من المفضل تجنّب العناق خلال هذه المرحلة بشكل تام، إلا أنه، وفي حال كان لا بدّ من ذلك، شدّدت لينسي على ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة، كارتداء القناع، وأن يتم العناق في الهواء الطلق، بالإضافة إلى أهمية أن يكون الوجه في اتجاه معاكس لوجه الشخص الآخر، منوهة لضرورة عدم البكاء، إذ إن الدموع وسيلان الأنف يزيدان من خطر ملامسة المزيد من السوائل التي تحتوي على الفيروس.
بالنسبة للبعض، فإن هذه الاحتياطات تعني بذل الكثير من الجهد لمجرد الحصول على عناق بسيط وخاطف، إلا أن بعض الأفراد يحتاجون إلى خيارات وبدائل، نظراً لأن الوباء سيظل معنا لفترة من الوقت، وفق ما قالته عالمة الأوبئة جوليا ماركوس لنيويورك تايمز: "هناك تحدّ حقيقي الآن لكبار السن، الذين يشعرون بالقلق من أنهم لن يكونوا قادرين على الاتصال أو التواصل مع العائلة لبقية حياتهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون