شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"اللمس حقل ألغام"... هل سيغيب الاحتكاك الجسدي ما بعد كورونا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 9 مايو 202003:48 م

في وحدات العناية المركزة، يمسك الأطباء والممرضون/ات أيدي الأشخاص الذين يصارعون الموت بعدما أصيبوا بفيروس كورونا، ولا شيء أكثر من ذلك قادر على تجسيد "قوة اللمس" لبلسمة الجروح والآلام النفسية والجسدية، في حين أنه في العالم الخارجي، تكثر الدعوات للتقيّد بإجراءات التعبئة العامة والابتعاد مسافة مترين عن بعضنا البعض، خوفاً من نقل الفيروس أو الإصابة به.

من مصافحة زميل/ة في العمل، معانقة صديق/ة أو طبع قبلة على خدّ شخص مقرّب، اعتاد معظم الناس طوال حياتهم، على مستوى ما من اللمسة الجسدية "الأفلاطونية" على أساس يومي، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يمارسون الحجر الصحي بمفردهم أو مع الأشخاص الذين ليس لديهم اتصال جسدي معهم، فإن الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية يتزايد يوماً بعد يوم.

وبالرغم من أن التباعد الاجتماعي هو تدبير مؤقت ولن يدوم لفترة طويلة، إلا أنه مع قيام العديد من الدول برفع إجراءات الإغلاق العام، فإن المواطنين جميعاً باتوا قلقين بشأن كيفية العودة إلى مفهوم "الحياة الطبيعية".

فما هي أهمية اللمس في حياة البشر، وهل من الممكن أن نشهد غياب الاحتكاك الجسدي في مرحلة ما بعد كورونا؟

الجلد... أكبر عضو في جسم الإنسان

إن اللمس هو الإحساس الأول الذي نختبره في الرحم، وهو مفتاح لإعطاء وتلقي المعلومات ومساعدتنا على الشعور بالترابط.

في حديثها مع موقع رصيف22، تحدثت الأخصائية في علم النفس، وردة بو ضاهر، عن أهمية الاتصال الجسدي مع الآخرين، إذ قالت: "أوقات الكلمات ما بتعبر، بيكفي تحطي إيدك على كتف الشخص لحتى تروقي".

وأوضحت بو ضاهر أن اللمسة هي من أهم الأمور التي يمكن القيام بها لتبديد التوتر والإجهاد، وذلك لكونها قادرة على خفض مستوى الكورتيزول (هرمون الضغط والقلق) وزيادة مستويات الأوكسيتوسين (هرمون الحب)، الأمر الذي يزيد الثقة والارتباط بين الأشخاص المعنيين.

اللمس هو الإحساس الأول الذي نختبره في الرحم، وهو مفتاح لإعطاء وتلقي المعلومات ومساعدتنا على الشعور بالترابط

واعتبرت وردة أن اللمسة تكتسب أهمية منذ الولادة، بحيث يُطلب من الأم أن تحتضن مولودها، وأن يكون هناك Skin-to-skin contact (تلامس الجلد مع الجلد) وذلك لبناء علاقة وثيقة بينها وبين ومولودها الجديد، منوهة أيضاً بالأبحاث التي توصلت إلى أن الأطفال والمراهقين الذين ترعرعوا في بيئة تحفز اللمس، من المحتمل أن يكونوا أقل عدوانية وأقل عنفاً.

واليوم في زمن كورونا، يمكن القول إن المعادلة قد تغيّرت، فصحيح أن اللمسة تبقى مهمة في حياة البشر، إلا أن الأشخاص باتوا حذرين من الاحتكاك الجسدي مع بعضهم البعض، على حدّ قولها: "اليوم الشخص لما يقرب على حدا عم بيقتنع بمحل إنو عم بياخد Risk (مخاطرة) وصار كل واحد عم بيتعلم إنو لما الواحد يقرب عليي أنا لازم بعد، هيدا Reflex (رد فعل) عادي".

وأوضحت بو ضاهر أن عملية إلغاء سلوك معيّن تتطلب بعض الوقت، بخاصة في حال كان المرء على يقين بأن الخطر لا يزال موجوداً: "راح ياخد وقت لحتى يرجعوا الناس يقربوا على بعض، بالأخص إذا صار في موجة ثانية من كورونا".

هذا وختمت وردة بو ضاهر حديثها بالقول: "دايماً بحب ذكر الناس إنو الجلد هو أكبر عضو في جسمنا، وأكيد هيدا بيدل على شي وعندو قيمة أكتر من إنو يغطي جسم الإنسان".

أهمية اللمس

لو كنا نعيش ظروفاً عادية لكان من الصعب علينا أن نحسب عدد المرات التي نتواصل فيها جسدياً مع الآخرين، سواء ذلك عن طريق المصافحة، العناق أو التقبيل... أما اليوم فباتت كل هذه الممارسات، التي كانت في يوم من الأيام "عادية" وتصدر بشكل عفوي، ممنوعة على الجميع، إذ أصبح اللمس بمثابة "حقل ألغام مادي وثقافي"، وفق ما وصفته البروفيسورة تيفاني فيلد، لموقع ديلي بيست.

والواقع أنه مع تقيّد الناس في جميع أنحاء العالم بتدابير الحجر المنزلي للحدّ من انتشار فيروس كورونا، بدأ البعض يشعر بالآثار المترتبة عن نقص اللمس البشري، وهو أمر ينذر بمخاوف صحية ونفسية.

فقد شدد داشر كيلتنر، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، على أهمية اللمس في حياة الأفراد: "اللمسة هي لغة الاتصال الأساسية. عندما تفكرون في العلاقة بين الوالدين والطفل أو بين صديقين أو شريكين رومانسيين، يتم تأسيس الكثير من الطرق التي نتواصل بها ونثق بها ونتعاون فيها عبر اللمس".

وكشف كيلتنر لصحيفة التايم أن عدم اللمس يمكن أن يؤثر على الأفراد بطرق تفوق التوقعات، سواء كان ذلك على المستوى النفسي أو الجسدي: "إن أجزاء كبيرة من أدمغتنا مكرسة لإحساس اللمس، وبشرتنا تحتوي على مليارات الخلايا التي تعالج المعلومات المتعلقة بها"، وأضاف: "النوع الصحيح من اللمسة الودية، مثل معانقة شريككم أو لف ذراعيكم حول صديق عزيز، يعمل على تهدئة استجابتكم للضغط النفسي".

وعليه اعتبر داشر كيلتنر "أن اللمسة الإيجابية تعمل على تنشيط مجموعة كبيرة من الأعصاب في جسمكم، الأمر الذي يحسّن نظام المناعة لديكم، ينظم عملية الهضم ويساعدكم على النوم جيداً. كما أنه ينشط أجزاء من دماغكم تساعدكم على التعاطف".

ماذا ينتظرنا في مرحلة ما بعد كورونا؟

منذ شهور ونحن نمارس التباعد الاجتماعي ونتجنب ملامسة الأسطح العامة والخروج من منازلنا من دون وضع الكمامات والأقنعة الطبية، وقد كان من الصعب علينا طوال هذه الفترة أن نكسر المعايير الاجتماعية التي تدل في العادة على اللباقة والمودة، ومع ذلك قمنا بأمور لم نكن نتخيل في يوم أن نقوم بها، فلم نعد نصافح الأشخاص الذين نلتقي بهم في الشارع، نعانق أولئك الذين اشتقنا إليهم، نقبّل الذين نحبهم أو نمد يدنا إلى أولئك الذين يحتاجون إليها... وكل ذلك من باب الحرص على سلامتنا وسلامة الآخرين.

ومع انحسار رقعة فيروس كورونا، نستعد مرة أخرى للخروج إلى العالم الخارجي، بالرغم من بعض العادات الاجتماعية التي تغيّرت وغيّرت معها كل ما تعلمناه سابقاً عن العالم المليء عادةً بالاتصال الجسدي.

لا شك أن التغيير الذي ستشهده البشرية في مرحلة ما بعد كورونا لن يكون سهلاً على الإطلاق، وسيكون من الصعب جداً التعامل معه، بخاصة فيما يتعلق بموضوع اللمس الذي يُعتبر "ميزة متأصلة لدى الجنس البشري، تعود إلى تاريخنا كثدييات تسعى إلى المداعبة لتحفيز الأندورفين في الدماغ، وبالتالي الشعور بالدفء والإيجابية".

وعليه من المرجح أن ينتابنا الارتباك والقلق، بينما نحاول كأفراد التكيف مع الوضع المستجد، بعد أزمة كورونا التي غيّرت كل ما نعرفه، سواء كان عن أنفسنا أو عن العالم من حولنا، وبخاصة حول كيفية بقائنا متصلين اجتماعياً.

وفي هذا الصدد يسأل البعض: في حال تم التوصل إلى لقاح جديد قادر على احتواء فيروس كورونا وكبح جماح انتشاره السريع، وفي حال أصبح الاتصال الجسدي آمناً مع أولئك الذين يعيشون خارج "فقاعات" أسرتنا المباشرة، كيف سيصبح الاحتكاك الجسدي في المستقبل؟

اعتبر أستاذ علم النفس التطوري في جامعة أكسفورد، روبين دنبار، بأنه سيكون هناك تغيير على المدى القريب، إلا أنه سيزول مع مرور الوقت، مشدداً على أن بعض العادات الاجتماعية، كالمصافحة مثلاً، متأصلة في الجنس البشري، وبالتالي "سيجد الناس صعوبة كبيرة في عدم مد أيديهم"، بحسب تقديراته.

وبدوره، يؤيد كاري كوبر هذه الفرضية، إذ قال لموقع بي بي سي: "لا يمكنني أن أرى على الإطلاق بديلاً للمصافحة في المستقبل القريب"، إذ أوضح أنه وبالرغم من أنه تم ابتكار محاولات مختلفة لاستبدال عملية المصافحة باليد، كالسلام عبر القدمين والأكواع، إلا أن الطبيعة المحرجة لمثل هذه الممارسات تعني أنها قد لا تستمر لفترة طويلة.

أما الأكاديمية في جامعة بورتسموث، إريكا هيوز، فقد تحدثت عن الألم الناجم مؤخراً عما فقدناه كبشر نتيجة كورونا، وغياب الاتصال الملموس مع الآخرين، مشيرة إلى الصعوبة التي تواجهها شخصياً في كبح الاندفاع الجسدي للذهاب ومعانقة شخص تعرفه: "هناك شيء مؤلم لعدم اجتياز هذا الخط".

وشبهت هيوز درجة الألم الذي يعصر قلبها بالحداد والحزن الذي نشعر به عند فقدان شيء مهم في علاقاتنا: "أعتقد أننا نفقد الإحساس بمعرفة ما يجب فعله بهذا الشعور، عندما نريد الذهاب واحتضان شخص ما بشكل طبيعي".

ولكن عوضاً عن التوقف فقط عند الناحية السلبية، اعتبرت إريكا أنه لا بد من التفكير أيضاً فيما قد نربحه من تجربة الابتعاد الاجتماعي: "قد تكون القبلة الأولى أكثر قوة لأنها تكتسب أهمية جديدة، كما سيكون العناق أكثر حميمية عندما يتعين علينا التفكير بمن نعانقهم ونحتضنهم، وبالمثل فإن اليد التي تربت بلطف على الكتف ستكون مشبعة بمزيد من المعنى والدلالات".

هذا وقد تنبأت هيوز بمستقبل يتسم بتقسيم مجموعاتنا الاجتماعية، إلى دائرة داخلية تضم الأشخاص الذين نشعر بالراحة معهم وبالرغبة في لمسهم، وإلى دائرة خارجية تشمل الأشخاص الذين نكون أكثر حذراً معهم، معتبرة أن هذا التقسيم يمكن أن يزيد من كيفية تقديرنا لأهمية اللمس.

 "اللمسة الإيجابية تعمل على تنشيط مجموعة كبيرة من الأعصاب في جسمكم، الأمر الذي يحسّن نظام المناعة لديكم، ينظم عملية الهضم ويساعدكم على النوم جيداً"

باختصار، لا شك أن أزمة كورونا قلبت حياتنا رأساً على عقب وأدخلت على أسلوب حياتنا الكثير من التغيرات التي من المرجح أن ترسم طريقنا لفترة من الوقت، غير أن اللمس ليس الآلية الوحيدة المستخدمة للتواصل المادي، فبحكم التطور البشري أصبح لدينا طرقاً جديدة لتعزيز الشعور بالارتباط مع الآخرين، وهي وسائل تحفز بدورها الأندورفين، على غرار الضحك، الغناء، الرقص، رواية القصص، الطقوس الدينية وما إلى ذلك من أشياء نستخدمها في تفاعلاتنا الاجتماعية اليومية.

وبالتالي، في حين أننا قد نظل قلقين بشأن الاتصال الجسدي لبعض الوقت حتى الآن، إلا أن البقاء على مسافة آمنة من الآخرين لا يعني بالضرورة أننا لا نستطيع أن نكون قريبين من بعضنا البعض، ونشعر ببعضنا كما لو كنّا متلاصقين جسدياً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image