جدران المدينة هي لسان حالها، وانعكاس لثقافتها ومحطاتها التاريخية. هكذا، كانت تقوم أسوار القدس وجدرانها بوظيفة أخرى عدا عن الدفاع عن تاريخ وإرث سُكان المكان. فقد أضحت جدرانها منصة تبعث خطاباً لأهل البلد والعالم حين تقفل نوافذ الإعلام أمامها أو تكاد. لا ضير بشعار أو بيان أو منشور يطبع على حجارة السور والبيت والشارع كي تحكي قصة الفلسطيني في مقاومة المحتلين، فالحجر يستطيع نقل الرسالة أيضاً فيصبح سلاحاً بيد المقهورين.
هكذا انبثقت في انتفاضة الفلسطينيين الأولى فكرة الكتابة على الجدران، وغدت أقرب ما تكون لـ "وكالة أنباء الانتفاضة" يحرّكها نشطاء الانتفاضة. فلجأت إليها الأحزاب كوسيلة لدتبّ روح الثورة بين المواطنين ولتنقل رسائل مختلفة لهم كإحدى أبرز وأنجح الوسائل التي انتشرت كبديل عن الإنتاج المطبوع، التي حرصت "إسرائيل" على محاربته.
في ظلّ الثورة التكنولوجية، ودخولنا العصر الرقمي أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي؛ "فيسبوك" و"توتير"، الأداة الحديثة التي يستخدمها الفلسطينيون للتعبير عن ثورتهم وتمردهم على الاحتلال. لكن هل جعلهم هذا الفضاء الإلكتروني أكثر انكشافاً وعرضةً للخطورة من الأدوات التقليدية في التعبير عن الرأي والمقاومة؟
حيز للبيانات الحزبية وفضح الجواسيس
عبد الرحيم زيادة، في الخمسينيّات من عمره، خلال الانتفاضة الأولى كان في الثامنة عشر وكان متخصصًا في الكتابة على الجدران، كونه يتمتع بخطٍ جميل ولديه القدرة على الرسم. يقول لرصيف22: "شكلنا في الحارة فرق عمليات لمقاومة قوات الاحتلال. وكنا نقسّم الأدوار فيما بيننا. أمّا أنا فكانت مهمتي وعند ساعات الليل المتأخرة؛ كتابة الشعارات الثورية ونقل البيانات الحزبية ونعي الشهداء وتوعد المحتل". "قاوم" و"لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة" و"بالبلطة والسكين بنحرر فلسطين" و"الموت لإسرائيل"، بهذه العبارات الثورية كان "عبد الرحيم" يخط جدران بلدته شعفاط شماليّ مدينة القدس المحتلة، موقّعًا تحتها (ق.و.م) اختصاراً للقيادة الوطنية الموحدة.
"كانت هذه الجدران كذلك بمثابة وسيط لبعث رسائل معينة للجواسيس والعملاء تتضمن تهديدات والكشف عن هوياتهم وفضحهم. ذلك بالإضافة إلى كونها بمثابة وكالة أنباء تُكتب عليها بيانات المقاومة"
ويضيف عبد الرحيم: "كانت هذه الجدران كذلك بمثابة وسيط لبعث رسائل معينة للجواسيس والعملاء تتضمن تهديدات والكشف عن هوياتهم وفضحهم. ذلك بالإضافة إلى كونها بمثابة وكالة أنباء تُكتب عليها بيانات المقاومة وتعميمات القيادة الوطنية الموحدة، وخاصة في مدينة القدس، كونه لم يكن دائماً بالإمكان نشر هذه البيانات عبر وسائل الإعلام الكلاسيكية".
يقول الكاتب والصحفي راسم عبيدات، وهو أسير سابق، لرصيف22: "إنّ كتابة الشعارات خلال فترة الانتفاضة الأولى كانت من أهم الوسائل النضالية للمقاومين وللفصائل من أجل التواصل مع الجماهير. لم تكن هنالك وسائل اتصال اجتماعي أو فضاء إعلامي واسع كما هو اليوم". ويضيف عبيدات: "اهتم الاحتلال في محاربة هذه الوسيلة النضالية، واعتبرها أداة فعالة للتحريض على النضال ضده وإنهاء وجوده. لذلك فلم يستهن أبدًا بالكتابة على الجدران".
المساحات الافتراضيّة خوفاً من السجن
يشير عبد الرحيم إلى أنّ إسرائيل كانت تحكم على من تثبت عليه في مدينة القدس تهمة الكتابة على الجدران بالسجن ما بين 6 شهور وسنتين، لذا فإن المكلف بمهمة الكتابة على الجدران يجب أنّ يكون "خفيف الحركة" ونبيهاً وسريعاً بالكتابة على الجدران، حتى لا يتم اعتقاله. ونوه إلى أنّ الاحتلال يعامل المقدسيين كـ"خائنين لدولتهم" كونهم يمتلكون هويات إقامة إسرائيلية، على عكس الفلسطينيين في الضفّة وغزّة، لذا فإن الأحكام بالسجن بحقهم تعتبر أكثر قسوة.
يحدّثنا الشاب سعد (اسم مستعار، 33 عاماً)، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنيّة، أنّه وقبل عدة أعوام، أقدم على كتابة بعض الشعارات على جدران في القدس، شعارات مناوئة للاحتلال، تعبيرًا عن غضبه إثر سقوط شهيد فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في المدينة. لكنه لم يكن يعرف أنّ ذلك بمثابة مخاطرة قد تكلفه فترة لا بأس بها من السجن في سجون الاحتلال الإسرائيلي. يقول سعد لرصيف22: "اليوم، من السهل جداً على سلطات الاحتلال الإسرائيلي معرفة من يقوم بالكتابة على الجدران أو من يقوم بأي عمل مقاوم بسبب أدوات المراقبة التكنولوجية المنتشرة في كافة أنحاء مدينة القدس تحديدًا، والانتشار المكثف على مدار 24 ساعة للقوات التابعة للاحتلال". ويشير سعد إلى أنّ أنّ معظم الشبان من جيله والأجيال الأصغر سنًا، يفضلون المساحة الافتراضيّة للتعبير عن غضبهم ضد الاحتلال. كون منصات التواصل الاجتماعي وسيلة أكثر سهولة، فيها خيارات عديدة لتحديد الجمهور المتصل. وعليه، فإنك تستطيع أن تحجب محتوى ما عن شخص لا تثق به مثلاً. لكن سعد يؤكد أنّ المقدسيين إجمالاً "يفلترون" منشوراتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، لأنهم في متناول اليدّ بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، كما أنهم بالنسبة للإسرائيليين يعيشون في كنفهم.
"من السهل جدًا على سلطات الاحتلال الإسرائيلي معرفة من يقوم بالكتابة على الجدران أو من يقوم بأي عمل مقاوم بسبب أدوات المراقبة التكنولوجية المنتشرة في كافة أنحاء مدينة القدس تحديدًا"
لكنّ الملاحقة تطال العالم الرقمي
تقول منى شتيّه، مديرة المناصرة المحلية في "مركز حملة- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" لرصيف22: "تحلّ اليوم منصات التواصل الاجتماعي مكان الجدران بشكل أكثر فاعلية، لأنّ رؤية الجدران قبل النهضة التكنولوجية كان تقتصر على من يمر بجانب تلك الجدران. أما اليوم فالمنشور على وسائل التواصل الاجتماعي قد يصل إلى عدد كبير من الأفراد وبجهد أقل، بسبب أن "الوصولية" متاحة بشكل سهل وكبير، ما يسهل التأثير على الرأي العام وعلى صناعة القرارات بشكل أكبر في مرحلة ما قبل النهضة التكنولوجية". وتضيف: "تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مساحة ممتدة لمناهضة انتهاكات الاحتلال بحق الفلسطينيين، وهي امتداد ما يحصل معنا على أرض الواقع من اعتقالات وقمع وانتهاكات أخرى. جزء كبير من هذه الانتهاكات طال الجانب الرقمي بناء على ما يتم نشره على منصات التواصل". تعتقد شتيه أنّ منصات التواصل الاجتماعي تتيح لنا أنّ نعبر ضمن مساحة أكبر وبتفاصيل أوسع، في الوقت الذي كانت فيه الجدران الحقيقية مساحة ضيقة للتعبير، فلم يكن بالإمكان كتابة مقال أو جمل مفصلة وكبيرة.
لكن أيّهما أكثر أماناً، تجيب شتيه قائلة: "الكتابات على جدران الشوارع أو جدران التواصل الاجتماعي خطير نسبيًا إذا كان تتضمن محتوى مقاوم. لكن يمكن القول إن الكتابة على الجدران الحقيقة أكثر أمانًا، كون الناشرين على الجدران قبل النهضة التكنولوجية كانوا يتحكمون بالتفاصيل التي قد تؤمن لهم عدم الكشف عن هويتهم للاحتلال، فيختارون الزّمان والمكان المناسبين للقيام بذلك. أمّا منصات التواصل الاجتماعي فالكاتب أو الناشر سيكون معروف الهوية، للمئات على الأقل، كونه في معظم الأحيان سينشر من حساب باسمه". وتضيف شتيه: "من الصعب عليك أن تكون مجهولاً على منصات التواصل الاجتماعي، لأنّ المتابعين أو الجمهور بشكل عام لا يثق بالحسابات غير المعرفة باسم أو جهة معينة. أمّا الكاتب على الجدران في الحيز المكاني الحقيقي، فجوهر عمله النضالي كان يعتمد على أنه مجهول، ويقوم بعمله آناء الليل".
وبحسب شتيه، فإنّ الكاتب على منصات التواصل الاجتماعي معرض للتساؤل والملاحقة بشكل كبير فيما يتعلق بالمحتوى الذي ينشره، مقارنة مع الكتابة على الجدران الحقيقية. فجدران منصات التواصل الاجتماعي ليست أقل أماناً فيما يتعلق بالملاحقة والاعتقال فحسب، لكنها أقل أمانًا عندما يتعلق الأمر ببياناتك وخصوصيتك والاختراق وسهولة الوصول للشخص عند الحاجة، لأن الإنترنت أتاح للحكومات والشركات أن تسيطر على كافة البيانات والمعلومات المرتبطة بالأفراد".
"الكتابة على الجدران الحقيقة أكثر أمانًا، كون الناشرين على الجدران قبل النهضة التكنولوجية كانوا يتحكمون بالتفاصيل التي قد تؤمن لهم عدم الكشف عن هويتهم للاحتلال"
تغيير فلسطيني في المحتوى واستغلال إسرائيلي
تعتقد منى شتيه أنّ الانتقال من مرحلة الكتابة على جدران الشوارع والبيوت إلى مرحلة الكتابة على جدران منصات التواصل الاجتماعي، أثر بشكل جوهري على المحتوى الفلسطيني. فتقول: "من الناحية الإيجابية، هناك نقلة نوعية فيما يخص المحتوى المنشور في العصر الرقمي، حيث أتاحت وسائل التكنولوجية الحديثة التحاور والتفاعل والمشاركة لأكبر عدد ممكن أفراد المجتمع، كما أتاحت انفتاحاً فكرياً أكبر، وتغير القناعات وعدم التقوقع في القالب الفكري ذاته". لكن شتيه ترى أنّ الجانب السلبي فيما يتعلق بالنقلة النوعية من الكتابة على الجدران إلى منصات التواصل الاجتماعي، يكمن في أنّها أتاحت نشر الأخبار الكاذبة والمضللة بسبب توسع حيز النشر والتفاعل لأكبر عدد ممكن من الناشرين والكتاب والمؤثرين. ورغم أنّها ترى أنّ الكتابات على الجدران قبل الثورة التكنولوجية كانت مقتضبة وذات مضمون شامل ورنان وسهل الحفظ والتأثير، إلّا أن عصرنا الحالي غيّر من تفكير أفراد المجتمع، الذي أصبح يتصف أكثر بالروح التفاعلية والنقدية وحاجته لتنوع المصادر.
وفيما يتعلق باستغلال الاحتلال الإسرائيلي لوسائل التواصل الاجتماعي من خلال توجيه اتهامات للفلسطينيين، تقول شتيه إن إسرائيل شرّعت قوانين مهمتها التدخل بإدارة المحتوى الإلكتروني وقمع حريات الأفراد الرقمية. وبالتالي نحن نتحدث عن طرق ممنهجة لإسكات أصوات الفلسطينيين رقمياً.
الجدران الماديّة مرآة الوعي الجمعي
بدوره، يقول الباحث في حقل العلوم الاجتماعية عبد العزيز الصالحي لرصيف22: "إن الكتابة على جدران الفضاء العام في الشوارع والبيوت مرّت بعدة مراحل وتغيرات، وفقاً للسياق السياسي العام وخطابه. فما بين الشعارات السياسية الرافضة للاحتلال والشعارات الاجتماعية التي تبنت رسائل توعوية واستخدام المنشور الورقي والإذاعات والتسجيلات الصوتية، وصولاً للكتابة على جدران صفحات التواصل الاجتماعي، تاريخ كبير من تراكم الوعي الثوري وإعادة بنائه وصهره". ويضيف: "الكتابة على جدران المنازل والشوارع في فلسطين المحتلة كانت وسيلة من وسائل النضال التي يزرع من خلالها الفلسطينيون مجموعة من الرسائل المجتمعية في فترة ما قبل الانتفاضة الأولى وصولاً لها ولغاية نهايتها، والتي استمرت حتّى الانتفاضة الثانية، إلا أنها لم تحمل ذات المعاني التي حملتها في الانتفاضة الأولى بالتحديد".
ويعتقد الصالحي أنّ الكتابة على الجدران تتعلق بشكل مباشر بالوعي الجمعي الفلسطيني والعمل التنظيمي، وعلامة على التواجد والبقاء على الرغم من القمع الإسرائيلي للوعي وللمقاومة الفلسطينية، وتعبير عن التحدي لمحاولات الالغاء التي مارسها الاحتلال". ويشير الصالحي إلى أنّه ومع اختلاف الخطاب السياسي وتبدّل الحالة العامة، تختلف الوسائل والتقنيات. ومع دخول وسائل التواصل الاجتماعي لتكون بين أيدي الفلسطينيين، انعكست التعبيرات والمواقف والشعارات على جدران وسائل التواصل الاجتماعي للفلسطينيين. فبالرغم من أنّ الوعي ونشر الوعي قد يكون الهدف من الكتابة على جدران وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لا تحمل ذات الدلالات التي كانت عليها سابقاً.
جدران افتراضيّة للزمن الفردي
لم تحمل الكتابة على الجدران، بحسب الباحث الصالحي رسالة توعوية فقط، بل كانت أحد مظاهر التحدي والصمود للفلسطينيين في ظل وجودهم تحت الاحتلال الإسرائيلي لفترات طويلة. لذلك، كانت قوات الاحتلال تلاحق من يخط الشعارات على الجدران. "أما اليوم قد يهدف المنشور لزيادة الوعي لكن ليس بالضرورة أن يصاحب ذلك أي رسالة تتعلق بالوعي حول صمودنا ووجودنا كفلسطينيين"، يقول الصالحي ويضيف: "ارتبطت الكتابة على الجدران بالخلايا التابعة للتنظيمات الفلسطينية، لذا كان الاحتلال يلاحق من يكتبها على الجدران، لكن اليوم الكتابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا تعبر إلا عمن يكتب المنشور عبر وسائل التواصل. وبما أنّ الكتابة على الجدران ترتبط بالعمل التنظيمي والسري، فهي تعكس حالة من العمل الجمعي في الميدان، وهو ما قد يمتد إلى ما هو أوسع من مجرد الكتابة على الجدران. في حين أن الكتابة على جدران وسائل التواصل الاجتماعي تكون لحالات فردية، وقد لا تمتد لأكثر من إعادة كتابة منشور جديد في كل فترة".
ويؤكد الصالحي على أنّ من يكتب على الجدران هو صاحب القرار في ذلك الفضاء العام بين الفلسطينيين. وعليه، فقد كان للكتابة على الجدران أثراً واضحا في زيادة رأس المال الرمزي والاجتماعي للتنظيم أو الأسير أو الشهيد الذي يذكر اسمه بين مخطوطات الجدران. "قد تجد ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن الأولى كانت نابعة من قلب الحدث، من الشارع والميدان، والثانية هي تعبير رقمي قد لا يخرج من ذات الميادين والشوارع"، يقول الصالحي.
بطبيعة الحال، كانت الرسائل في الكتابة على الجدران مختصرة، ولها دلالات تنظيمية، فهي لم تكن ساحة للتحليل والمشاركة والاعجاب كما أضحت منصات التواصل الاجتماعي اليوم. كانت لها قدسيتها، حيث لا ترى تنظيماً يهين تنظيماً آخر عبر الاعتداء على شعاراته، ولا ترى تراشقاً بين فصائل المقاومة عبر جدران الشارع، في حين نراها اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...