في اللحظة الأولى ستشعر بالغرابة، وبعد ذلك ستتهمني بالفظاظة أو بقلة الأدب، وبأحسن الأحوال بأنني رجل فجّ متباهٍ بعضوه، لكن ليس هذا هو الأمر، بل العكس تماماً. كل ما أريد قوله إنني رجل بقضيب وأبكي... أنا رجل كثير البكاء.
كانت تناديني خالتي في صغري "البكّاء" وهذا ما كان يثير جنون والدي، لينهال عليّ ضرباً حين يغادرنا الجميع، تُغلق أمي الباب وراء خالاتي، وفي حركة خاطفة وسريعة، ومع صوت صفقة الباب، كان أبي ينزع عن خصر بنطاله حزامه الجلدي ذي المربع الحديدي، يثبت قبضته بتلك الحديدة، ويهجم بحزامه القاسي على ظهري، أتكور على نفسي بأدب وأعطيه ظهري، وأستمع للسعات الجلد تحتك بجلدي.
أبي لم يكن رجل أمن ولا ضابطاً عسكرياً بأي رتبة، بل كان حنوناً مع قطته التي ماتت في حادث سيارة، بعدما فتحت لها باب البيت لتهرب منه.
أجلس صلباً كرجل؛ الرجال لا يبكون ولا يتألمون، فمهمة الحزام الرئيسية هي قتل النهايات الحسية في الجسد، لنصبح رجالاً بلا نهايات حسية، رجالاً لا يشعرون، يكبرون ويحاوطون كروشهم بأحزمة جلدية جديدة، تذكرهم بحرقة اللسعة الأولى في كل مرة يضعفون فيها.
وعلى خلاف السائد والمعتقد، فأبي لم يكن رجل أمن ولا ضابطاً عسكرياً بأي رتبة، بل كان حنوناً مع قطته التي ماتت في حادث سيارة، بعدما فتحت لها باب البيت لتهرب منه. لطالما اقتنعت أن طيبته تلك كاذبة، وأنه يخدع القطة لغاية في نفسه أجهلها. كان رجلاً يحب الرقاب؛ رقبتي المكشوفة التي كان يصفعها حين أحني ظهري على طاولة العشاء، ورقاب الدجاج المشوية. كنت أشعر أنني إحدى الدجاجات التي يربيها ليذبحها حين تسمن، وكل تلك الصفعات ما كانت إلّا تهيئة للشوي، اختلفت عن دجاجاته بأنني كنت شاباً شديد النحول، وأعتقد أن هذا ما كان يكرهه فيّ ويلوم أمي عليه.
كان أبي رجلاً يحب الرقاب؛ رقبتي المكشوفة التي كان يصفعها حين أحني ظهري على طاولة العشاء، ورقاب الدجاج المشوية. كنت أشعر أنني إحدى الدجاجات التي يربيها ليذبحها حين تسمن، وكل تلك الصفعات ما كانت إلّا تهيئة للشوي
الديكتاتور والوالد: صورة واحدة في البلاد
من عشر سنين تقريباً كان الربيع العربي، وكنت قد بلغت العشرين ولم أقبّل شفتي فتاة بعد... لا بل أكثر من ذلك، لا أذكر أنني تحدثت إلى فتاة في دمشق. كنت شاباً مهووساً بقنوات الأخبار. أذكر جيداً ثورة 25 يناير، وبالذات يوم تنحّي مبارك، كانت الساعة تقارب السادسة عصراً، وكان أبي يقف في أرض الدار يُحضّر الرقاب المشوية، وجبته المفضلة، حين صرخت: "سقط مبارك! سقط مبارك!"، وانهرت باكياً، ولحسن الحظ كانت أمي قد أخذت السكين من والدي، وإلا من يعرف، ربما رقبتي كانت ستظهر بصحن العشاء.
هجم عليّ وعيناه تكادان تخرجان من مكانيهما، كاد أن ينفجر رأسه من الغضب، لحسن الحظ أيضاً أنه كان يرتدي بيجاما سوداء، لها خط أحمر قاتم من لون الدماء، وكان حزامه الجلدي أبعد من فورة غضبه، سقط بكل حجمه على وجهي. كدت أختنق يومها، وأدركت العودة للحياة بعد الموت، وقلت له بصرخة واحدة وبصوت يرتجف: "أنت مثله، ديكتاتور البيت وستسقط مثله".
جمد في مكانه لم ينطق بحرف، فقط استمر بالضرب وكأن يديه منفصلتان تماماً عن جسده، كان يحرك يديه في الهواء دون أن يصيبني. كانت جثته تغرق وهو يحاول التنفس، يحاول أن ينجو بيديه حتى تعب، شعر بالعجز وتوقف عن فعل ذلك.
كنّا شبان وشابات نحلم بسوريا الجديدة. يومها فرحت، كنت داخل الحرم الجامعي أصرخ وأهتف، كنا نمسك بأيدي بعضنا حتى هبطت الهراوات على الأجساد، وبدأت أسمع أصوات اللسعات. تسمّرت في مكاني، وقفت أبكي مذهولاً، وهنا كان بكائي سبب اعتقالي
الجلاد في سوريا... فكرة
أشهر قليلة وكانت الثورة السورية، الانتفاضة كما أحب أن أسميها، لم أفكر حتى لحظة واحدة قبل أن أهتف ضد الديكتاتور، لم يكن لحياتي معنى دون الحراك. ربما كنت أريد أن أصرخ عالياً في الشارع، أمام الناس: "أنت مثله، ديكتاتور... ستسقط مثله". في الشارع كنت أدمع قبل أن تبدأ المظاهرة، وكنت أبكي، أبكي بحرقة حين ينتشر رجال الأمن في المظاهرة بهراواتهم، فلم يكن القتل هو الطقس المُفضل في مظاهرات دمشق، على عكس باقي المظاهرات التي شاهدتها على التلفاز بباقي المحافظات. في دمشق كانوا يحبون الاعتقال، لم يكن القتل وقمع المظاهرة هو الغاية، بل كان تعذيب المتظاهرين والمتظاهرات هو الهدف، وهذا ما أدركته بعد مظاهرتنا في الجامعة. كنّا شبان وشابات في كلية هندسة الميكانيك، نحلم بسوريا الجديدة، سوريا بدون الأسد، سوريا الإنسانية بدون أي صفة حيوانية. يومها فرحت، كنت داخل الحرم الجامعي أصرخ وأهتف، كنا نمسك بأيدي بعضنا حتى هبطت الهراوات على الأجساد، وبدأت أسمع أصوات اللسعات. تسمّرت في مكاني، وقفت أبكي مذهولاً، وهنا كان بكائي سبب اعتقالي.
في المعتقل تحنّ للوالد الجلّاد، مع فرق كبير أن الجلاد هنا يستلذ بدموعك وآهاتك، فعليك ألا تصرخ. هناك تعلمت الكفّ عن البكاء، والأصدق والأدق أنني أصبحت عاجزاً عن البكاء.
بعد أقل من شهر من وصولي بيروت، وصلني خبر وفاة أبي بأزمة قلبية، برسالة على الواتساب لم أردّ عليها، أنكرتها وأغلقت موبايلي. سافرت بعدها كثيراً، لبلاد لا ينحني فيها الرجال والنساء إلّا من باب اللباقة والأدب
الكل ينحني في بلاد منزوعة الكرامة
لا أدري كيف خرجت من المعتقل، وكنت أضعف من السؤال، لم أرغب بمعرفة الحقيقة... حقيقة أن أبي توسل الجميع، أن ذلك الرجل الصلب باع أرض الدار قبل كرامته، ليدفع إكرامية للسجان ليرأف بي، ومع ذلك لم يتوقف عن تعذيبي لحظة واحدة. خرجت بصباح خريفي بارد، عاجزاً عن المشي وفاقداً القدرة على الكلام أسبوعاً كاملاً، أيّ حتى اليوم الذي سافرت فيه خارج دمشق، عند الحدود اللبنانية لم أبكِ وأنا أودّع أمي، وحده أبي بكي بحرقة وهو يقول لي: "ينحني الرجل من أجل حياة أولاده".
بعد أقل من شهر من وصولي بيروت، وصلني خبر وفاة أبي بأزمة قلبية، برسالة على الواتساب لم أردّ عليها، أنكرتها وأغلقت موبايلي. سافرت بعدها كثيراً، لبلاد لا ينحني فيها الرجال والنساء إلّا من باب اللباقة والأدب.
لم يسقط الدكتاتور، فقط سقطت طيبة أبي، الرجل الذي أحبّ القطة وأحبني كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...