- هو لسه في حد بيلبس كده؟
- منين يا بلدينا؟
- ركنت الجاموسة فين؟
بمجرد أن تطأ قدما الصعيدي العاصمة المصرية القاهرة، سواء كان قادماً من الجنوب، براً أو جواً، يجد تلك العبارات في انتظاره، والسبب هو الجلباب البلدي الذي لا يتخلى عنه غالبية أهل الصعيد. هو زي متوارث أباً عن جد في محافظات الجنوب المصري، ويعتزّ به السكان، وفي الوقت ذاته يعلمون تماماً عبارات التنمّر التي يمكن أن يتعرّضوا لها جرّاء ارتدائه.
يقول طاهر أبو الشيخ (47 عاماً) لرصيف22، إنه بمجرد نزوله ميدان رمسيس بالقاهرة يشعر بأنه غريب، وينظر له غالبية المارة على أنه مجرد فريسة لا يعرف الطريق للمكان الذي يريد الذهاب إليه، بسبب ارتدائه الجلباب وفوقه العمامة البيضاء. يتسابق عليه سائقو سيارات الأجرة ويتعمدون زيادة المبلغ، وكذلك الباعة يزيدون من أسعار الأشياء التي يريد شراءها من وسط القاهرة، ظناً منهم أن الرجل القادم من الصعيد لا يعرف شيئاً. "بيفتكرونا لسا قابضين فلوس محصول القصب"، يعقب.
غير أن بعض الكلمات التي يسمعها تشعره بغضب كبير، مثل "هو لسا في حد بيلبس كده؟ أنت منين يا بلدينا؟ ركنت الجاموسة فين؟"، ويضيف بأن الجلباب الصعيدي هو الأصل، وأغلى من البدلة والكرافتات.
لا يتخلى غالبية أهل الصعيد عن الجلباب البلدي ويعتزون به، ويعلمون تماماً عبارات التنمّر التي يمكن أن يتعرّضوا لها جرّاء ارتدائه.
أما عرفة سيد (65 عاماً) فيروي موقفاً أشعره بالحزن، عندما استقل مواصلات النقل العام، متجهاً لمنطقة عين شمس بالقاهرة، وتعرض لتنمّر صارخ من السائق الذي قال له: "روح ياعم الحاج، أركبلك جحش ولا بغل باللي انت لابسه ده، بالراحة على الكرسي"، حتى أثار غضبه وطلب منه النزول بعد أن تعرض لإحراج كبير بسبب ملبسه.
"لباسي جزء أصيل وتراث حقيقي لن أستغني عنه، ورثته من أجدادي وسأورثه لأبنائي، وهم اليوم يرتدونه فور عودتهم من المدرسة، أو عند ذهابهم للعمل معي في زراعة قصب السكر"، يقول الرجل الذي ينحدر من مدينة إدفو الصعيدية.
الجلباب لباس أساسي
لا يتخلى الصعيديون عن جلبابهم، حتى أولئك الذين يعملون في جهات رسمية، فبمجرد الانتهاء من عملهم والذهاب إلى منازلهم، يتجهون نحو دواليبهم لاختيار جلابية تناسب الخروج أو حضور المناسبات، وهي ليست رمزاً للبساطة، كما يعتقد البعض في الأماكن الأكثر تمدناً، سواء في القاهرة، الإسكندرية وغيرها.
من محال بيع الجلابيات الصعيدي في أسوان - تصوير ياسين الأسواني
يقول عبد العظيم محمد حسن من مركز إدفو، وهو يعمل في بيع أقمشة الجلباب منذ 40 عاماً: "تعتبر الجلابية عندنا رمزاً للبلد والتراث، وكل هذه الملابس التي نراها قدمت من ثقافات أخرى. الجلابية هي الأساس والمرجلة والشهامة، والسخرية منها هي تصرفات شخصية لدى الكثير من شباب هذه الأيام".
ويضيف عبد العظيم، في حديثه لرصيف22، بأن معظم زبائنه هم من القضاة وضباط الجيش والشرطة، وهم أشخاص مرموقون لا يتخلون عن الجلابية، فالرئيس الأسبق محمد أنور السادات كان يرتدي الجلابية، وكذلك أشخاص في جهات سيادية من وزراء وضباط، ويتابع: "هنا في إدفو وكامل المنطقة، جميع الأشخاص المقتدرون مادياً، والذين يعملون داخل جهات رسمية، لا يتخلون عن الجلابية في الأوقات غير الرسمية، وهم زبائني، يقصدون المعلم عبد العظيم خصيصاً للحصول على أفضل القطع".
وفق حديث الخياط، يشتري بعض الزبائن أقمشة غالية الثمن، يصل سعر المتر الواحد منها إلى ستمئة جنيه (حوالي 40 دولاراً)، ويحتاج الشخص في الغالب لثلاثة أمتار ونصف المتر لتفصيل الجلابية وحدها، إلى جانب قطع أخرى قد تكون مرافقة لها.
بمجرد نزول طاهر ميدان رمسيس بالقاهرة يشعر بأنه غريب، وينظر له غالبية المارة على أنه مجرد فريسة لا يعرف الطريق للمكان الذي يريد الذهاب إليه، بسبب ارتدائه الجلباب وفوقه العمامة البيضاء. يتسابق عليه سائقو سيارات الأجرة والباعة ويتعمدون زيادة المبلغ
تفاصيل كثيرة لصنع الجلابية
"هي رمز للهيبة والمجدعة والرجولة وتفصيلها ليس شيئاً سهلاً"، ذلك من وجهة نظر جرجس وهيب (33 عاماً)، وهو يعمل في مهنة تفصيل الجلباب الصعيدي منذ 12 عاماً، وتحدث لرصيف22 عن ذلك بكل ترحيب: "تستغرق الجلابية وقتاً طويلاً في تفصيلها، يتراوح من 7 إلى 10 أيام، وربما أسبوعين".
ويطلق على مهنة تفصيل الجلابية الصعيدي اسم "سكة حديد"، فهي تحتاج الكثير من الجهد، وفيها العديد من التفاصيل في عمل الجنب والجيوب والكتف، أما الأكمام والكفافة -أي الخيط الذي يحاك على الجلباب باستخدام الإبرة- فهي الأصعب، كما يقول وهيب، وتستغرق وقتاً طويلاً، لأنها تحدد شكل الجلابية.
كما أن عملية التفصيل تتضمن خيارات كثيرة لا بد للخياط من تحديدها، مثل فتحة السيالة الخاصة بجيب الجانبين، فالبعض يريدها مفتوحة والبعض الآخر يريدها مغلقة، وبخصوص القبة، أي فتحة الصدر، يحتار الزبائن بين طريقة السبعة أو المرد، أي مع جزء إضافي من القماش المقوى، وفي الغالب طريقة السبعة هي المحبذة لدى الأشخاص الأثرياء والمرد لدى الشباب. كما أن مستوى طول الجلابية يختلف، فهناك من يريدها على مشط الرجل مباشرة وهناك من يفضلها أعلى قليلاً.
وتختلف تكلفة الجلباب من قماشة إلى أخرى، فسعر المتر الواحد يبدأ من 180 جنيهاً، وهناك أقمشة يصل سعر المتر الواحد منها إلى 800 جنيه و1000 جنيه، لاحتياجها بعض الإضافات وطرق حياكة معينة حتى تخرج بالشكل المطلوب: "تفصيل الجلباب البلدي الصعيدي يختلف عن البذلة التي لا أعتبرها رمزاً للثراء، وبكلتي الحالتين تختلف الأسعار، فمنها الغالي ومنها الرخيص". وبالمحصلة، قد تصل التكلفة الإجمالية للجلباب إلى حوالي 6500 جنيه.
من محال بيع أقمشة الجلابيات الصعيدي في أسوان - تصوير ياسين الأسواني
ولا تحتاج الجلابية الصعيدية لمكواة البخار التقليدية، ومكواة الرجل الحديدية كبيرة الحجم التي تعمل بالتسخين على النار هي الأنسب، كما يقول صديق محمود من أسوان، وهو من أواخر محترفي مهنة الكوي في منطقة الصعيد: "أعمل في هذه المهنة مذ كان عمري عشر سنوات، أي منذ العام 1966، ورثتها عن أجدادي، وعملت كصبي لدى محال متخصصة بمكواة الرجل، قبل دخول الكهرباء المحافظة".
وبحسب حديث محمود لرصيف22، فإن مكواة الرجل هي الأكثر طلباً لمرتدي الجلباب الصعيدي لأنها تعطي مظهراً جميلاً، ونظراً لثقل وزنها تستطيع كوي القماش المصنوع من الصوف وهو الذي يفضله أهل أسوان الصعايدة، ويضيف: "لا يمكن العمل بهذه المكواة على أي خامة حتى لا تحرقها، وهي بالطبع أفضل من البخار، لكنها اليوم أصبحت نادرة، ولم يعد يعمل بها سوى عدد محدود من الأشخاص". ويكلف كوي الجلابية من 5 إلى 15 جنيه حسب خامتها، والصوف هو الأكثر كلفة لأنه يحتاج وقتاً ومجهوداً كبيرين، ما يدفع بابن محمود لمعاونته مستفيداً من قوته البدنية.
متطلبات جديدة للشباب
يقول الحاج عبد الناصر، وهو يعمل بمهنة تفصيل الجلباب الصعيدي منذ 60 عاماً: "الجلابية موروث قديم هنا في الصعيد وأسوان، لكنها لم تعد كالسابق، فالأجداد كانوا يعتبرونها الزي الوحيد لهم، وكانوا يرتدون خامات متنوعة لم تعد متوفرة في الوقت الحالي، مثل الكتان والحرير والصوف، لكن شباب اليوم يفضلون ارتداء البنطال والقميص بطبيعة الحال".
الحاج عبد الناصر وهو من أقدم خياطي الجلباب الصعيدي في أسوان- تصوير ياسين الأسواني
ويشير الرجل الثمانيني، أثناء حديثه مع رصيف22، إلى أن الفئة الأقل عدداً من زبائنه هي من الشباب الذين لا يتجاوز سنهم الثلاثين عاماً، وهم يطلبون شغلاً مختلفاً عن الكبار في شكل الجلباب: "فلم تعد الأكمام واسعة مثلما كان يفضلها من هم في عمري الآن، كما أن الكبار يفضلون الجيب المفتوح على طريقة أهل أيام زمان لحمل الأشياء ووضع اليد في الجيب حتى لا يرى أحد ما يحملونه من أغراض، مثل الطعام والفاكهة، خوفاً من الحسد"، كما أن كبار السن كانوا يملكون الكثير من الجلابيب، منها للعمل ومنها للمناسبات ومنها للنوم، وتسمى "التكشيطة"، وتكون خفيفة، بيضاء اللون، ويطلق عليها البعض في الصعيد اسم "قميص رمش العين".
وبخصوص العاملين في هذه المهنة، فإن عددهم لم يزد ولم ينقص، وفق حديث عبد الناصر: "هي مهنة ورثناها عن الأجداد وما زالت مستمرة إلى وقتنا هذا. الزبائن كثر وازداد عددهم بحكم زيادة أعداد الناس، لكن قلت البركة ولم تعد الناس هي الناس".
يطلق على مهنة تفصيل الجلابية الصعيدي اسم "سكة حديد"، فهي تحتاج الكثير من الجهد وفيها العديد من التفاصيل في عمل الجنب والجيوب والكتف، أما الأكمام والكفافة -أي الخيط الذي يحاك على الجلباب باستخدام الإبرة- فهي الأصعب وتستغرق وقتاً طويلاً، لأنها تحدد شكل الجلابية
ضمن هذا السياق يضيف جريس وهيب: "قدمت من مركز نقادة التابع لقنا، واخترت مركز إدفو بأسوان، حيث يحافظ الناس على ملبس الجلباب، سواء في المدينة ذاتها أو في القرى المجاورة، ومنهم من يرتديها كل الوقت أو فقط خارج وقت العمل. ويشهد فصل الصيف بشكل خاص زيادة على طلب الجلابيب بسبب الأعراس والأفراح، حيث يرتديها العريس وأصدقاؤه وأقرباؤه في الأيام التي تسبق يوم الدخلة، وهي مناسبات لا تحتاج للبس البدلة، إذ يتم إحياؤها بالطريقة التقليدية مع مطربين يغنون الكف الصعيدي، يضاف إليها الأعياد التي يشهد خلالها السوق إقبالاً، نظراً لأن الناس يحبون ارتداء الجلابية للذهاب إلى صلاة العيد".
ويشكل الشباب النسبة الأكبر من زبائن وهيب كما يقول، فهو يفهم ما يريدونه لكونه شاباً، ويدخل بعض الإضافات على التصاميم التقليدية للجلابية كي توائم الموضة، في حين أن زبائنه من كبار السن هم قلة، وعادة يطلبون الجلباب واسعاً مع جيب مفتوح بطريقة معينة. ويضيف: "المهنة لم تعد كالسابق بالفعل، على الرغم من أن عدد الزبائن لم يقل، لكن العادات تغيرت، فقديماً كان لدينا سوق الأربعاء هنا في إدفو، حيث يشتري الزبائن القماش ويعودون في الأربعاء التالي للحصول على الجلابية مفصلة، وهي عادات اختفت اليوم، لكننا لا زلنا نحافظ على الجلابية كلباس تقليدي أساسي".
زين العابدين الشريف مرتدياً الجلابية التي يفخر بها - تصوير ياسين الأسواني
أما الشاب إيهاب الضبع فلا يرى بأن جلبابه يعرّضه للتنمّر في مكان سكنه بالجيزة، لكنه يواجه السخرية إذا ما ارتداه عند نزوله لوسط القاهرة، ويشرح ذلك لرصيف22 بالقول: "البعض يمازحني ويظن بأنني خليجي إن ارتديت جلباباً بنصف ياقة، وآخرون يسألونني عن أرقام الشوارع والعمارات، ظناً منهم أنني أعمل حارس عقار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...