تمرُّ عليّ تلك الأيام كفيلم بالأبيض والأسود، حين كنتُ في الإمارات ما بين العام 2004 و2019. خرجتُ من المخيم شاباً في العشرين من عمري، لا أعرف شيئاً عن السفر والبلاد، لا أعرف سوى زواريب مخيم نهر البارد، لم أكن أتخيل أنني سوف أعيش في مدينة عصرية مثل أبو ظبي، أن أخرج من المخيم كلاجئ أقرب إلى شكل فلسطين، إلى لاجئ مسافر إلى أبعد من فلسطين، وصلت إلى هناك ليلاً، كنتُ أنظر إلى فوق، إلى الأبراج الزجاجية الشاهقة، وأسأل: ما هذا الارتفاع المخيف؟ كيف سأعيش هنا؟ وأنا المخيمي البسيط الذي يحنُّ إلى أبسط الأشياء في ذكرياته.
أمشي في الشوارع الضخمة وحيداً، أرى إشارات السير المنتظمة وقطيع السيارات الملتزمة بالخطوط وانتظار الضوءين الأخضر والأحمر، وأنا مذهولٌ من هذا المشهد الذي لم أره من قبل، حتى مضت السنوات التي لم أشعر بسرعتها في الإمارات، حيث تعرفت على جسورها وشوارعها وصحرائها الواسعة التي تعانق المدينة من كل اتجاه، وكنت ألاحظ دائماً، كيف أنّ هذه الصحراء أصبحت مدينة عصرية.
أمشي وأقول: ما أطول الشارع المزنر بالنخيل العربي والرمل العربي. سكنت أول مرة في الصحراء، وقد تسلمت غرفتي الوحيدة من مديري الفلبيني في الشركة، وقال لي: "اليوم سوف تسكن وحدك لكن في الأسبوع القادم سوف يأتي شاب من الفلبين ويسكن معك".
بقيت طوال الليل أفكر: كيف سأسكن مع أجنبي وأنا لا أتكلم الإنجليزية؟ كيف سأفهمه ويفهمني في هذه الغرفة/ السجن؟ بعد أسبوع جاء الشاب الفلبيني، قال لي بالإنكليزية: "هاي" جاوبتهُ: هاي".
"ما اسمك؟"، سألته: قال "إسرائيل"، قلت له: "نعم؟ لم أسمع جيداً"، قال اسمي إسرائيل، قاطعني مديري:" إسرائيل سوف يسكن معك في الغرفة"، قلت له: "أنا فلسطيني كيف سوف أسكن أنا وإسرائيل في غرفة واحدة؟" قال: "وما المشكلة؟"، قلت له: "لا، لا يوجد مشكلة، لن تفهمني جيداً. معنى أن يكون اسمك إسرائيل، أهلاً، تفضل"، وبقيت أنا وإسرائيل في غرفة واحدة، حتى جاء اليوم الذي غادرت تلك الغرفة وبقي إسرائيل وحده فيها.
كيف سأسكن مع أجنبي وأنا لا أتكلم الإنجليزية؟ كيف سأفهمه ويفهمني في هذه الغرفة/ السجن؟ بعد أسبوع جاء الشاب الفلبيني، قال لي بالإنكليزية: "هاي" جاوبتهُ: هاي". "ما اسمك؟"، سألته: قال "إسرائيل"، قلت له: "نعم؟ لم أسمع جيداً"، قال اسمي إسرائيل
أبو ظبي يفوح بها رائحة البحر والعود، لكنها مدينة متعددة الوجوه، إذ تحتضن العالمبكل أشكاله وأنواعه، ولغاته، لا تعرف وجهها الأصلي جيداً، ذهبت مع الأصدقاء من المخيم المقيمين مثلي في الإمارات إلى عُمان مرة، وحين وصلنا إلى الحدود، سألنا حارس الحدود: "من وين الشباب؟" قلنا من الامارات وذاهبون إلى مسقط، قال: "تمام، الجوازات"، سلمنا إلبه وثائق السفر اللبنانية التي تمنح للاجئين الفلسطينيين على أراضيها وهي كبيرة الشكل، قال حارس الحدود الإماراتي: " شو هاض؟" قلنا له: "جوازاتنا"، قال: "أوووف ليش كبار"، خاف الحارس منها، وأخذها إلى الضابط في الداخل كي يسأله، وانتظرنا أكثر من نصف ساعة في الخارج، إلى أن عاد الحارس مع الضابط الذي سأل: "من أنتم؟"، قلنا: "نحن فلسطينيون من لبنان"، قال: "للأسف أنتم 'بدون'"، سألناه: "كيف بدون؟"، قال: "هناك أناس للآن بالامارات بدون جنسية أو بدون هوية، فأنت للأسف بدون"، استغربنا، فقال صديقي له: "هذه الوثائق نسافر بها إلى جميع دول العالم، وتقول لنا بدون، أنظر إلى الوثائق كم هي كبيرة، ألا تشبه الخيام؟"، صمت الضابط، وسمح لنا بعبور الحدود بعد أن تأكد من أهمية الوثيقة، وعبرنا ونحن نضحك على "بدون".
الشمس البرتقالية تغرق في بحر أبو ظبي، أنظر إليها وأنا أمسك بالحديد المطل على كورنيش البحر، اليوم ليس كباقي الأيام، مليء بالأسئلة، هل ستأتي وزيرة الثقافة الإسرائيلية كي تزور مسجد زايد؟ هل سأبقى في الإمارات أم سأغادر؟ هل سيموت شيءٌ بي كي يولد شيءٌ آخر؟ هل هذه هي فلسفة الزمن الذي يسرع أكثر فأكثر؟ وكيف سأغادر هذه المدينة الزجاجية أبو ظبي إلى المخيم؟ لا أحد يرجع إلى الوراء، لكنني أحتاج إلى أن أعود إلى الوراء مرة، لأن الزمن أحياناً يسرع إلى الأمام لكن ينسانا في الخلف، فيغضّ النظر، فأحتاج إلى أن أترك الأبراج العالية إذا كانت تنكر وجودي أو تراني منخفضاً جداً، وأعود إلى المخيم الذي ما زال يتذكرني. نشرة الأخبار تقول إن الإمارات دخلت دول التطبيع العربي المستجد، يا إلهي أين أنا إذن؟
أتصل بأمي، وأنا أنزل من باص رقم 402: "آلو أمي؟ خلص قررت أترك الامارات وأرجع إلى المخيم".
"شو، كنك مجنون؟ أنت في الإمارات مين قدك، شو بدك بالمخيم مئة مصيبة فيه".
أضحك. "أتعرفين يا أمي، اكتشفت وأنا هنا في الإمارات أن المخيم أوفى أصدقاء الحزن بالنسبة لنا؟" تضحك هي، وتسأل "ومن قال ذلك؟ المخيم؟".
أقول لها، نعم، المخيم هو أوفى صديق بعد فلسطين، لأني هنا في الإمارات مجرد رقم فقط، هذا الرقم مرتبط بورقة هي إقامتي المؤقتة التي سوف تشق وتفقد رقمها يوماً ما، وأصبح أنا مثل شعبي الفلسطيني على قارعة المطارات أبحث عن مخيمي، لا اعتراف بنا هنا أو هناك، فلا أستطيع نقل إقامتي المرتبطة بعملي الذي انتهى أمره منذ خلاف الإمارات مع جارتها قطر، وأٰغلقت الحدود بينهما، أين سأذهب؟ والتطبيع يتفشى كجائحة كورونا في هذه الدول.
تسألني الموظفة: "وان واي؟"، وأجيب: "نعم، ذهاب دون رجوع"، تُذهل وتسأل: "ستبقى في لبنان؟ عفواً على الفضول، أين تسكن في لبنان؟"، أقول لها: "في المخيم". "يا إلهي، ستترك الإمارات لتعيش في المخيم؟"
وأنا أمشي على رصيف الشارع المتناسق مع البنايات المرتبة كالكتب على رفوف المكتبة، أتذكر شعر درويش: "حاصر حصارك لا مفرُّ/ سقط القناع عن القناع/ عن القناع"، لم يعد الخيار خياري، ولكنني مرغم على أن أذهب وأحجز للعودة إلى لبنان.
تسألني موظفة مكتب الطيران "الميدل إيست": "ستعود إلى لبنان؟"، "نعم، سأعود"، أجيبها، وتسألني: "وان واي؟"، وأجيب: "نعم، ذهاب دون رجوع"، تُذهل وتسأل: "ستبقى في لبنان؟ عفواً على الفضول، أين تسكن في لبنان؟"، أقول لها: "في المخيم".
"يا إلهي، ستترك الإمارات لتعيش في المخيم؟"، تسألني.
أجيب: "وصلنا إلى هنا، ربما أجد المخيم الوطن المؤقت في طريقه إلى الوطن المؤجل،" وأمشي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...