طوال فترة دراستي في الجامعة، لم يغب عن بالي الكثير من الأسئلة التي كان يتداولها الطلاب هناك، فور معرفتهم بأنني لا أنتمي إلى نفس جذورهم، وبأن الله اختارني أن أكون فلسطينية الهوية، وأن أكون موقع التساؤلات بالنسبة لزملائي على مقاعد الدراسة.
أذكر الكثير من علامات الاستفهام التي كانت تُطرح أمامي، ولعل أكثر ما خُزّن في ذاكرتي إلى يومنا هذا هو سؤال تكرّر آلاف المرات: "كيف بتروحي وبتيحي ع عكا كل يوم؟" أنا لا أبالغ إذا قلت إنني لا أذكر عدد المرات التي سُئلت بها هذا السؤال، لكنني أذكر جيداً ابتسامتي التي تختصر الإجابة عن كل شيء. كان الجواب أولاً يحتاج إلى شرحٍ مفصّلٍ وعودةٍ إلى التاريخ وأصل الحكاية، لكنني، وبعد أن تكرّر السؤال كثيراً على رأسي، أصبحت أجيب إجابةً مختصرة: "عكا ما فيها جامعات قوية"، هكذا من دون أن أستفيض بالكلام، أُنهي حديث ساعات بجملة.
أعود إلى السائل بعد لحظات لا تخلو من تأنيب الضمير والتفكير العميق بواجبي لأشرح أكثر عن أسباب وجودي هنا، وبأنني بالتأكيد لم أختر أن أقضي بضع ساعات يومياً في الطريق من عكّا إلى بيروت... حتى أن هذه الفكرة بحد ذاتها تُرهقني.
نختلف كثيراً نحن البشر بالمعتقدات، بالخلفيات السياسية... إلا أن حقائق التاريخ واحدة لا تتغيّر، مثل فكرة الموت والحياة وفكرة الجلاد والضحية
نختلف كثيراً نحن البشر بالأفكار والمعتقدات، بالخلفيات السياسية والمعلومات التي نكتسبها خلال حياتنا، إلا أن حقائق التاريخ واحدة لا تتغيّر، مثل فكرة الموت والحياة وفكرة الجلاد والضحية.
ولدت في لبنان لاجئة فلسطينية، وفي الحقيقة قبل سنتين من الآن كان هذا اللقب لا يعني لي سوى هوية زرقاء أكره أن أحملها معي لأنها لا تتسع في حقيبتي، ومدرسة "أنروا" حيطانها زرقاء أيضاً، إذاً ارتبط اللون الأزرق لديّ بمعنى اللجوء. لاحقاً عندما أدركت مسؤوليتي تجاه قضيتي ومجتمعي الفلسطيني بدأت أبحث عن تعريف هذا اللاجئ الذي اقتصر لدي على أشياء ملموسة وغير واضحة.
لم يكن أمر التعريف صعباً، فهو يحتاج فقط إلى إنترنت سريع ومحرّك البحث الشهير "غوغل" لنصبح في الموقع الرسمي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وعليه لقد تأسّست هذه المفوضية في عام 1951، ووافق عليها حوالي 137 دولة، وقد أدرجت تعريف اللاجئ: "أنه شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرّض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة"، وتلزم هذه الاتفاقيةُ الدولَ المصادقة عليها بحماية اللاجئ وتوفير فرص العمل له. دعونا هنا نضع الكثير من الخطوط تحديداً تحت جملة "فرص العمل".
تعود معاناتي مع هذا الموضوع من يوم نجاحي في امتحانات الثانوية العامة، كنت أطمح في طفولتي أن أكون مضيفة طيران ثم عدلت عن قراري طبعاً لأنّ ليس فيه أمل. اخترت العلوم وكان أول اقتراح لأبي أن أدرس صيدلة، ثم عدلت عن قراري لأنني لاجئة فلسطينية في لبنان. ولنضع تحت هذه الجملة الكثير من الخطوط أيضاً. انتهى بي الأمر إلى دراسة الكيمياء الحيوية، والعمل كمساعدة صيدلي. أحب عملي ولا أحبه في الوقت ذاته، لأنه ليس اختصاصي. لكن يا عزيزي، أنت لاجئ وفي لبنان تحديداً، كيف تجرؤ أن تحلم؟
منذ عشرة أيام، قرّر وزير العمل اللبناني أن يطبّق القانون علينا، فبدأ بإعطاء الإنذارات للعمال الفلسطينيين، انتشر الموضوع بين الناس كالنار في الهشيم. ففي طبيعة الحال لا يمكنك أن تحارب فقيراً على لقمة عيشه! انتفض الناس وخرجوا من بيوتهم، اختلط الجميع بين من سمع بهذا القرار فقرر أن ينزل إلى الشارع من دون أن يكوّن معرفة كاملة عن أي شيء، وبين من بحث كثيراً في القانون اللبناني ليعلم إلى أين نحن ذاهبون.
كنت أطمح أن أكون مضيفة طيران ثم عدلت عن قراري طبعاً لأنّ ليس فيه أمل. اخترت العلوم وكان أول اقتراح لأبي أن أدرس صيدلة، ثم عدلت عن قراري لأنني لاجئة فلسطينية في لبنان
الحقّ يا سعادة الوزير بالعيش في كرامة وأمان... في أن أعود إلى البيت مطمئنة أن أحداً لن يأتي غداً ليسألني عن هويتي وعن إجازتي في العمل، ربما سقط القرار سهواً أو بحسن نية، لكنه بالنسبة لموظف يعمل لكي يحصّل طعاماً يأكله مع أولاده، أكبر بكثير مما تتصور
ببساطة جداً، القانون واضح للجميع والمشكلة لا تكمن اليوم في وجوده، فالقانون موجود منذ عام 2010، ورقمه 129، حيث يستثني الإجراءُ الفلسطينيين من شروط المعاملة بالمثل ومن رسم إجازة العمل. لم يرَ هذا القرار النور منذ لحظة الاتفاق عليه، أثار القليل من البلبلة بين أوساط الحقوقيين لكن صوتاً لم يصل إلى الشارع كما اليوم.
لم يكن اعتراضي كفلسطينية يوماً على تطبيق القانون ولا على آليته، لكنّني لا أنكر ولا أخاف أن أقول بأنني ممن ينزل إلى الشارع ويشارك بالمظاهرات، لأن القرار مسّني كإنسانةٍ وكلاجئةٍ وُلدت ودرست وتعمل هنا. لست بمحللة سياسية ولا بخبيرة في القانون لأدخل في هذا السجال، لكنني وما إن شعرت بأن شيئاً يهدّد هويتي وفلسطينيتي لم يعد هناك مكان للتراجع عن المطالبة بالحقّ.
الحقّ يا سعادة الوزير بالعيش في كرامة وأمان، الحقّ في أن أعود إلى البيت مطمئنة أن أحداً لن يأتي غداً ليسألني عن هويتي وعن إجازتي في العمل، ربما سقط القرار سهواً أو بحسن نية، لكنه بالنسبة لموظف يعمل لكي يحصّل طعاماً يأكله مع أولاده، أكبر بكثير مما تتصور.
ولأتحدث عن نفسي، أنا لا يعنيني أي شيء أكثر من حفاظي على هويتي كلاجئة فلسطينية، ولست بأجنبية جاءت بقرارٍ منها لتعمل هنا، أنا هنا وأبي وُلد هنا أيضاً، هذا لا يُسقط عني صفة اللجوء، ولا يجعل أي قوة في الدنيا قادرة على تجريدي من حقي في العودة إلى قريتي في عكا.
أرفض التوطين وأرفض كل الحلول التخاذلية والتنازلات الحقيرة والأبواق العالية التي تتحدّث باسمي من وراء المنابر، أنا لاجئة فلسطينية أعيش اليوم في لبنان وأطلب أن أعيش بكرامةٍ وألا أحتاج أحداً.
فنحن يا سعادة الوزير "لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...