تستطيع أن تخرج من البيت، لكن ارتد الكمّامة جيداً، وإلا فقد حذّر وزير الصحة: من لا يرتدي الكمامة سيحاسب، وسيخالف 50000 ألف ليرة لبنانية، جاء قرار الحكومة اللبنانية الأخير كأداة لعلاج الخارجين من المحاجر سالمين.
تمشي في المخيم في الصباح الباكر من القرار الأخير، تشاهد الناس بدون الكمّامة، فتسأل أحد المارة: "ستدفع الـ 50000 ألف ليرة؟"، يقول: "لماذا؟ هل لأنني لا أرتدي الكمّامة؟"، نعم، لأنك تمشي بلا كمّامة، يقول: "لكننا في المخيم تعودنا على أن نكون دائماً مكممي الأفواه بكل شيء، هل وقف الأمر على الكمّامة؟".
ثم يستدير: "سأموت ولن أدفع المخالفة للحكومة". الشوارع الضيقة والأزقة التي يتصاعد منها الأمل كالهواء الخارج من الرئتين، تكاد تحسبه يوم عيد، الكل واثق أنه خارج القرار الحكومي، أو الكل يعتقد أن اللاجئ في المخيم هو بدون فم يتكلم به، فمن أين يدخل فيروس كوفيد 19؟ مثلما قال لي سائق التاكسي المخيمي ذات يوم: "تذكر أننا نحن كورونا العصر، فكيف سيصيبنا المرض؟ هذا رشح عادي والله رشح، ليش خايفين الناس منو".
تكلم سائق التاكسي دون كمّامة، تكلم أخيراً، وهو يسرد للركاب قصصه مع رجال الأمن، يقول بأنه قال لهم بأنه فلسطيني، لا يصاب بكورونا، ولا يستطيع دفع المخالفة، إذن، لماذا عليه أن يرتدي الكمّامة؟ لا إجابة لدى رجال الأمن سوى تحذيره مراراً بعدم الكلام بدون كمّامة.
الشمس لا تدخل إلى البيوت المتراكمة فوق بعضها البعض كعلب السردين، لا يرى الناس سوى شاشة التلفاز في الليل، ماذا يقول وزير الصحة، يفعلون على هدي رؤاهم؟ لكنّهم سرعان ما ينأون بأنفسهم عما يصدر من قرارات، هل نحن في البلد؟ هل نحن من البلد؟ لا أحد يذكرنا على هذا الكوكب إلا إذا أصيب أحدنا بفيروس الكلام، يقولون: تكلم دون كمّامة، ويجب أن يدفع 50000 ألف ليرة عقاباً له على نعمة الكلام.
يذكرني المخيم الصامت دون كمّامة بقول محمود درويش:
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات،
فكِّر بغيركَ
مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام.
صدق درويش فعلاً بهذه القصيدة التي أصابتنا جميعاً، لكنني أختلف مع درويش إذا كانت القصيدة تناشد الآخر كي يفكّر بنا، فنحن خارج فكرة الآخر، أو للآن لم يفكر بنا الآخر.
تكلم سائق التاكسي دون كمّامة، تكلم أخيراً، وهو يسرد للركاب قصصه مع رجال الأمن، يقول بأنه قال لهم بأنه فلسطيني، لا يصاب بكورونا، ولا يستطيع دفع المخالفة، إذن، لماذا عليه أن يرتدي الكمّامة؟ لا إجابة لدى رجال الأمن سوى تحذيره مراراً بعدم الكلام بدون كمّامة
يضربني الطفل بالكرة في الطريق الضيق، هل أنت نائم أيها الرجل؟ أقول له: كلّا، أفكر بالكمّامة، يضحك الطفل الذي يلعب في الشارع غير مكترث بما يحصل في البلد: أي كمّامة؟ ألم تسمع بالقرار الجديد، لم أسمع بشيء سوى أن كورونا ذهب، والآن أستطيع أن ألعب في الشارع قالت أمي، أمي التي تعبت من وجودي في البيت لمدّة ثلاثة أشهر، قضيناها بين الصراخ والقتال والضجر.
قلت له: العب بعيداً، وابتعدت.
الوضع عادي، الهواء نقي والزمن يسير بسرعة الريح التي تحمل معها الرمل المتطاير داخل العيون، من يعلم إذا كان المخيم يعيش وضعه العادي أم لا؟ طوابير السيارات التي تسدّ الطرق وحدها تكفي كي تبشّر بالأمل، والسيارات التي تعبر من المخيم إلى مدينة طرابلس، هي السيارات الممنوعة من العبور على دوار العبدة الذي تغلقه تظاهرات 17 تشرين المستمرة، كيف يكون المخيم المخنوق أصلاً، المتنفس الوحيد للآتين من الخارج؟ سؤال ليس له جواب واضح في حضرة السائلين عن إمكانية العبور من هنا، والإجابة بـ نعم، الطريق سالك وعادي، إذن، عندكم الوضع عادي، نعم، عادي.
وكأن وجه العابر من الخارج إلى الداخل يثير التعجّب، ويقول: يا ليتني ابن المخيم، لكي أعيش العادي في زمني غير العادي، ومكاني المحاصر بالتناقضات والصراعات الداخلية التي لا تؤذي سوى الفقير العابر، والطريق ما زال سالكاً إلى جهة القصد من هنا، يعبر الناس إلى عملهم سالمين من المخيم، مع ضيافة فنجان قهوة من أبناء المخيم الذين يوزّعون الضيافة على السيارات العابرة، كي تهدأ النفس قليلاً من الشتم، "روق أعصابك شوي"، أنت مواطن وتبكي، فماذا أقول أنا اللاجئ المستثنى من كل شيء وخارج الكوكب، ماذا أقول؟
لا تقل شيئاً في حضرة التناقضات التي تجرفنا سوياً، أسمع السائق يسأل مضيف القهوة على جانب الطريق: لا تذهب من الطريق النهري، لأن الزبالة تملأ الطريق وستضر دواليب سيارتك، يا أخي تنضر الدواليب ولا أقف على الدوّار من الآن حتى الليل، المهم، مخيّمكم جميل!
أسمعت ما قاله السائق عنّا؟ قلت: نعم سمعته يمدح بنا ويتغزل بمخيمنا وبالحرية المطلقة فيه، لكنني اضطررت للسؤال: أليس ما يثير التعجّب بما يراه السائق فينا؟ قال: لا لا عادي، المهم ألا يرانا رجال الأمن أنا وأنت نتكلم بلا كمّامة
لماذا يحسدنا هذا الآتي من الخارج على جمال المخيم؟ هل يرى البشاعة في الجمال ويرى الجمال في البشاعة؟ يقول: ليس فيه مخالفة 50000 وليس فيه من يرتدي الكمّامات، وليس فيه من يصاب بكورونا، وكلّكم في المحْجر أصلاً، والله يا أخي نحسدكم على هذه العيشة الهادئة. يضحك ابن المخيم دون أن يجيب بكلمة، فيكتفي بالضحك، فثمّة من لم يجد حيّزاً للضحك هناك، ثم يمضي وكأنه خائف على شيء ما، يمضي وهو ينظر إليَّ خفية، أسمعت ما قاله السائق عنّا؟ قلت: نعم سمعته يمدح بنا ويتغزل بمخيمنا وبالحرية المطلقة فيه، لكنني اضطررت للسؤال: أليس ما يثير التعجّب بما يراه السائق فينا؟ قال: لا لا عادي، المهم ألا يرانا رجال الأمن أنا وأنت نتكلم بلا كمّامة، ما لون كمّامتك أنت؟ قال بيضاء، وأنت قلت له مازحاً: سوداء، كلون الحداد على أحد مات دون أن يدفع المخالفة، فكن بخير، وأنت.
بعفوية كاملة نكمل حالة اللجوء بصمت، ولا أحد يسأل أحداً عن الالتزام الصحي، الأعمار بيد الله، ومن سيموت سيموت، هنا أم هناك، داخل المخيم أم خارجه، ومثلما يقول الطبيب في عيادته الخاصة في المخيم للناس: إذا أحصينا عدد الوفيات من تعب الحياة، سيصل العدد أكثر من المصابين بكوفيد 19 في هذا الشهر في المخيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...