من أزمة الى أخرى، يتنقّل المشهد السوداني، كأنما قدّر للسودانيين أن يعيشوا طوال حياتهم حروباً أهليّة وصراعات متتالية، وشلالات دم لا تتوقّف. بعد أن انتهت حرب السنوات الطويلة في تاريخ القارة السمراء بتقسيم أكبر بلدانها دولتين، السودان وجنوب السودان، ها هو التمرّد يستعر في إقليم دارفور، أكبر الأقاليم غربي البلاد. ورغم انفصال السودانيين، فإن الصراع ما لبث أن امتدّ من دارفور إلى ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، التي أضحت تعرف بالجنوب الجديد. لم يسلم كذلك شرق السودان الذي شهد حرباً دامت قرابة عقد من الزمان وانتهت باتفاق سلام عام 2006.
ومن بين مشاهد الحرب الدموية، تُطل كارثة أشد دموية، ألا وهي النزاعات القبيلية التي انتقلت إلى خانة الحرب في بلدٍ يتكوّن من قرابة 400 قبيلة تنقسم نحو 40 فئة إثنية على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والإثنوجرافية وتتحدث 64 لغة مكتوبة ومنطوقة.
أسباب الصراع
لا يمكن اعتبار الصراع القبليّ في السودان وليد تفجّر الحرب الأهلية أو الحركات المسلحة التي بلغ عددها نحو 26 حركة، وقّعت بعضها اتفاقات سلام مع الحكومة ورفضت بعضها الآخر واختارت مواصلة القتال. يقول مؤرخو الصراع القبليّ إنه بدأ للمرة الأولى عام 1932 بين قبيلتي الزيادية والميدوب ضد قبيلتي الكبابيش والكواهلة في منطقة شمال عاصمة دارفور (الفاشر) وتكرر في أعوام 1957 و1982 و1997. ويعزى سبب جميع هذه النزاعات إلى مصادر المياه والرعي. بيد أنّ الصراع الحقيقي بدأ عام 1983 بين قبائل الرعاة والمزارعين، بسبب التنافس على الموارد الشحيحة والأرض الصالحة للزراعة ونتيجة لموجات الجفاف والتصحّر التي ضربت منطقة الساحل الإفريقي منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي والتحوّلات البيئية التي نجم عنها انحسار نطاق المراعي والموارد المائية والتربة الخصبة.
يتّفق الباحثون على أن القبلية، بإيجابياتها وسلبياتها، مفهومٌ متجذر في المجتمع السوداني ويمثّل دائرة مهمة من دوائر انتماء الفرد، إن لم تكن اليوم في مقدمتها. شهد السودان الذي قام بعد استقلاله عن بريطانيا عام 1956 على المفهوم المعاصر للدولة الوطنية، شهد العديد من المتغيّرات في نظم الحكم والسياسات، ألقت بظلالها على شرعية وجودها لا بل أثّرت سلباً على فاعليتها. فتراجع دور الدولة وتوقّف تطوّرها نحو المفهوم الحقيقي للدولة الوطنية، واختلّ التوازن ليتقدّم الولاء للقبيلة على الولاء للوطن.
يعدّ إقليم دارفور الغربي الأكثر تاثراً بالصراع القبليّ، يليه إقليم كردفان المجاور له. إذا أردنا التعمّق أكثر في الموضوع، نجد أنّ معظم الصراعات القبلية في إقليم دارفور تُعزى الى النزاع حول موارد الأرض والماء المحدودة في ظل التفجّر السكاني وتزايد أعداد المواشي. وقد تحوّل صراع الموارد إلى نزاع بين القبائل الرعوية الرحّالة ذات الأصول العربية (في مجملها)، والقبائل الزراعية المستقرة ذات الأصول الإفريقي، فاتّخذ شكلاً عرقياً.
ضاعف غياب التنمية في الإقليم من العامل الأول. إذ يكاد معظم المحللين يتفقون على أن إقليم دارفور قد عانى تهميشاً واضحاً من الحكومات المركزية في الخرطوم على مدار تاريخ السودان المستقل، برغم إسهامه الكبير في الدخل القومي السوداني بثرواته الحيوانية والنقدية.
أشعل نار الصراع القبلي تدفق السلاح وانتشاره بسبب الصراعات في دول الجوار ثم جاء أخيراً ظهور الحركات المسلّحة المتمرّدة على الحكومة مؤدّياً إلى استقطاب حادّ للقبائل بين الحكومة والحركات، مما نقل الصراعات القبلية إلى مراحل متقدمة ومعقدة.
تداعيات الصراع
لا يختلف اثنان على أن الصراعات القبلية أضعفت سلطة الدولة وأدّت لتآكلها، وأصبح للقبيلة أهمية أكبر من المؤسسات. لا شكّ أن هذه الحال ستستمرّ لاسيّما في ظل وجود مناطق تسيطر عليها الحركات المسلّحة وتطلق عليها اسم "المناطق المحررة".
الطرق التقليدية لمعالجة الصراعات القبيلة عبر الوسطاء "الأجاويد" لم يعد فعّالاً. فضلاً عن ذلك، أصبح دفع الديات لذوي ضحايا الصراع يُشكّل هاجساً لأهل دارفور لأنّها تشجّع على تفشّي الصراع وتمثّل حافزاً على استمرار القتل في دارفور.
وصفات العلاج
عُقدت في السودان عشرات الورش والمؤتمرات حول الصراع القبلي. حملت خلاصة توصياتها مناشدات للقوى السياسية فى السودان للتعامل مع المشكلة السياسية بجديّة أكبر من أجل إيجاد حلّ توافقي عاجل يوقف الصراعات المسلحة في البلاد ويلبّي طموحات السودانيين. يرتكز الحل الشامل على إعادة الهيبة للدولة باعتبارها السلطة العليا التي لا تعلوها أيّ سلطة أخرى، بالاضافة إلى تبنّي حكم يُؤمّن مشاركة حقيقية لجميع أطياف الوطن، يتمّ من خلاله توزيع مُنصف للثروة والسلطة، وفق معايير موضوعية تقضي على شعور حاملي السلاح بالغبن التاريخي.
كذلك يتبنّى هذا النظام الجديد برنامجاً قومياً لمصالحات بين جميع السودانيين بمختلف إثنياتهم وقبائلهم. وتقوم فيه المصالحات على إنصاف كل من ألحق بضرر بسبب الحروب، أياً كان مصدرها، سواء من قوّات نظامية أو حركات او قبائل.
ولا بدّ أيضاً من العمل على ترشيد الوعي القبليّ وتخليصه من عصبيات الجاهلية والتناحر المدمر والظلم والعدوان وفي الوقت نفسه، مراعاة كلّ أشكال التنظيم الاجتماعي التي تخضع لقوانين اجتماعية تاريخية، تحدد ما هو ثابت وما هو متغير.
يجدر كذلك تطوير النظام الأهليّ وتوظيف القبيلة على نحو رشيد من أجل تحقيق الوظائف الدفاعية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحدّدها استراتيجية بعيدة المدى وفقاً لمبادئ متفق عليها من كل مكوّنات المجتمع السودانيّ. وتبني وتنفيذ سياسات ثقافية تسعى إلى تغيير القيم الثقافية والاجتماعية السالبة، خاصةً في ما يتعلق بصورة الآخر، فضلاً عن الفهم العميق لجذور الأزمة والاعتراف بها.
سيبقي الوضع في السودان مرشّحاً في ظلّ الصراع الحالي إلى فوضى عارمة، قد تشمل المركز أيضاً، إنْ لم تتواضع الحكومة والقوى السياسية السودانية لتبني مبادرات قابلة للحياة والتفاعل، خاصةً بعد ظهور ملثّمين في جنح الليل يمتطون ظهور سيارات رباعية الدفع ويمارسون الضرب والإرهاب ضد مخالفيهم في الرأي، في مشهد صادم ومقلق لسكان العاصمة الخرطوم. وهو ما يعزز مخاوف سابقة بتخطّي العنف القبلي والسياسي الرقعة الجغرافيه التاريخية والتقليدية لحدود الصراع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.