لم تتوقّع الموسيقية الفرنسية السورية، نيسم جلال، عند بدء تعلمها العزف على آلة الفلوت وحتى سنوات المراهقة، أن تكون محطات حياتها مليئة بالموسيقى، وأن تكون ذاخرة بأمكنة وبأقوام يقتفون أثرهم من زمن إلى آخر، بل لم يخطر في بالها أصلاً أن تصير عازفة ومؤلفة موسيقية.
سنوات الطفولة والضواحي الفرنسيّة
كبرت نيسم في منزل تصدح فيه موسيقا عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، في الضواحي الباريسية، حيث الثقافة الطاغية مزيج من تعايش وتجاور غير منتظم لثقافات مختلفة، ما يجمعها هو العيش على أطراف الميتربول، وقدر لا بأس به من العنصرية تجاه كل ما هو "غريب" وغير "مندمج"، كانت تستشعره بسبب ملامحها.
لم تتوقّع الموسيقية الفرنسية السورية، نيسم جلال، عند بدء تعلمها العزف على آلة الفلوت وحتى سنوات المراهقة، أن تكون محطات حياتها مليئة بالموسيقى، وأن تكون ذاخرة بأمكنة وبأقوام يقتفون أثرهم من زمن إلى آخر، بل لم يخطر في بالها أصلاً أن تصير عازفة ومؤلفة موسيقية
في سنوات طفولتها، كان الجوار يضجّ بمهاجرين من أصول مالية، ففتنتها الإيقاعات الإفريقية، لاحقاً ستكون أولى جولاتها الموسيقية مع فرقة "تاراس بولبا" المالية في فرنسا ومالي. أيضاً، في سنوات لاحقة، سنجد أن جلال قد تعاونت مع معظم الموسيقيين الذين يشكلون المشهد الموسيقي الإفريقي في العاصمة الفرنسية: الشيخ تيدان سيك، وشريف سومانو، وماماني كيتا من مالي، وبريس واسي وهيلاري بيندا من الكاميرون، وفاتموتا ديوارا من ساحل العاج.
وفي ذات الحديث عن المنشأ في الضواحي الباريسية، التي تضجّ الحياة فيها بصخب المهاجرين وإيقاعات حياتهم اليومية، نجد أن طبيعة المكان وانكماش الرتابة فيه إلى حد كبير، جعلا نيسم تنشغل طويلاً بمفهوم الارتجال والبحث فيه على المستوى العملي والنظري، حتى وجدت نفسها مع مرور الزمن متعلقة به كأسلوب عمل وطريقة تفكير، مستفيدة قدر المستطاع بما يهبه من حرية وإحساس بالتحدي، أي كما يصفه شارلي شابلن: "الارتجال هو تحد بالمعنى الخلاق للكلمة".
الموسيقى والهوية
في العلاقة بين الموسيقى والهوية، تعتقد جلال التي درست الموسيقى الكلاسيكية والفلسفة، أن "كلاً منهما شكل بوابة للدخول إلى عوالم الأخرى". مروراً بالقاهرة، عادت إلى بلد والديها لتتعلم العزف على آلة الناي على يد أبرز العازفين السوريين، إلا أن الإحساس بالضيق الدائم، نتيجة القيود الأمنية وغياب هامش الحرية جعلها تهجر دمشق بعد ثلاثة أشهر من وصولها، عائدة إلى القاهرة التي لا زالت ترى فيها مدرسة حية للفن العربي، رغم غزارة مشاهد البؤس والإفقار المنتشرين على مد النظر.
شارلي شابلن: "الارتجال هو تحد بالمعنى الخلاق للكلمة"
في سنوات القاهرة الثلاث ستُغني تجربتها بالتعلم على يد أبرز الموسيقيين المصريين، كعازف الكمان الشهير عبده داغر والموسيقي فتحي سلامة، وفيها أيضاً ألّفت أول مقطوعاتها وتعرفت أيضاً على الموسيقيين الصوفيين البارزين، كالشيخ ياسين التهامي، بالإضافة إلى انخراطها في الحراك الموسيقي في مسارح القاهرة، عبر إحياء حفلات عديدة والمشاركة في تأسيس الفرق الشبابية الصاعدة.
أسست عازفة الفلوت السورية فرقة "إيقاعات المقاومة" سنة 2011، صحيح أن التأسيس جاء في سنة الانتفاضات العربية، إلا أنها مفهوم المقاومة عندها يحمل بعداً إنسانياً أكبر، فيرتبط بكل رفض لأي ظلم ممارس وتعدٍ على الحقوق، هو مقاومة للظلم من قبل الأنظمة المجرمة، وفي ذات الوقت مقاومة للعنصرية الصاعدة في فرنسا وغيرها من بلدان العالم.
فصدر لها مع إيقاعات المقاومة ألبومي "أسلوب حياتي" (2015)، و"الموت ولا المذلة" (2017). وعن التزامن بين تأسيس إيقاعات المقاومة وإطلاق الانتفاضات العربية، تؤكد نيسم أن هذا لم يكن مقصوداً تماماً، إلا أن "ما حدث عام 2011 دفعني للانتماء بشكل أكبر إلى سورية، جعلني فخورة بهويتي السورية وبالانتماء لشعبها".
الألبومات والإصدار الجديد
بعد ألبومي "أسلوب حياتي و"الموت ولا المذلة"، تطلق نيسم جلال جديدها "عالم آخر"، سيصدر رسمياً في 5 فبراير، تحاول فيه المؤلفة الموسيقية السورية أن تؤسس عالمها المكون من لغات وأمكنة مترامية على قارات ثلاث، سبق وأن تحدثت في الألبومين السابقين عن نفسها، وعن العالم الذي يعيش داخلها وتعيش داخله. تصفه بـ "عالم مجنون من العنف المتطرّف والجمال العظيم.
هذا العالم هو من يلهمني وسيستمر في إلهامي... عالم بلا حدود، عالم بهويات متعددة ومختارة. عالم يمتزج فيه واحدنا بالآخر باحترام وفضول، بحيث يفسح مفهوم التسامح المجال لمفهوم الصداقة. عالم تتأسس فيه علاقتنا مع الكائنات الحية على التوازن وليس الافتراس، وتتحرر فيه مخيلتنا من "القيم" المادية. هذا هو العالم الآخر الذي يمكننا العيش فيه، إذ لم تمنعنا الحروب والكراهية والمال من تشكيله بطين أحلامنا".
في العلاقة بين الموسيقى والهوية، تعتقد نسيم جلال التي درست الموسيقى الكلاسيكية والفلسفة، أن "كلاً منهما شكل بوابة للدخول إلى عوالم الأخرى"
يبدو "عالم آخر" وكأنه قطعة من شريط متخيل يتوقف فيها العالم عن الدوران وتخرج الكائنات إلى أمها البكر (الطبيعة)، بعد أن أصابت البشرية كارثة ما فأجلستهم في بيوتهم (شبيه جداً بما حدث مع وباء كوفيد-19). تبدأ الكائنات بتأمل جمال ورحابة حيزهم الجغرافي كما يبدأ الطفل بتلمس جسد والدته. تبدأ مقطوعة "صرخة الأرض" بما يشبه دبيب كائنات وصوت مياه تسير، إلى أن تتشكل حياة جديدة متناغمة ومنسجمة مع بعض، عندما تبدأ آلات الخماسي بالحوار مع بعضها.
بعد لحظات نكتشف مع وصول صولو الفلوت إلى الذروة، يتحول هذا التأمل إلى جحيم مع استعادة لكوارث العالم، من مجاعات وحروب وكراهية واستغلال متواصل بحق الطبيعة والإنسان، فنبدأ بسماع أنفاس نيسم مع صوت عزفها، ثم تشرع بالأداء بصوتها والذي يبدو وكأنه صرخة الأرض، صرخة تتماهى فيه نيسم مع الأرض، صرخة لا بد منها، كأنها إن لم تقم بها، فإنها ستختنق حتماً.
تتجه ابنة كفرنبل السورية، في إصدارها الجديد، إلى التأمل أكثر، وتفرد مقطوعاتها الجديدة، أمام المستمع، مساحات للتخيل، كما تحضر تأثيرات صوفية أكبر مما عهدناه في موسيقاها سابقاً. لكن يبقى ولعها بالارتجال هو ذاته، ويصعب وضع تجربتها في قالب ما، أو يصعب معرفة مقدار تأثرها بتجربة مؤلف معين، تبقى تجربة نيسم جلال الموسيقية تشبه حياة نيسم، بتعدد مشاربها وبتعدد ما بقي في ذاكرتها ووجدانها، من بشر وأمكنة ولغات وملابس ونكهات وروائح.
نسيم جلال: "ما حدث عام 2011 دفعني للانتماء بشكل أكبر إلى سورية، جعلني فخورة بهويتي السورية وبالانتماء لشعبها"
يشمل الإصدار الجديد قرصين، يتألف الأول من مقطوعات سبع مسجلة داخل استديو، والثاني هو تسجيل حي مع الأوركسترا الوطنية في بروتان، تحت قيادة زهية زيواني، وفيه خمس مقطوعات، ثلاث منها حديثة التأليف. جميع المقطوعات من تأليف نيسم جلال (فلوت، ناي، صوت)، ويرافقها مهدي شايب (ساكس، سوبرانو)، كارستين هوشبفيل (غيتار، تشيلو)، دارميان فاريون (باس) وأرنولد دولمين (درامز).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...