شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لم أعُد كما كنت قبل 25 يناير... اخترت المواجهة

لم أعُد كما كنت قبل 25 يناير... اخترت المواجهة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 25 يناير 202110:09 ص

أقف أمام المرآة وأنظر إلى التغيّرات التي حلّت على وجهي. أشرد بذهني لأتذكر ملامحي التي كان يملؤها الحماس والبهجة معاً، تلك الملامح التي مرّت بالعديد من التبدّلات، مثلها مثل فترات حياتي التي لم تسر على وتيرة واحدة.

25 يناير تاريخ لا يعني لي فقط الثورة التي لا زالت تحيا فيّ وأحيا فيها. هو تاريخ يعني لي التمرّد، ليس فقط على الحاكم والنظام، أو التشريعات البالية، أو مؤسسات الدولة "المخوخة"، ولكن التمرد على النفس، وكل ما هو مفروض دون أساس يستند إليه العقل، وعلى القوالب المفروضة علينا لنحيا ونعيش فيها.

عشرة أعوام من التمرد... وعلى الرغم من أن الثورة لم تحقق أهدافها، لكنّي لم أعُد كما كنت قبلها. نعم. أصابني التمرد ولم أشفَ منه حتى الآن. عشت محطات منه كان مفتاحها وكلمة السر فيها 25 يناير.

قبل ذلك التاريخ، كنت فتاة عادية جداً. بدأت نشاطي في الشأن العام قبل عام واحد من الثورة، بعد انتهائي من فترة دراستي الجامعية. التحقت بإحدى الحركات الشبابية، في تجربة جديدة وملهمة بالنسبة إليّ، لكنها ظلّت سراً أخفيه في داخلي، خوفاً من وصوله إلى أسرتي البسيطة التي تسكن في منطقة شعبية، ففي تلك المناطق البسيطة هذا أمر غير مقبول، و"عيب" أن تشارك الفتاة في أي شيء يخص السياسية، خوفاً من أن تطالها يد الأمن فيتم انتهاكها جنسياً، كما رسّخت أعمال الدراما والسينما في أذهان أبنائها.

أخفيت تلك التجربة بأسرارها في داخلي، حتى جاء اليوم الموعود. صار تواجدي في الشارع وسط زملائي فرض عين. خرجت من منزلي في الصباح الباكر، غير مهتمة بموعد العودة إليه والذي كان محدداً لي ولا يمكن تجاوزه. نعم، قررت المواجهة.

منذ ذلك التاريخ لم أتراجع عن قراري في المواجهة. لم تعد عندي أسرار لأخفيها. نعم، دفعت أثمان هذه المواجهة والدفاع عمّا أراه صحيحاً، ووصل الأمر إلى حد اتهامي بالإلحاد والجنون من قبل أفراد أسرتي ومحيطها. حافظت على سلامتي النفسية والعقلية واستمرّيت، فلم أعد أتحمّل أن أسير في طريق أراه خطأ وبه عوار لمجرد فقط أنه مرسوم لي ومَن حولي يسيرون فيه.

مع ثورة يناير، بدأت حياتي تأخذ منعطفاً جديداً. أولى المواجهات كانت إفصاحي عن مشاركاتي السياسية، الأمر الذي دفعتُ ثمنه غالياً، فقد اختار كثيرون من أصدقاء الدراسة والطفولة أن ينهوا علاقتهم بي لأني بالنسبة إليهم أصبحت شاذة عن القاعدة. أما على المستوى الأسري، فقد رأوا أن العنف من الممكن أن يكون الطريق الأمثل والأسهل حتى أعدل عن هذا الطريق، لكن في الحقيقة لم يولّد التعنيف الذي تعرّضت له إلا إصراراً وعناداً على المضي قدماً في طريقي الذي رسمته لنفسي.

"25 يناير تاريخ لا يعني لي فقط الثورة التي لا زالت تحيا فيّ وأحيا فيها. هو تاريخ يعني لي التمرّد، ليس فقط على الحاكم والنظام، أو التشريعات البالية، أو مؤسسات الدولة ‘المخوخة’، ولكن التمرد على النفس، وعلى القوالب المفروضة علينا"

انتهت أيام الثورة، ومرّ الوقت وبدأت مساحات النقاش تتسع، سواء على مستوى منصات التواصل الاجتماعي أو في الجلسات والاجتماعات أو حتى في لقاءات الأصدقاء، وفي كل مرّة كنت أرى أن في داخلي آراء مغايرة لما أعيشه، آراء رافضة للقالب الذي وُضعت فيه، ولنمط حياتي، رافضة حتى للموروثات المجتمعية والعادات والتقاليد ولكلمة "عيب" غير المستندة إلى تفكير منطقي وعقلاني... تلك أشياء تربينا عليها حتى لا نخرج عن المألوف.

ثاني المواجهات كانت اعترافي بأني أعمل صحافية. نعم. التحقت بالتدريب في موقع صحافي دون علم أسرتي التي رفضت الفكرة من الأساس، وأجبرتني على العمل في إحدى الشركات بعد تخرجي، لكنّي لم أجد نفسي فيها، ووجدت نفسي في مجال الصحافة، المجال الذي من خلاله أستطيع أن أعبّر عن أوجاع المجتمع الذي أعيش فيه.

كانت أمي ترفض الأمر برمته وتستنكره، ووصل الأمر بها إلى أنها قررت حبسي في المنزل لفترات تعرّضتُ فيها للكثير من العنف. لكنّي لم أتراجع. في الحقيقة لم يكن لديها أي سبب للرفض سوى الخوف، هذا الشيء الذي لا أعرفه ولا أحب أن يجعلني رهينته، كل محاولتها معي باءت بالفشل وانتصرَت إرادتي.

"قبل 25 يناير، كنت فتاة عادية جداً... بعده قررت المواجهة... لم أعد أتحمّل أن أسير في طريق أراه خطأ وبه عوار لمجرد فقط أنه مرسوم لي ومَن حولي يسيرون فيه"

المواجهة الثالثة التي قررت خوضها أمام نفسي وأهلي هو رفضي لارتداء الحجاب. جلست مع نفسي لأتذكّر متى قررت ارتداءه. حاولت أن أتذكر هذا القرار، لكنّي لم أنجح لأنّي في الأساس لم أقرر. ارتديت الحجاب بالأمر المباشر، مثل الكثيرات من الفتيات في المناطق الشعبية التي يرى الأب فيها أن ابنته شبّت ومن غير اللائق اجتماعياً أن تخرج من البيت "بشعرها" فيقرر أن يجعلها ترتدي الحجاب، دون حتى أن يعرف رأيها إنْ كانت موافقة أم لا.

مع الوقت، قررت أن أخرج عن هذا المسار، قررت أن أخلع الحجاب، وبدأت أفكر في طريقة التنفيذ، ولم أجد سوى "المواجهة". لم يسألني أحد عن رأيي في ارتدائه، فلماذا أنتظر رأيهم في خلعه؟ ذات يوم، خرجت من منزلي إلى مصفف الشعر، وعدت إلى المنزل في المساء دون حجاب، لتكون مفاجأة لأسرتي ومواجهة.

مرّت أيام صعاب. اتهمني البعض بالإلحاد والبعض الآخر بالجنون. منذ ذلك الوقت، بدأت مناقشاتي الساخنة في بعض القضايا التي عادة ما كانت تنتهي بتوبيخي وبتوجيه اتهامات من قبل أفراد الأسرة والمحيطين.

مع كل سنة مرت عليّ منذ الثورة، صرت أؤمن أكثر فأكثر بكل ما يخص الحريات والحقوق. قبل الثورة لم أتخيّل يوماً أن أدافع عن العلاقات العاطفية، فقد تربيت في بيئة تعتبر أن مجرد الصداقة بين الجنسين غير محببة ولا تجوز، لكن بعد الثورة ومع وقت من التفكير رأيت أن الإنسان وحده هو مَن يقرر حياته، وهو فقط من حقه أن يختار مسارها وعلاقاته الشخصية، وأصبحت أرى أن العلاقات الشخصية لا يحق للمجتمع أن يقول رأيه فيها، سواء بالقبول أو الرفض، ولا حق له في تقيمها، فهي مساحة ليس من حق أحد أن يتجاوزها.

باركتُ كل العلاقات التي نشأت حولي، حتى دخلتُ في علاقة وجدت فيها كل المشاعر الدافئة التي أبحث عنها. انخرطت فيها ولم أخفِ مشاعري، لأدخل في مواجهة جديدة. كنت صريحة جداً إلى حدّ وصفَته أمي بـ"البجاحة". نعم. أنا أحب، فمشاعري تجاه شخص وعلاقتي به ليست عيباً حتى أخفيه. هكذا أرى، لكن أمّي كانت ترى عكس ذلك. مواجهة دامت لعاميين مررت فيها بضغوط نفسية شديدة، حتى كللت علاقتي الجميلة بالزاوج، وأخترت يوم التنحي عن الحكم ليكون يوم زواجي.

توالت الأحداث والمواقف. أحسست أمام كل قضية تُثار وتتحدث عن الحريات والحقوق أن على عاتقي مسؤولية الدفاع عن المظلومين حتى وإنْ كان دفاعي لا يتجاوز سوى كلمات وجمل أكتبها على حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي.

في كل مرة، كنت أرى أن الانتصار لا بدّ أن يكون للعقل والمنطق وليس للموروثات والعادات والتقاليد. صار التضييق يشتدّ سواء من المجتمع أو من القوانين التي تتحدث عن الحياء والقيم الأسرية، تلك الكلمات المطاطة التي أصبحت كالحبل الملفوف على رقابنا، ليس لها أساس واقعي سوى إطار وضعه المجتمع وتتوارثه الأجيال وتزيدها صعوبة وتفرضها على مَن يأتون بعدها.

انتهت ثورة يناير ولم يتحقق شيء، لكنّي بالتأكيد لم أعد كما كنت قبلها. أطلقت العنان للعقل والمنطق الذي في كل مرة يؤكد لي أن الحقوق لا بدّ أن تُنتزع وأن الحريات تستحق أن نخوض في سبيلها الكثير من المعارك حتى ننتصر، فلا يوجد شيء أفضل من المواجهة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image