لم يُذكر اسمه في القرآن إلا ثلاث مرات، جميعها في سورة واحدة، وحكايته مرتبطة بنبيّ واحد. تشابها في الاسم، وفي الكواليس المحيطة بولادة كلّ منهما في زمن فرعون غاشم، علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، حتى وسيلة النجاة التي لجأت إليها والدة كل منهما تقترب من الأخرى ولو بصورة مغايرة.
النبي هو كليم الله موسى بن عمران، وشبيهه في أمور شتى هو موسى بن ظفر المعروف بالسامري، والمذكور في سورة "طه" بقوله تعالى: "قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ"، و"وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ"، وأخيراً: "قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي".
السامري... نشأة في كنف الله برعاية جبريل
تتفق أغلب المرويات، إن لم يكن كلّها، على أن السامري يُدعى موسى بن ظفر، باستثناء بعض الروايات التي تقول "إنه كان صائغاً واسمه ميخا" بحسب "تفسير الخازن والبغوي".
وُلِدَ السامري في السنة التي كان يقتل فيها فرعون الذكور، فوضعته أمّه في كهفٍ خوفاً عليه، فبعث الله إليه جبريل ليربّيه ويغذيه. تلك الرواية يسردها ابن جرير في "تفسير الطبري" بقوله: "لما قتل فرعون الوِلدان، قالت أمّ السامريّ: لو نحيتُه عني حتى لا أراه، ولا أرى قتله، فجعلتْه في غار، فأتى جبرائيل، فجعل كفّ نفسه في فِيه، فجعل يُرضعه العسل واللّبن (وفي رواية أخرى السمن والعسل).
الرواية ذاتها يؤكدها القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"، بقوله: "اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَر، يُنْسَبُ إِلَى قَرْيَةٍ تُدْعَى سَامرةَ. وُلِدَ عَامَ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ، وَأَخْفَتْهُ أُمُّهُ فِي كَهْفِ جَبَلٍ، فَغَذَّاهُ جِبْرِيلُ فَعَرَفَهُ لِذَلِكَ".
واختُلِفَ في مكان نشأته، ففي تفسير "الخازن والبغوي" برواية عن ابن عباس قال فيها: "قيل كان من أهل ماحرا، وقيل كرمان، وقيل من بني إسرائيل من قبيلة يُقال لها السامرة، وكان من قومٍ يعبدون البقر، فلما رأى جبريل على ذلك الفرس، ورأى موضع قدم الفرس يخضرُّ في الحال، فقال في نفسه إن لهذا لشأناً".
تؤكد الروايات أن السامري فعل فعلته متعمداً ضلال بني إسرائيل في غياب نبيهم موسى، فَقَالَ: "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى" فعطفوا عليه وأحبّوه
تلك المرويات على إجماعها تؤكد أن السامري نشأ في كنف جبريل ــ عليه السلام ـ في الوقت الذي تكفل فرعون بتربية النبيّ موسى في صغره، حين التقطه آل فرعون من اليمّ، و" قَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً" (القصص 9).
تلك المفارقة بين الموسيين (موسى بن ظفر/النبي موسى بن عمران) ألهمت قريحة الشعراء فصاغوا بيتين يعبران عن تلك المفارقة، ذكرهما الزبيدي في "تاج العروس": "إِذَا الَمرْءُ لَمْ يُخْلَقْ سَعِيداً مِنَ الأَزَلِ/ فَخَابَ مَرَبِّيهِ وَخَابَ الُمؤَمَّل/ فَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرٌ/ وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَل".
موسى السامري ضد موسى النبيّ
تقول المصادر إن علاقة السّامري بالنبي موسى، بدأت عندما مرّ كليم الله ومن معه بفئة تعكف على عبادة العجل، فقال له قومه: "اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ"، فردّ عليهم بحسم: "إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"، حتى أتى يوم الميعاد، الذي يترجم وعد الله لنبيِّه بأن يكلمه، فذهب تلبية لنداء ربّه، تاركاً أخاه هارون خليفةً على قومه، حينئذٍ ظهر السامري.
ويروي ابن جرير في "تفسير الطبري": "عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كَانَ السَامِريُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا فَضَلَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: أَنْتُمْ قَدْ حُمِّلْتُمْ أَوْزَاراً (أَمْتِعَةً وَحُلِيّاً) مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ (آلِ فِرْعَوْنَ) فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، فَإِنَّهَا نَجَسٌ. وَأَوْقَدَ لَهُمْ نَاراً، فَقَالَ: اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا. قَالُوا: نَعَمْ. فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَذَلِكَ الْحُلِيِّ، فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَكَسَّرَ الْحُلِيُّ فِيهَا وَرَأَى السَّامِرِيُّ أَثَرَ فَرَسِ جِبْرِيلَ أَخَذَ تُرَاباً مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّارِ فَقَالَ لِهَارُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أُلْقِيَ مَا فِي يَدِي؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَالْأَمْتِعَةِ. فَقَذَفَهُ فِيهَا فَقَالَ: كُنْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ. فَكَانَ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ".
تؤكد الروايات أن السامري فعل فعلته متعمداً ضلال بني إسرائيل في غياب نبيهم موسى، فَقَالَ: "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى" فعطفوا عليه وأحبّوه: "يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبَعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى". ويروي ابن عباس أن هارون أقام "فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يَفْتَتِنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَتَخَوُّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قُولِي)".
وتمت المواجهة بين السامري وموسى بن عمران، فسأله النبي: "فَمَا خَطبك يَا سامريُّ"، فأجابه: "بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ، فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي". ويرى السمعاني في تفسيره أنه "إن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرف هَذَا؟ وَكَيف رأى جِبْرِيل من بَين سَائِر النَّاس؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن؛ أَحدهمَا: أَن أمّه لما وَلدته فِي السّنة الَّتِي كَانَ يقتل فِيهَا الْأَنْبِيَاء، وَضعته فِي كَهْف حذراً عَلَيْهِ، فَبعث الله جِبْرِيل ليربّيه ويُغذيه لما قضى الله على يَده من الْفِتْنَة، فَلَمَّا رَآهُ عرفه وَأخذ التُّرَاب. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن جِبْرِيل كَانَ على فرس حصان أبلق، يُسمّى فرس الْحَيَاة، وَكان كلما وضع (الفرسُ) حَافره على مَوضِع أَخْضَر مَا تَحت حَافره، فَعرف أَنه فرس الْحَيَاة، وَكَانَ سمع بِذكرِهِ، وَأَن الَّذِي عَلَيْهِ جِبْرِيل، فَأخذ القبضة".
هناك روايات تنفي قطعياً وجود أيّ دلالة لقصة موسى مع فرعون على النقوش والبرديات المصرية، مما حدا بالبعض اعتبار القصة برمتها أمراً رمزياً فقط
ثم تنتهي قصة السامري مع النصّ القرآني وتفاسيره بالدعوة التي دعاها موسى عليه بقوله: "فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس"، ويقول إبراهيم الإبياري في كتابه "الموسوعة القرآنية": "لا مِساسَ علم للّمس، أي لا أمس شيئاً ولا يمسني شيء طول الحياة، يعنى أن موسى نفاه عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه عقوبة له، وهكذا جعل موسى عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه".
السامري... ساحر مصري يدافع عن نفسه
"أصل الحكاية، سأقصها عليكم أنا السامري، أنا الساحر العليم، فاستمعوا لما أقول: ترّددتْ في البلاد حكايات موسى وفرعون، ووصلت لأسماعِنا التحديات والمعارك الكلامية المتبادلة التي كانت تحدث بينهما (...) وجاءتنا الأوامر للذهاب للمدينة التي يعيش فيها فرعون، لننضمّ له ضد موسى. كان هذا في الظاهر، أما في الحقيقة فقد كنا نُخفي مكراً وخطةً مُبيّتة ومُدبّرة للوقوف بجانب موسى وهزيمة فرعون. فعندما أكرهنا فرعونُ على القيام بتجربة السِّحر ضدّ موسى، قبلنا تبعاً للخطة الموضوعة، ثم ساومناه بأن لنا أجراً إن كنا نحن الغالبين، فوافق وزاد بوَعد أن نكون من المقربين".
بتلك الكلمات، حاول الباحث عاطف عزت استحضار روح السامري، ليروي القصة بنفسه مستنداً على ما اطّلع عليه من نصوص في "الجبتانا/ أسفار التكوين المصرية" التي جمع أصلها اللاهوتي الديموطيقي، المؤرخ مانيتون السمنودي، برواية الراهب أبيب النقادي، وعدد من البرديات الأخرى، بحسب زعمه في كتابه "السامري... الساحر المصري الذي أسس الماسونية".
أما عن قصة العجل، فيروي عزت بطريقته "الاستحضارية"، أن السامري قال عنها: "لم أقصد أو أتعمّد خلق إله، فقد كان في إمكاني ادعاء الألوهية بدلاً من خلق إله، أو حتى ادعاء النبوة، خاصة وموسى غير موجود، وهارون ضعيف، والشعب تحت أمري؛ لكن هذا لم يحدث، لهذا صدقني موسى، كما أنه لم يُدهش أو يستغرب لما قلتُ، بل إنه حتى لم يسألني عن ماهية تلك القبضة التي قبضتها، ولا عن أثر الرسول، فهو كان يعرف تلك المفردات، ويعلم قصدي جيداً (...). الغريب أن موسى لم يقدر أن يتهمني بالفتنة، واتهم ربَّه قائلًا: "إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ".
موسى وفرعون في علم المصريات... أين الحقيقة؟
قصة فرعون موسى لم تُذكر بهذا الشكل التفصيلي إلا في الكتب المنزلة، وما تلاها من تفاسير شارحة ومُبيّنة، رغم حدوثها في زمن المصريين القدماء، أو ما يُطلق عليهم "الفراعنة".
ويقول ميروسلاف بارتا، أستاذ الآثار المصرية ومدير المعهد التشيكي للآثار ببراغ، في حديث له: "عندما يتعّلق الأمر بالمصادر المصرية ليس لدينا أي دليل على وجود شخص يدعى النبيّ موسى، ومع ذلك هذا لا يعني أنه في المستقبل، لا يمكننا العثور على أدلة أثرية حول تلك الشخصية".
وهو الأمر الذي يتفق معه غالبية الباحثين في علوم المصريات، مثل الدكتور زاهي حواس، الذي ينفي قطعياً وجود أيّ دلالة لقصة موسى مع فرعون على النقوش والبرديات المصرية، مما حدا بالبعض اعتبار القصة برمتها أمراً رمزياً فقط، ووجودها في الكتب المقدسة مُجرد دلالة لاستخراج الحكمة بشكل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...