البحث المعجمي في اللغات الأفرو-آسيوية، وبخاصة علاقة اللغة المصرية القديمة باللغة العربية، للأسف مازال في المهد، ليس فقط في الدراسات العربية، بل أيضاً في الدراسات الغربية التي تغاضت عن العلاقة اللغوية الوثيقة التي تربط ما بين المصرية القديمة والعربية، بوصفهما تنتميان إلى عائلة اللغات الأفرو-آسيوية، فلم تعتن أجيال من الباحثين المصريين والعرب بكيفية بلورة مناهج علمية تنأى عن الشوفينية المفرطة لصالح اللغة العربية.
فسر بعض الباحثين العرب الآية القرآنية: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"، على أنها تعني أن جميع كلمات القرآن عربية خالصة، وليس لها أصل في أي لغة أخرى تسبقها أو تعاصرها، كاسم النبي موسى الذي اعتبر اسماً أعجمياً معرباً
فقد رفض كثير من الباحثين فكرة التلاقح المعجمي والنحوي ما بين اللغة العربية الفصحى ولغات الشرق الأوسط القديم، بدافع ديني متزمت يشوبه التكلف والتعصب الديني السطحي. حيث رفضت بعض الآراء الإقرار بمثل هذه الكلمات ذات الأصل غير العربي، وتشددت في إثبات أصلها العروبي، لتبرير الفهم الشخصي عند البعض للآية القرآنية: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"، فهذه الآية تم تأويلها على أنها تعني أن جميع كلمات القرآن عربية خالصة، وليس لها أصل أو مرادف في أي لغة أخرى تسبقها أو تعاصرها تاريخياً، وهو أمر ينمّ عن عدم وعي بالطبيعة الخاصة بتطور اللغات ونشأتها.
وفي هذا المقال إضاءة على أحد هذه الألفاظ المختلف على معناها وأصلها، وهو اسم النبي "موسى"، لنتعرف على تعدد معانيه بين اللغات المصرية القديمة والعبرية والعربية.
"موسى" عند فقهاء اللغة العربية
اتفق كثير من فقهاء المعاجم العربية أن اسم النبي موسى هو اسم أعجمي ممنوع من الصرف وأنه مشتق من العبرية، غير أنهم اختلفوا في معنى الكلمة واشتقاقها، فمنهم من قال إنه مشتق من فعل "موشه" بمعنى جُذب وانتُشل، مجازاً عن انتشاله من اليم وهو صبي في المهد، حسب عبد العظيم الشاعر، في كتاب "الأعلام الممنوعة من الصرف في القرآن الكريم"، غير أن أبي المنصور الجواليقي في كتابه "المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم" خالف هذا الاشتقاق، قائلاً: "مُوسَى اسم النبي صلى الله عليه وسلم: أعجمي معرب. وأصله بالعبرانية مُوشَا. فمُو هو الماء وشا هو الشجر، لأنه وُجد عند الماء والشجر. قال أبو العلاء: لم أعلم أن في العرب من سَمَّى موسى زمان الجاهلية. وإنما حدث هذا في الإسلام لمَّا نَزَل القرآن، سمَّى المسلمون أبناءهم بأسماء الأنبياء على سبيل التبرّك، فإذا سموا بموسى فإنما يَعْنون الاسم الأعجمي، لا موسى الحديد، وهو عندهم كعيسى"، وهو ما أفترضه أيضاً محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، في كتابه "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، قائلاً: "اسم معرَّب أصله مُوشا، ومُو بالعِبْرِيّة الماء، وشا الشَّجَر، سمّي به لأنه وجد في الماء والشجر الذي كان حول قصر فرعون في عين الشمس، وهي موضع معروف بمصر لا يَنْبُت شجر البَلَسان إلا فيه".
رفض كثير من الباحثين فكرة التلاقح المعجمي والنحوي ما بين اللغة العربية ولغات الشرق القديم، بدافع ديني متزمت يشوبه التكلف والتعصب الديني
في اللغة المصرية
ويبدو أن مثل هذه التحليلات لم تقنع ويليام جسنيوس، في قاموسه عن ألفاظ التوراة القديمة William Gesenius A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament، الذي قدم افتراضاً آخر مفاده أن اسم موسى مُشتق من كلمة هيروغليفية أصيلة بمعنى الطفل الوليد وتُكتب "مس" ، فالكلمة الهيروغليفية ، مس وفقاً لقاموس برلين للمفردات المصرية القديمة تعني "مولود رضيع"، وعادة ما تنتهي بصورة غير منطوقة لطفل يضع أصبعه في فمه، والكلمة مشتقة في الأساس من الفعل المعتل الآخر (مسي) بمعنى "تلد أو تضع مولوداً"، وعادة ما ينتهي الفعل بصورة غير منطوقة لامرأة يخرج من أسفلها طفلاً،بحسب ما يذكر قاموس Wörterbuch der ägyptische Sprache، الذي حرر من قبل von Adolf Erman and Hermann Grapow.
جدير بالذكر أيضاً أن كلمة ماء في الهيروغليفية تكتب- (مو)، وكلمة (شا) في العبرية تقابلها في الهيروغليفية كلمتان، الأولى تنتهي بصورة الشجرةلتعني شجرة، والثانية تنتهي بمخصص النباتات لتعني أحراش الدلتا النهرية، حسب نفس المرجع، فكلا الكلمتين العربية والعبرية موسى - موشى مشتقتان من اللغة المصرية القديمة، ومازال المعنى المصري القديم كامن فيهما. وتجدر الإشارة أن الكتابة المصرية القديمة في الأغلب وليس دائماً، لا تهتم بتسجيل الحركات التي تصاحب النطق الفعلي للكلمات وتكتفي فقط بالسواكن.
ماذا عن قصة النبي موسى؟
من الجدير بالذكر أنه لم يتم العثور على أي دليل تاريخي من الحضارة المصرية القديمة يؤكد أحداث قصة النبي موسى المذكورة في العهد القديم والقرآن، ويلهث الكثيرون خلف السراب عندما يعتبرون النصوص الدينية مصدراً من المصادر العلمية لكتابة تاريخ حضارات ما قبل الإسلام في الشرق الأوسط القديم، مدفوعين بمعتقداتهم الدينية، فقد ينزعج الكثيرون حينما يعلمون بعدم وجود أي دليل تاريخي أو أثري يبرهن على وجود أنبياء القرآن والعهد القديم مثل: إبراهيم، إسحاق، إسماعيل، نوح، حام، سام وكثير غيرهم، ومن يناصرون مثل هذه التوجهات الشوفينية لن يستطيعوا منع اصطدام هذه النصوص الدينية مع علوم تتنامى فروعها بشكل متسارع بعيداً عن فلك هذه المسلمات الدينية.
هل يوجد دليل من الحضارة المصرية القديمة يؤكد قصة النبي موسى المذكورة في العهد القديم والقرآن؟
فمثل هذه التوجهات تجعل من النصوص الدينية ضحية للجهل وللتعصب الأعمى، وتبتعد عن الغاية الأسمى لهذه النصوص المقدسة، وهي العظة والعبرة لتطهير الروح من الشرور وحث الإنسان على عمل الخير لكل نفس تحيا، بغض النظر عن دينها أو لونها أو جنسها أو لغتها.
نود الإشارة إلى أنّ المقال هو جزء من بحث أوسع يعدّه الدكتور رشوان لننشر في مجلة أكاديمية
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...