كشفت الثورة السورية اللثام عن تناقضات جمة كان مسكوتاً عنها في المجتمع السوري، وأفضت إلى سلسلة متنامية من التشظّي الذي يختلف الناس في طرائق تلقّيه وتأويل أسبابه ونتائجه ومآله المستقبلي. ومهما تباينت المواقف يبقى الجامع المشترك بين السوريين هو الانتظار والترقّب والقلق.
أدّت اللحظة الثورية الأولى إلى إحداث أول تشظٍّ في المجتمع السوري، وهو تشظٍّ يعكس تحوّلات بنيوية موجودة بالقوة، ورسخت سياسياً واجتماعياً عبر عقود طويلة، لتؤدي الثورة إلى انتقالها إلى الوجود بالفعل ضمن استقطاب حاد وغير مسبوق في التاريخ السوري.
يبدو الانقسام الأول ثنائي الحد، ويراه كثيرون ثلاثي الحد، أي إن هذا الانقسام ولّد ثلاثة أطراف متناحرة في سوريا: الموالين للسلطة، والمعارضين لها أو (الثوريين/ والمعارضين) إذا أردنا التمييز الدقيق في المصطلحات، بينما كان هناك طرف ثالث أقرب إلى الحياد السلبي، أو الرمادية المنحازة سراً، أو براغماتية انتظار نتائج ما ستفضي إليه المواجهة بين الطرفين المتحاربين.
التأسيس للقتل
لم يوفّر أي طرف فرصةً لكيل الاتهامات المباشرة أو المبطنة لخصومه، وكان يتم التأسيس للقتل في الواقع عبر القتل المعنوي في كل مناسبة تتواجه فيها الأطراف، ولا سيما عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى ليبدو مع هذا أن استحالةً حقيقية تمنع اجتماع تلك الأطراف في وطن واحد في قريب الأيام.
وهذا الانقسام الظاهري ينطوي على تشظٍّ داخلي عميق التناقضات، فالأطراف الثلاثة السابقة تبسط بنيوياً انقسامات ضمنية مشتتة تجعل الشروخ تحفر عمودياً في ما بدا لأول وهلة انقساماً أفقياً فحسب، حيث ظهر بعدٌ طائفي للصراع، ثم بدأ يظهر بعدٌ قومي بعد فترة من اندلاع الثورة، ليكون البعد الأعمق والمنسي في الأغلب هو البعد الطبقي القديم/ الجديد.
كانت السلطة حريصةً منذ البداية على بناء الأسوار الحاجبة ومنع اللقاء، وكانت الورقة الأثيرة بالنسبة لها هي اللعب على قضية "حماية الأقليات"، وأن الثورة "سنّية سلفية متطرفة" تريد ذبح الآخرين وطردهم من البلد، ولأن الدم أعمى وحارٌّ جداً انقاد الكثيرون إلى هذا الاصطفاف الذي أفرز بعد التدخل التركي اصطفافاً قومياً حاداً أيضاً بين العرب والكرد، بينما كانت نسبة كبيرة من أغنياء دمشق وحلب وبقية المدن تفضّل الحفاظ على مصالحها ومكتسباتها الطبقية -منذ البداية- بدلاً من الانجرار خلف مغامرة غير محسوبة النتائج.
إن انقسامات منفجرة كهذه الانقسامات، أعادت -من دون إمكانية دقيقة لوضع فواصل حدّية بين الجماعات المتناحرة والزمر المتشظية- رسم محاور الصراع وتمزق البنية الاجتماعية وتخلخل الرابط الوطني المفترض والهوية السياسية الجامعة، ولا سيما عندما بدا أن هناك انقساماً حاداً وحساسيات متوارثة ومترسخة أيضاً بين مراكز المدن وأريافها، وحتى بين البلدات المتوسطة والصغيرة وتوابعها، وربما إلى حد كبير بين الأحياء الغنية والضواحي والعشوائيات المتبعثرة والفقيرة.
شروخات طارئة
لم يقف الصراع والتشظي عند هذا الحد القابل للوصف الاصطلاحي والضبط المفهومي، حيث أفضت تداعيات الثورة ببعدها الحربي إلى ظهور سلسلة من الانقسامات الشديدة والحساسيات الطارئة اجتماعياً، فأولاً تشكل شرخٌ غير قليل بين أهل الداخل السوري، بغض النظر عن مواقفهم واصطفافاتهم، وأهل الخارج من نازحين ولاجئين إثر الأحداث، ومن مغتربين قبل الأحداث في الأصل، وأصبح مكان الإنسان الجغرافي عاملاً معيارياً في تفسير الكثير من آرائه ومواقفه واتجاهاته، وفي تأويل متكرر يتراشق عبره كثيرون تهماً مغذية لجذوة الصراع والتشتت وإعادة نثر التوضعات في ما يبدو فعلاً عشوائياً بحتاً.
"التغييرات الكبرى هي في جوهرها كيفيات مفترسة ومتطلبة إلى أقصى الحدود، وحياة الشعوب وحركية التاريخ تسحق في تحولاتها الجذرية الأفراد مع الأسف، لهذا توصف الثورة بالجلال لا بالجمال"
يتهم البعض ممّن في الخارج كل مَن بقي في سوريا بأنه "شبيح موالٍ"، أو قابل بالإذلال وعديم الكرامة والضمير، وهذا تعميم مذموم ومتهافت بالتأكيد، كما أن اتهام جميع مَن في الخارج من السوريين بالفرار المتعمد -كأن ما حدث هو كارثة طبيعية ابتلانا بها القدر- واتهامهم بالخيانة وقبض الأموال بالدولار والتبعية لأجهزة مخابرات دولية، هي اتهامات تعميمية مذمومة وقبيحة ومتهافتة. وانعكس هذا الاستقطاب المسعور على مجمل القضايا والأحداث وحتى مناسبات الوفاة في تقسيم الناس والحكم عليهم وعلى آرائهم ومواقفهم بما يشبه الهيستيريا الجماعية.
أيضاً، ظهر تشظٍّ جديد آخر إثر التداعيات السياسية الداخلية على الأرض السورية، فبدأ استخدام مصطلح "سوريا المفيدة" للإشارة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، لتكون "سوريا غير المفيدة" هي إما ما تدعى "المناطق المحررة"، أو -ولسخرية المفارقة- أغنى المناطق السورية بالثروات الباطنية والزراعية، أي منطقة الجزيرة السورية التي باتت تدعى اصطلاحاً "شرق الفرات". وبين هذه الحدود مختلفة السلطات تباينات كثيرة في تصريف حاجات الحياة المعيشية، وفي الأسعار، وفي العملة المتداولة أيضاً.
وفي العودة إلى الانقسام التقليدي (موالاة/ معارضة)، نجد أن تطور الأحداث أفضى ضمن البنية الضيقة للفاعلين السياسيين في الطرفين إلى اصطفافات تابعة للدول المحتلة لسوريا، أو المؤثرة إقليمياً وعالمياً على الملف السوري، فنجد في مراكز قوى السلطة في دمشق تيارات محسوبة على روسيا، وتيارات أخرى محسوبة على إيران، ونرى في قوى المعارضة مَن يُحسب على تركيا، ومَن يُحسب على السعودية، ومَن يُحسب على قطر.
حدّية وأصولية
لا يتوقف التشظي عند هذا الانقسام، بل يُنتج أتباعاً لكل تيار يتّسمون بالحدّية والأصولية، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار نجد مَن يرفض الحل السياسي من جميع الأطراف، ولعلّ الموقف العنيف من الائتلاف السوري المعارض وهيئة المفاوضات واللجنة الدستورية يأتي أساساً من داخل خط الجمهور المؤيد للثورة، والذي ينطوي رأيه، في الغالب، على رؤية صراعية واختلافية حول أداء هذه القوى بين القبول -الضيّق والنسبي، وربما على مضض- بدعوى ممارسة السياسة الواقعية بوصفها فن الممكن، والرفض الذي يبدو عريضاً ويصل إلى حدود التخوين والتهديد والوعيد.
"طيّ الأمور على ما هي عليه يعني رعاية وصفة الغرغرينا التي لن تتأخر في نقل العفن إلى كامل الجسد السوري من جديد، ومرةً تلو مرة"
جميع السوريين ضحايا التشظي، وجميع السوريين ضحايا الانتظار والخوف والقلق، وجميع السوريين بحاجة إلى ضمادات للروح والقلب والجسد والمعيشة والأمل بالغد، لكن الحديث عن التمزق والتشتت البنيوي والصراعات متعددة الطبقات والأبعاد ينبغي أن يحيلنا إلى فهم ما فوق المباشر، وما بعد الظاهري؛ بمعنى أن توليد التشظي في فلسفة الاختلاف يعني فتح فجوة تاريخية جديدة تؤدي إلى التباعد والانزياح وإعادة تكوين البنية وتوزيع الثروة.
ما يحدث الآن بوصفه شظايا ألم وانتظار وتشتت له بعد دموي مريع، وهو بعد ينتمي إلى تفكك الفكرة الوطنية السورية التي يبدو أنها لم تولد بعد، ويرى الكثيرون أن الثمن المبذول -حتى الآن- في سبيل الحرية والعدالة وتداول السلطة فوق التصور والمقبول والمنطقي، غير أن انفجار الثورات -أصلاً- يأتي نتيجة انسداد المستويات السياسية والاجتماعية واستعصائها، والتغييرات الكبرى هي في جوهرها كيفيات مفترسة ومتطلبة إلى أقصى الحدود، وحياة الشعوب وحركية التاريخ تسحق في تحولاتها الجذرية الأفراد مع الأسف، لهذا توصف الثورة بالجلال لا بالجمال.
بين تشظي الوحدة ووحدة التشظي تبدأ لملمة نزيف الانتظار، وخلق عقد اجتماعي جديد وأصيل ومستدام، وهذا ما يطمح إليه أي عاقل من السوريين مهما تباينت الرؤى والآراء والاصطفافات، وقد يتطلب الأمر وقتاً غير قصير، لكن طيّ الأمور على ما هي عليه يعني رعاية وصفة الغرغرينا التي لن تتأخر في نقل العفن إلى كامل الجسد السوري من جديد، ومرةً تلو مرة، لذلك -وحتى نكون أوفياء لضحايا التشظي السوري من المنتظرين لغد أفضل- لا بد من تحقيق المعادلة الخلاقة بين الموقف الإنساني التراحمي والأخلاقي لمصلحة كل السوريين من دون استثناء، والانتقال السياسي الحقيقي والجدي وتطبيق العدالة الانتقالية سعياً لتشييد دولة مؤسسات ديمقراطية معاصرة بعيداً عن المحاصصات الضيقة والرخيصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...