باختلاف الظروف، لا يزال كل من العراق وسوريا يواجهان تبعات عقود طويلة من الإخفاقات الدستورية، بدأت منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية وبقيت مستمرة حتى اللحظة الراهنة، ما أثر على استقرار البلدين، أدى إلى إساءة استخدام السلطة في مؤسساتهما وإحداث صدع عميق في مفاصل العملية الديمقراطية في الدولتين. فما سبب هذه الإخفاقات الدستورية؟ وما أثرها على الاستقرار والشرعية؟ وعلام تقوم البنية الدستورية الديمقراطية الحقيقية؟
أسئلة يطرحها زيد العلي، محامٍ متخصص في القانون الدستوري المقارن، في مقارنة بين الظروف التي نوقش فيها دستور سوريا لعام 1920 وكيف فشل تطبيقه في نهاية المطاف، مع ظروف صياغة دستور العراق لعام 1925، ليدرس كيف تم تأسيس دول ما بعد الخلافة العثمانية، في كلا البلدين، بطرق تقوم على تجاهل الإرادة الشعبية وتفضيل المصالح الضيقة، وخاصةً المصالح الأجنبية.
هذه المسائل لا تزال عثرة في استقرار العراق وسوريا اليوم، برغم اختلاف المناخات السياسية والتاريخية، إلا أن عموم السكان في العراق وسوريا لم تتم استشارتهم، ولم يتم وضع مصالحهم بالحسبان لدى وضع الدساتير المعمول بها حالياً، أو في المناقشات حول التعديلات الدستورية المحتملة. وبرأيه، فإن الاستقرار في الدولتين منوط بمحاولة حقيقية لمنح دساتيرها الوطنية شكلاً من أشكال الشرعية على الأقل.
بعد عقود طويلة من الإخفاقات الدستورية بدأت منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية واستمرت حتى الوقت الراهن، ما هي آفاق بناء الدستور في العراق وسوريا، وما علاقته بالشرعية والاستقرار في الدولتين؟
وتحت عنوان "دور بناء الدستور الشرعي في استقرار سوريا والعراق"، تستضيف الدكتورة ريم تركماني، زميلة بحث بارزة في مشروع الشرعية والمواطنة في العالم العربي في LES ، زيد العلي، في ندوة عبر الإنترنت، كجزء من مشروع "برنامج الشرعية والمواطنة في الوطن العربي"، التابع لوحدة أبحاث الصراع والمجتمع المدني، في كلية لندن للاقتصاد والعلوم والسياسية LSE ، عبر تقديم ومناقشة أوراق بحثية تهدف لدراسة قضايا محورية في بناء الشرعية والديمقراطية وتشكيل الهوية في سوريا من منظور دستوري.
زيد العلي محام منذ عام 1999، وهو متخصص في مجالَي التحكيم التجاري الدولي والقانون الدستوري المقارن. حائز على شهادات في القانون من كلية الحقوق في جامعة هارفارد، من جامعة السوربون ومن كلية كينجز كوليدج في لندن. من 2005 إلى 2010، عمل زيد كمستشار قانوني لدى الأمم المتحدة وذلك في مجال الإصلاح الدستوري والبرلماني والقضائي في العراق، ومنذ بداية عام 2011، عمل على الإصلاح الدستوري في المنطقة العربية ككُل، وخاصة في تونس، ليبيا ومصر، كما قام بالتدريس في جامعة برينستون، وباريس وجامعة أوروبا الوسطى.
العلي كان زميلاً في القانون والشؤون العامة في جامعة برنستون وزميلاً في معهد برلين للدراسات المتقدمة، وهو مؤلف كتاب "الصراع على مستقبل العراق" (ييل، 2014) و "الدستورية العربية: الثورة القادمة" (كامبريدج، 2021)، وهو مستشار أول في بناء الدستور للمؤسسة الدولية للديمقراطية والمساعدة الانتخابية International IDEA.
بناء الدستور وعلاقته بالشرعية والاستقرار
للتحدث عن بناء الدستور وعلاقته بالاستقرار، يجب أولاً إيجاد تعريف عملية بناء الدستور. وبرأي العلي، عادة ما ينظر إلى بناء الدستور على أنه عملية تقنية، يعتبر فيها نظام الحكومة والعلاقة بين الفرد والدولة ليست مسائل سياسية، بل مسائل تقنية يحددها خبراء، على اعتبار أنها مسألة غير سياسية.
تدرك الشعوب اليوم، على حد تعبير العلي، أن العمليات الدستورية هي اتفاقيات سياسية، أو معاهدات سلام ووثائق يجب التفاوض وفقها لإنهاء النزاعات أو لتجنبها أحياناً، كما قد تأتي في مرحلة ما بعد الأزمات كضمان لمستقبل الدول، كما حصل في إسبانيا في السبعينيات. ومن هنا، يرى أن مراجعة الدستور يجب أن تتم من خلال منظور سياسي، وفي العديد من الدول، مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن، يجب النظر إلى الدساتير بمنظار يتعلق بتحقيق السلام والاستقرار وإنهاء الحروب.
ماذا تعني الشرعية في هذا السياق؟
لإيضاح معنى الشرعية، يطرح العلي تصنيفات ثلاث تشمل: الشرعية الشعبية، الشرعية المعيارية والشرعية الدولية. وبرأيه، لكي يتمتع الدستور بالشرعية الشعبية يجب أن يحصل على دعم عدد كافٍ من أفراد الشعب في الدولة، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يحصل على دعم الجميع حتى في أكثر الدول استقراراً. لكن الشرعية الشعبية في الدول التي تتميز بتعددية طائفية، كالعراق مثلاً، تعني الحصول على موافقة عدد كافٍ من كل أطياف الدولة.
أما بالنسبة للشرعية المعيارية، فتعني اكتساب الدستور لشرعيته من الاستقرار الذي يوفره، من خلال تأمين احتياجات الأفراد، حتى لو لم يحصل على موافقة عدد كاف منهم. فمثلاً لم تتم كتابة مسودة الدستور في الحرب العالمية الثانية من قبل اليابانيين أنفسهم، وبالتالي لا تنطبق عليه الشرعية الشعبية، لكنه يعتبر واحداً من أهم العوامل التي أسهمت في تطور اليابان.
بالمقابل، تنظر الشرعية الدولية إلى المعايير الدولية لتكتسب الدساتير شرعيتها بحسب القوانين الدولية، ونرى مثالاً على هذا في المغرب.
لا يمكن أن تكون الديكتاتوريات مصدراً لاستقرار الدول، لأن الاستقرار يقوم بالدرجة الأولى على الديمقراطية وانعدام العنف السياسي
يعتبر العلي أن الاستقرار هو من أكثر المفاهيم صعوبة للتعريف لأنه قد ينطوي على معانٍ تختلف باختلاف الأشخاص، لكنه يقوم على انعدام العنف السياسي والديمقراطية، ولا يمكن أن تكون الدكتاتوريات من مصادر الاستقرار لأنها ستؤدي في مرحلة ما إلى العنف والأحداث غير المتوقعة.
وللأسف، قد يخالف بعض العراقيين هذا الرأي ويفضلون العودة إلى فترة الاستقرار حتى لو افتقرت إلى الديمقراطية.
الاحتلال... لحظة إخفاق دستوري
يشير العلي إلى أن عملية بناء الدستور قد لا تؤدي دائماً إلى تحقيق الشرعية والاستقرار، بل أحياناً إلى العكس، أي اللاشرعية وانعدام الاستقرار، ففي بلدان مثل اليمن، لم يسهم دستور 2014 أو دستور 2013 في العراق في الاستقرار في الدولة، لأن الدستور لا يعتبر شرعياً ما لم يكن شاملاً ودامجاً لكل أفراد المجتمع ويعود بنتائجه المتوقعة.
إذا حاولنا تطبيق هذه المعايير على الدساتير السورية والعراقية، كبلدان ناشئة في عشرينيات القرن العشرين بعد انهيار الخلافة العثمانية، فقد نفهم السياق الحالي الذي انتهينا إليه.
يقول العلي إن بريطانيا سيطرت على العملية الدستورية التي حصلت في عشرينيات القرن الماضي في العراق، وبرغم أنها حاولت الإيحاء بأن مسودة الدستور وضعها العراقيون وحصلت على دعم الشعب، إلا أنها في الواقع سيطرت على العملية بأكملها، بسبب ضعف المجتمع العراقي في ذك الوقت. وقد تجلى هذا أولاً باختيار الملك الذي حاول البريطانيون جعله يبدو وكأنه خيار شعبي، بينما في الواقع تم تقريره مسبقاً. وثانياً باختيار اللجنة الدستورية التي أشرف عليها المستشارون البريطانيون، فأقصوا الفئات المعارضة التي قد ترفض مسار هذه العملية التي فرضوها على البلاد. وثالثاً، بالتأكد من أن الدستور تمت صياغته بالاشتراك مع المسؤولين المدنيين الذين قدموه لدول لا تزال تحت السيطرة البريطانية، وجلبوا تلك المفاهيم إلى العراق.
وبالنظر إلى سوريا والطريقة التي تمت بها صياغة الدستور عام 1920. أولاً، نجد أن الوضع كان مختلفاً تماماً، من حيث أن السوريين كانوا يحاولون تبني دستورهم بطريقة من شأنها أن تعزز قدرة سوريا على حكم نفسها بشكل مستقل دون تدخل خارجي.
ولعدة سنوات، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحرير معظم الأراضي السورية من الاحتلال، نظمت الانتخابات في العديد من مناطقها لاختيار ممثلين عن الشعب، ثم طُلب من الأشخاص الذين انتخبوا الإشراف على صياغة مسودة للدستور في ذلك الوقت، لكن تلك التجربة انتهت مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا.
وبينما تمكنت اللجنة الدستورية صياغة النص بأكمله قبل الانتداب الفرنسي، تمكنت فقط من تبني بندين عندما دخل الفرنسيون. وفي الفترة بين 1920-1930، أجريت محادثات حول الدستور لمحاولة الحفاظ على النص الأصلي وإجبار الفرنسيين على تبنيه. وفي النهاية تم الحفاظ على جزء كبير من النص، لكن فرنسا أدخلت مواد أخرى واستبعدت ما يتعارض مع مصالحها.
وبالنظر إلى نتائج تلك العمليات الدستورية المختلفة: دستور العراق لعام 1925 ودستور سوريا لعام 1930، يرى العلي أن أياً منهما لم يكن شاملاً بشكل كافٍ، ولهذا السبب كان أي شخص في ذلك الوقت يعارض وجود البريطانيين أو الفرنسيين، أو يرفض فكرة صياغة الدستور تحت سيطرتهم، إما يمتنع عن المشاركة أو يتم استبعاده. لذلك، تم استبعاد جزء كبير من الشعب لأسباب نقدية سياسية.
نتائج الدساتير الإقصائية
ما أنشأه البريطانيون في العراق كان ملكية دستورية، وهذا هو نفس المصطلح المستخدم لوصف دول مثل بلجيكا، لكن يذكر العلي أن ما حصل في العراق في ذلك الوقت كان نظاماً ملكياً برلمانياً منتخباً، وملكاً يتمتع بسلطات رئاسية مطلقة. وهذا يعني أن الملك كان لديه كامل الصلاحيات لإقالة الحكومة، وحل البرلمان متى شاء، وهو ما يصعّب على البرلمان استخدام سلطاته. كما كان للعاهل أيضاً سيطرة كاملة على لجنة التأليف الدستورية ورئيس النظام القضائي، وهذا ما لن يكون مقبولاً في أي دولة ديمقراطية اليوم.
في سوريا، تم تبني ما هو شبيه بهذا أيضاً. لكن أحد الاختلافات الرئيسية بين سوريا والعراق في ذلك الوقت، بحسب العلي، كان أن مشروع دستور 1920 السوري تضمن نقطتين أساسيتين: أولهما حضور قوي للامركزية، وهو ما لم يكن عادياً بالنسبة لدول المنطقة، التي كانت مناطق جغرافية مختلفة، لديها هويات مختلفة وأيدت حكمها المستقل.
والنقطة الثانية هي مناقشة السوريين لموضوع المساواة بين الجنسين التي لم تصل في النهاية إلى الطموحات المرجوة، لكن حقيقة أن تلك المناقشات كانت تحدث في تلك الفترة الزمنية عندما كانت سوريا حرة، هو أمر مثير للاهتمام، ولم يحدث في دول أخرى في المنطقة مثل العراق والأردن ومصر.
يميز هذا سوريا ومحاولاتها المبكرة لاعتماد دستور ديمقراطي، ويلقي الضوء على الفرق بينه وبين ما حدث في نهاية المطاف في سوريا نفسها وفي العراق أيضاً.
تجلت عواقب ذلك في العقود التالية، بحسب العلي، في أن الدساتير التي تم تبنيها لم تكن دامجة، واستبعدت قطاعات كبيرة من الشعب، إما من قبل السلطات أو من خلال النأي بأنفسهم. كما أن نتائج العملية الدستورية صبت في صالح فرد واحد يسيطر على دفة الحكم، وهذا لا يؤدي إلى الشرعية في أي من تلك البلدان.
لذلك، وعلى مدى عقود، مرت كل من سوريا والعراق بأوضاع مروعة، وفي مرحلة ما كانت تتم صياغة دستور جديد كل عام. وفي النهاية ما حدث كان أن كياناً دكتاتورياً واحداً لاديمقراطي الملامح، وهو حزب البعث، استحوذ على السلطة، ووضع نهاية لحوار الشرعية والتعددية والديمقراطية باسم شكل من أشكال الاستقرار الذي انهار في نهاية المطاف في كلا البلدين. في العراق عام 1991، وحتى في عام 2003، وقد شهدت سوريا هذا الانهيار نفسه للاستقرار الوهمي في عام 2011 ولا زال مستمراً حتى اليوم.
حاضر ومستقبل العراق دستورياً
ما حدد مستقبل العراق اليوم هو ما حدث في 2003، وأحداث 2003 نفسها أدت إليها العقود السابقة أيضاً. وبوجود غزو أجنبي آخر، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا هذه المرة، كانت تلك لحظة دستورية أخرى سيتم فيها تبني دستور جديد. قررت سلطات الغزو تنظيم انتخابات ستكون فيها الهيئة المنتخبة مسؤولة عن عملية صياغة الدستور، لكن ذلك لم ينجح في النهاية لأن العملية تخللها العديد من المشكلات، يوردها زيد العلي:
أولاً، عندما جرت الانتخابات، تمت مقاطعة شريحة من السكان قبل كل شيء، وهم العرب السنة. وثانياً، تم تشكيل الهيئة المنتخبة وبناءً عليها تألفت لجنة دستورية من 275 عضواً، انتخب منهم 55 عضواً في البداية ثم أصبحوا 70 عضواً لتمثيل الفئات الذين تمت مقاطعتها، أي العرب السنة.
ثالثاً، عملت هذه اللجنة لبضعة أشهر خلال عام 2005، وعندما اتجه الدستور بعكس مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الأكراد، أوقفت العملية الدستورية برمتها في أغسطس 2005، وحُلّت لجنة صياغة الدستور، لتتم العودة إلى الدستور الذي تمت صياغته في عام 2004، والذي تحكمت بتفاصيله الولايات المتحدة بالكامل حينها، أي أصبحت الحكومات الفيدرالية هي النموذج الذي تم اعتماده في أكتوبر 2005.
حظيت المسودة بموافقة 80% من السكان، وهي عتبة عالية جداً، وبالتالي تعني أن العملية ديمقراطية وتتمتع بالشرعية الشعبية. لكن العلي لا يعتبر أن هذا صحيحاً لعدة أسباب، أولها أن المفاوضين أنفسهم تضمنوا شريحة صغيرة من النخبة السياسية العراقية لا تتجاوز الـ 20% في أحسن الأحوال، تم اختيارهم من 3 أو 4 أحزاب فقط. وبرغم أنه تم الترويج للدستور على أنه اتفاق بين المجتمع الشيعي والمجتمع الكردي، والرافضون الوحيدون كانوا من المجتمع السني، إلا أن هذا لا يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة. كان هذا من الخيال منذ البداية.
لم يشارك التيار الصدري إطلاقاً في صياغة الدستور، وقد وصفه مقتدى الصدر بالدستور غير الشرعي، قائلاً إنه لا يمثل سوى المصالح الأمريكية. والطرف الآخر الذي استبعد من المحاورات هو حزب الدعوة، الذي قد لا يتمتع بشعبية كبيرة في الوقت الحاضر، لكنه كان قوة سياسية مهيمنة في العراق عام 2005 وبقي كذلك حتى وقت قريب.
استبدل العراقيون في دستور 2005 استبداد الشخص الواحد مطلق الصلاحيات، ببرلمان مطلق الصلاحيات وغير خاضع للمساءلة من قبل أي سلطة قضائية أو مراقبين يرصدون الخروقات الدستورية
يرى العلي أن عدم قدرة الشعب على قراءة النص هو أحد أسباب لا شرعيته، فمعظمهم صوت لينتقل بالبلاد من هذه المرحلة ليس إلا. وهذا خلل حقيقي من ناحية الشرعية الشعبية. أما بشأن الشرعية المعيارية، فقد قرر العراقيون السير بعكس اتجاه عهد صدام حسين في ظل حزب البعث، لذلك، كانت صلاحيات النظام مطلقة حتى أكثر من النظام الملكي.
باعتماد نظام برلماني للحكم من قبل العراقيين في عام 2005، يعني أنهم استبدلوا نظام الشخص الواحد مطلق الصلاحيات وغير الخاضع للمساءلة، ببرلمان مطلق الصلاحيات وغير خاضع للمساءلة، يتحكم في كل شيء دون ضوابط ولا حساب، ولا سلطة قضائية، ولا نظام انتخابي، ولا مدققين يمكن أن يراقبوا الخروقات الدستورية بالسيطرة على كل مؤسسة من مؤسسات الدولة. والنتيجة، كما يذكر العلي، هي أن الأحزاب التي يتألف منها البرلمان العراقي لها انتماءات إيرانية بشكل كبير، بعدد قليل من الاستثناءات التي ربما تكون هي نفسها غير ديمقراطية.
يذكر العلي أن البرلمان مسؤول عن وضع القانون الانتخابي، وبالتالي لن تكون هناك قوانين تتعارض مع مصالحهم الخاصة، وبهذا تتحالف فئات البرلمان لضمان أن النظام القائم لا يمكن أن يسقط. وبعد 14 عاماً من اعتماد الدستور، وبعد كل الأهوال التي مر بها العراق عام 2003 تحدث انتفاضة شعبية في 2019، يطالب فيها العراقيون بقانون انتخابي جديد، وليس بدستور جديد. لأنهم، بحسب العلي، رأوا أن المطالبة بدستور جديد سيعني أن القوى البرلمانية الحالية ستضطر إلى التفاوض من جديد، وأنهم بطريقة أو بأخرى سيحاولون تعديل النص لصالحهم بدلاً من سن قانون انتخابي جديد يسمح بظهور قوى سياسية جديدة من شأنها أن تسمح بعد ذلك بالتفاوض على دستور جديد يرضي عموم السكان، وحتى الآن، لم يحدث هذا. ولا يزال الأعضاء السياسيون لا يشعرون بضغط من الشارع، وبإلحاح لتنفيذ مطالب الشعب، ولا يضعون بحسبانهم الخطر الناجم عن تحكمهم في البلاد.
لا شرعية في سوريا اليوم
يقول العلي لقد مرت سوريا بالكثير من الأحداث في الآونة الأخيرة. ولكن يبقى السؤال عما إذا كانت هناك فرصة لتحقيق الاستقرار والشرعية في العملية الدستورية في سوريا بعد هذه الأحداث المروعة: "باختصار جوابي هو لا، لا توجد فرصة للقيام بذلك حالياً". ويوضح أن السبب يعود إلى لأن العملية الدستورية بصيغتها الحالية لا تتيح فرصة لوضع دستور يتمتع بشرعية شعبية أو معيارية، لأن المفاوضين أنفسهم ليسوا متفقين على ضرورة وضع دستور جديد.
لا فرصة في دستور يتمتع بالشرعية في سوريا اليوم، لأن المتفاوضين أنفسهم ليسوا متفقين على الحاجة لوضع دستور جديد لا يقدم رؤية سياسية للبلاد فقط، بل يضع حقوق الفرد ضمن أولوياته أيضاً
وفي حين أن هناك فئة كبيرة، في أغلبها من المكون الحكومي، لا ترى مشكلة في الدستور الحالي، لا يرفضه أيضاً الكثير من المعارضين الذين تكمن مشكلتهم في أنهم ليسوا جزءاً من السلطة، ولذا فإن ما يقترحونه هو التوجه نحو النموذج العراقي، الأمر الذي سيعود بنتائج كارثية على الجميع.
المشكلة الأخرى في التفاوض على الدستور في الظروف الحالية، هي أنه لا توجد طريقة يمكن أن يتمتع بها هذا النص الحالي بشرعية شعبية. وبتنحية الشعبية المعيارية، فلا أمل في أن الديناميكيات التي ستؤدي بها المفاوضات الحالية إلى إنشاء نظام يخدم مصالح الشعب.
إضافة إلى ذلك، يصعب تحقيق الشرعية الشعبية في العملية الدستورية بعد هذا الصراع الرهيب، برأي العلي، بسبب حركة النزوح الواسعة لدى الشعب وعدم رغبة كثير منهم بالعودة.
ويرى زيد العلي أن عملية صياغة الدستور ليست سوى خطوة ثانوية، فالفعل نفسه ليس هاماً من حيث أنه يطرح رؤية سياسية للبلاد لا تضع الفرد كأولوية. ولهذا يجرم العديد من الأطراف: النظام الذي دمر حياة الكثير من الناس، وجزء كبير من المعارضة، والنخب، وبخاصة النخب التقدمية: "السبب في قولي هذا هو أنه في مناقشاتهم حول الأعمال السياسية وحول الدستور، ما يتم استبعاده دائماً هو الأفراد والشعب (ولا أعني مجتمعات مثل السُنة والشيعة والدروز والمسيحيين)، بل حقوق الفرد، ونوع العلاقة بين الفرد والدولة. حتى في حوارات التقدميين عن الإصلاح الدستوري، فهم لا يتحدثون عن الفرد. من وجهة نظرهم، يتمتع الفرد بجميع الحقوق الدستورية التي يحتاجها. لذلك ما ينقص الحديث هو نظرة متعمقة لبحث العلاقة بين الفرد والدولة، لئلا ينتهي الأمر بسوريا مثل العراق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...