عبر مراحل البشرية المتعاقبة، صُبغ مفهوم عتق الرقيق بكثير من الفلسفات والأفكار والأديان، والتي تركت تأثيراتها المباشرة على أحوال المُستعبَدين، فاختلفت دوافع عتقهم من حضارة لأخرى، ومن دين إلى آخر.
اليونان... العتق عند اقتراب الموت
يذكر ويل وايريل ديورانت، في الجزء الثاني من المجلد الثاني من كتابه "قصة الحضارة... حياة اليونان" (ترجمه للعربية محمد بدران)، أن أسباب عتق المُستعبَدين عند اليونان حُصرت في حالات قليلة، منها أن الكثير من اليونانيين كانوا إذا اقتربت منيتهم يُكافئون أشد عبيدهم إخلاصاً بعتقهم، أو كان العبد يُعتق في حال افتداه أهله أو أصدقاؤه كما حدث لأفلاطون، أو افتدته الدولة نفسها من سيده نظير خدماته لها في الحرب، وفي بعض الحالات قد يبتاع هو نفسه حريته بما يدخره من أموال.
وكان المُستعبَد المُحرَّر يعمل في الصناعة والتجارة والشؤون المالية، وكان أقل ما يقوم به من الأعمال شأناً هو أداء عمل العبد العادي لكن نظير أجر، وأعظم ما يبلغه هو أن يكون صاحب إحدى الصناعات.
بيد أن أهم الأعمال التي كانت تُظهِر قيمة المُستعبَد المُحرَّر هي الأعمال التنفيذية، وذلك لأن أقسى الناس على العبيد هو الذي نشأ في ظل العبودية ولم يعرف طول حياته إلا الظلم والاستبداد، بحسب ديورانت.
الرومان... منح الجنسية للمعتوقين
عند الرومان القدامى، كان السيد لا يضن بعتق المُستعبَد في حياته أو حتى التوصية بعتقه بعد موته، فأخلاقهم الفطرية لم يكن قد لبسها بعد ترف الحضارة، ومعيشتهم لم تكن قد طغت عليها حياة المدينة، وفق ما ذكر عبد السلام الترمانيني في كتابه "الرق... ماضيه وحاضره".
ولما قامت دولة الرومان واتسع ملكهم في الحروب، تدفق عليهم الرقيق من الشعوب التي أخضعوها، وبدّلت الحروب من أخلاقهم وطباعهم، فقَسَت قلوبهم من بعد لين، وأخذتهم العزة بقوتهم، فلم يعد الرقيق يعيش في ظل الأسرة، بل أصبح يُساق إلى المزارع الكبيرة التي يملكها السادة في أعقاب الحروب، ليعمل فيها مغلول العنق.
وبحسب الترمانيني، ما كان لسيد أن يعتق عبده إلا في حالات نادرة، وبإجراءات شكلية معقدة، وإذا أعتقه كان له أن يرجع عن عتقه ويُعيده إلى الرق متى يشاء.
في العصر الإمبراطوري، أخذ العتق يتسع بتأثير الأفكار الفلسفية التي تنحاز لكرامة الإنسان، وكان السادة يتباهون بالعتق، وجرت العادة أن يسير العُتقاء في جنازة مولاهم مباهاة بكثرة من أعتق في حياته.
وسعى كثير من السادة إلى عتق عبيدهم حتى يُضروا بدائنيهم، أي كي لا يجد الدائنون ما يضمن وفاء ديونهم، فكثر العتقاء وافتقروا، وانضم أكثرهم إلى زمر الأشرار يعيثون في الأرض فساداً، حتى اضطرت الدولة إلى تحديد العدد الذي يُسمح بعتقه. فمن ملك عشرة مُستعبَدين له أن يعتق نصفهم، ومن ملك ثلاثين له أن يعتق ثلثهم، ومن ملك مئة فله أن يعتق ربعهم، وعتق المئة هو الحد الأقصى لمن كان يملك الأكثر.
وفي ما بعد، منحت الدولة المعتوقين الجنسية الرومانية.
قبل الإسلام... "مُكاتَبة" و"مُكافأة"
تعددت أساليب العتق عند العرب قبل الإسلام، فكانوا يعتقون الأسير مكافأة على إحسان، فيشترط الرجل على عبده مثلاً إذا فعل كذا وكذا فهو حر، ويكون ولاؤه بعد عتقه لسيده الذي أعتقه، وكان لذلك تأثيرٌ كبير في صدر الإسلام، لأن المسلمين كثيراً ما كانوا يستعينون على أسيادهم بالعبيد من خلال عتقهم.
ومن أمثلة ذلك أن المسلمين لما حاصروا الطائف في السنة الثامنة للهجرة وكادت تمتنع عليهم، أمر النبي مُنادياً فنادى "أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله"، فنزلت جماعة كبيرة، وفق ما ذكر جرجي زيدان في الجزء الثالث من كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي".
صُبغ مفهوم عتق الرقيق بكثير من الفلسفات والأفكار والأديان، والتي تركت تأثيراتها المباشرة على أحوال المُستعبَدين، فاختلفت دوافع عتقهم من حضارة لأخرى، ومن دين إلى آخر... جولة على هذه الدوافع عبر مراحل البشرية المتعاقبة
وإذا كان العبد من أسرى الحروب وأرادوا عتقه جزّوا "ناصيته" (شعر مقدمة رأسه)، وأخلوا سبيله، فيصير موالياً لمالك تلك الناصية.
وقد يكون العتق أيضاً باتفاق بين العبد وصاحبه بالبيع، وهو ما كانوا يُعبّرون عنه بـ"المكاتبة"، وذلك أن يكتب العبد على نفسه صكاً بثمن إذا سعى وأداه لسيده عُتق، وقد يجعل الدفع "أنجماً" (تقسيطاً).
وقد تكون العتاقة "سائبة"، وهي أن يُعتق العبد ولا ولاء له، فكان الرجل إذا قال لعبده "أنت سائبة"، يُعتق ولا يكون ولاؤه لمُعتِقه، حسب ما روى زيدان.
العتق محصور باليهود
مع ظهور الديانات السماوية صُبغ العتق بمفاهيم دينية بالأساس، فالعتق عند اليهود كان مقصوراً على الرقيق اليهودي، إذ يتحرر المُستعبَد اليهودي بعد ست سنوات من خدمة سيده اليهودي، أما الرقيق الأجنبي فلا يُعتق ويبقى مُستعبَداً إلى الأبد.
وقد أيّد التلمود هذا الحكم، ونصّ على أن تحرير العبد الأجنبي خرق للتوراة، وفق ما كتب الترمانيني.
وما ورد من حكم بتحرير العبد إذا ضربه سيده فأتلف عينه أو أسقط من أسنانه، إنما ينطبق في مفهوم التوراة على العبد اليهودي، ولا يمكن أن ينطبق على العبد الأجنبي، ما دامت الشريعة قضت بأن يبقى عبداً أبد الدهر.
الكنيسة... العتق لأسباب مادية
اعتبرت المسيحية الرق مشروعاً، وهو عندها من تقدير الله، وما كان لشيء قدّره الله أن يُحلّ، غير أنها أخذت منذ القرن السادس تدعو للعتق وتحض عليه، فقد أعلن البابا غريغوار الكبير (590- 604) أن المسيح جاء ليحرر المسيحيين ويعيد إليهم حريتهم، ورغم ذلك حُصر العتق بالأرقاء المسيحيين أو المتنصرين منهم، وكان ملوك إسبانيا المسيحيين لا يعتقون أحداً من أسرى المسلمين إلا إذا تنصّر.
ويذكر الترمانيني، أن حضّ الكنيسة على العتق لم يكن خالصاً لوجه الله، بل كانت تشوبه أسباب مادية، فقد حفظ العتقاء للكنيسة هذا الجميل بنصيب من أموالهم، فتوفرت لها بذلك أموال كثيرة، بدليل أنها حرّمت على نفسها عتق ما كانت تمتلك من أرقاء، كالطبيب الذي يمتنع عن تناول دواء وصفه لمريضه.
وكانت الكنيسة ورجال الدين يملكون أملاكاً كثيرة ومزارع واسعة، وكانوا يُسخّرون أرقاءهم للعمل فيها، واستخدم البابا غريغوار الأول مئات من العبيد للعمل في الضياع البابوية، كما كان آلاف من أسرى الصقالبة (الرقيق من أصل روسي) والمسلمين يوزعون على الأديرة.
وظل الاسترقاق قائماً في أملاك الكنيسة والباباوات والأساقفة حتى القرن الحادي عشر، وكان القانون الكنسي يُقدّر ثروة أراضي الكنيسة بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساويه من المال. ومن أجل ذلك هددت الكنيسة في أحد مجامعها المنعقدة في طليطلة بفرض عقوبة على كل أسقف يعتق عبداً من عبيد الكنيسة، ما لم يعوض من ماله ما خسرته كنيسة المسيح.
كما صدرت عدة تعليمات كنسية لمنع الأساقفة والقسس من عتق عبيد الكنيسة، ومن أعتق منهم عبداً فعليه أن يقدم بدلاً منه عبدين، وفق ما ذكر الترمانيني.
وإذا كان بعض الباحثين يعزون إلى الكنيسة تدرج زوال الرق في أوروبا في النصف الثاني من القرون الوسطى، فإن آخرين لا يُسلّمون بهذا الرأي، ويُرجعون التدرج في زوال الرق في القارة إلى عوامل اقتصادية واجتماعية، لا إلى الكنيسة التي استثنت نفسها من عتق أرقائها وشجعت الأوروبيين على استرقاق الزنوج ونقلهم من أفريقيا.
لكن مع ذلك، لا يمكن تجاهل تأثير المسيحية في الاختيارات الشخصية التي كان يقوم بها الأفراد، حيث كانوا يقومون بعتق عبيدهم مدفوعين بقيمة مسيحية هي "الاستغناء"، والتي جعلتهم يتخلون حتى عن ثرواتهم الشخصية، كما ذكرت باتريسيا ديلبيانو في كتابها "العبودية في العصر الحديث" (ترجمته للعربية أماني فوزي حبشي).
الإسلام... "مكاتبة" و"استيلاد" و"تدبير"
في الإسلام، وُجدت شروط عدة عُتق من خلالها المُستعبدون، منها "المكاتبة"، والتي كانت متبعة في الجاهلية، غير أن الإسلام حث على مساعدة المستعبد على أداء المال الذي كتبه على نفسه من مصاريف الزكاة، من خلال ما يُعرف بـ"سهم الرقاب"، كما ذكرت الدكتورة فاطمة قدورة الشامي في كتابها "الرق والرقيق في العصور القديمة والجاهلية وصدر الإسلام".
وكان "الاستيلاد" من أساليب العتق المشروطة بالنسبة للمرأة، ويعني طلب السيد من الأمة أن تلد له، فإذا أنجبت واعترف ببنوة وليدها أُعتقت وأُطلق عليها اسم أم فلان، سواء أتى الولد حياً أو ميتاً، وسواء عاش أو مات.
وبحسب الشامي، كان "التدبير" أيضاً من أساليب العتق المشروطة، و"التدبير" من "الدبر"، ويعني أن يعتق الرجل عبده عن دبر، أي بعد موته، فيقول له "أنت حر بعد موتي"، ويُقال "دُبر العبد"، أي أعتقه بعد موته.
وتضم القائمة أيضاً "التبغيض"، فإذا امتلك سيدان أو أكثر عبداً واحداً مشتركاً بينهم، وعتقه أحدهم، يصبح آنذاك جزء منه حراً وجزء منه عبداً، وفي هذه الحالة على العبد أن يسعى لاكتساب المال ويدفع للشريك الثاني ليفك بقية رقبته من الرق، أو يخدم السيد الذي لم يعتقه نظير ما له فيه من الرق، وإن رفض العبد السعاية وكسب المال ليفك رقبته، يظل على حاله أي لا يعتق كاملاً.
عتقٌ مع اقتراب الموت، عتقٌ كمكافأة على إحسان أو مقابل بدل مادي... تباينت الأسباب والظروف التي جرى فيها عتق العبيد، باختلاف الأديان والثقافات، فكيف حددت كل ثقافة أو دين شروطها لهذا الأمر، وكيف لعب دين وولاء العبد دوراً في تحريره؟
وُوجد أيضاً العتق المشروط بالخدمة، أي عتق العبد مقابل الحصول على خدمته في مجال معين، وكذلك العتق المشروط بالمرض، فإذا مرض العبد أثناء عمله أو أُصيب بالعمى أو الشلل فعلى السيد عتقه.
ومثّلت "النذرة" أيضاً أسلوباً للعتق، فمن نذر لله عتق رقبة وشفي من مرضه، وقضى حاجته وجب عليه الوفاء، وكذلك إذا تطيّر من أمر ما أو حل به البلاء ونذر العتق.
وبجانب هذه الأساليب المشروطة، وُجدت أمور دينية عديدة أوجبت عتق المُستعبدين، ارتبطت بالقصاص المادي للمذنب في عدة حالات، منها الإفطار في نهار رمضان، وجماع المرأة الحائض، والحنث باليمين، والقتل بالخطأ، فضلاً عن ضرب العبد أو التمثيل به.
من الثورة الفرنسية حتى حرب الانفصال الأمريكية
في مطلع القرن الثامن عشر، ظهر في أوروبا تيار فكري يدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد، ويُنبّه إلى ما يلقى الهنود الحمر من ظلم المستعمرين الإسبان.
انبثق هذا التيار من أشهر فلاسفة ذلك العصر، وفي طليعتهم المفكر الفرنسي فولتير (1693- 1778) الذي ضم صوته لمناهضي الاسترقاق، على قول الترمانيني.
ولم تلبث هذه الأفكار أن أتت بثمارها، وكانت المرحلة الأولى لإلغاء الرق في العصر الحديث من خلال الثورة الفرنسية عام 1789، حيث أصدر مجلس الثورة قراراً بإلغاء الرق في أيار/ مايو عام 1791 في جميع المستعمرات الفرنسية.
وحين تولى نابليون بونابرت الحكم، وجد أن صادرات المستعمرات الفرنسية قد انخفضت، ولما قيل له إن نمو الصادرات مرتبط باليد العاملة التي منها الزنوج، أصدر في 19 آذار/ مارس 1802 قراراً بالعودة إلى استرقاق الزنوج، ما أدى إلى ثورتهم في جزيرتي سان دومينيك وغوادلوبي في البحر الكاريبي، لكن نابليون قضى على ثورتهم بعد مقاومة دامت ثلاث سنوات وأعيدوا إلى الرق.
أما المرحلة الثانية فقادتها إنكلترا، وبدأت بمنع تجارة العبيد في المستعمرات البريطانية، ثم تابعت حملتها على النطاق الدولي، وتمكنت من إقرار هذا المنع في مؤتمر فيينا عام 1815.
وفي مؤتمر لندن عام 1831، اتفقت الدول الأوروبية المشارِكة فيه على اعتبار تجارة الرقيق من أعمال القرصنة البحرية، والتي من شأنها أن تُزيل عن السفينة حماية علمها.
وتابعت بريطانيا سعيها في حث الدول الأوروبية على إلغاء الرق، فألغته إسبانيا عام 1835، وألغته البرتغال عام 1839، وحررت هاتان الدولتان الزنوج في مستعمراتها في أمريكا، وتابعت فرنسا ثم هولندا والدانمارك عام 1869.
وبحسب الترمانيني، امتدت هذه التأثيرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ كانت أبرز نتائج حرب الانفصال التي شهدتها بين الولايات الجنوبية والشمالية إعلان "وثيقة تحرير العبيد"، في الأول من كانون الثاني/ يناير عام 1863، والتي اعتبرت العبيد في أرجاء الولايات المتحدة أحراراً، وأعتقت أربعة ملايين نفس من أغلال الرق والعبودية.
مؤتمرات ومعاهدات دولية
بعد إعلان تحرير الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية، تتابعت المؤتمرات الدولية لإلغاء الرق، منها مؤتمر بروكسل عام 1890، والذي تعهدت فيه الدول الأوروبية المجتمعة على تطبيق قوانينها الجزائية الخاصة بصيد العبيد والاتجار بهم وعلى منع خصاء الأولاد والرجال.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأليف عصبة الأمم المتحدة، وقّعت الدول الأعضاء، في 25 أيلول/ سبتمبر عام 1926، اتفاقية جنيف التي قضت بمنع تجارة الرقيق.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، دعا الحلفاء الدول التي خاضت الحرب معهم من قرب أو بعد إلى عقد مؤتمر في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، في 26 حزيران/ يونيو 1945، وفيه وقّعت الدول الأعضاء على ميثاق الأمم المتحدة والذي تضمن التأكيد على الحقوق الأساسية للإنسان وكرامة الفرد، وتبع ذلك إعلانات عديدة صادرة عن المنظمة بإلغاء الرق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين