من الملاحظ أن معدّلات الاكتئاب قد ازدادت بشكل ملحوظ في عالمنا اليوم، سواء كان ذلك بسبب تفشّي فيروس كورونا الذي يهدد حياتنا جميعاً، أو جرّاء الضغوطات المعيشية والاقتصادية الصعبة التي تُرهق كاهلنا، وتجعلنا نبحث يومياً عن طرق قادرة على انتشالنا من موجات الحزن واليأس والقلق، والانغماس في عالم الملذات.
والواقع، إن البشرية باتت في سياق محموم مع المتعة، بحيث نستنزف طاقتنا ونحن نلهث وراء المتعة ومغريات الحياة وتجنّب الألم، ونأمل من خلال ذلك أن نشعر بالسعادة، ومع ذلك فإن السعادة العميقة تبقى حلماً يدغدغ حياة الكثيرين منّا.
الفرق بين السعادة والمتعة
بحسب د. روبرت لاستيغ، صاحب كتاب The Hacking Of The American Mind، فإن العديد من الناس يخلطون بين المتعة والسعادة، بخاصة وأنه لطالما تم دمج المفهومين بشكل مشوّش في كل مكان تقريباً، مشيراً إلى أن المجتمعات الحديثة، مثل المجتمع الأميركي، تبيع لنا متعة مخفية في هيئة سعادة: "فكروا في وجبات Happy Meals، happy hour والرموز التعبيرية المبتسمة التي نستخدمها لإخبار أصدقائنا أننا نحب ما يفعلونه".
وعن أوجه الاختلاف ما بين السعادة والمتعة، قال روبرت: "المتعة قصيرة المدى والسعادة تدوم طويلاً. المتعة أمر غريزي والسعادة أمر روحاني. المتعة هي الأخذ والسعادة هي العطاء. المتعة يمكن تحقيقها بامتلاك الماديات والسعادة لا يمكن تحقيقها بامتلاك الماديات. المتعة يخوضها المرء بمفرده والسعادة يخوضها مع فئات المجتمع".
واعتبر لاستيغ أن المتعة يسببها هرمون الدوبامين، في حين أن السعادة يسببها هرمون السيروتونين، كاشفاً أن هناك أمراً واحداً يعطل هرمون السيروتونين وهو هرمون الدوبامين، أي أنه كلما زاد سعي المرء للمتعة، كلما كانت السعادة التي يشعر بها أقل.
الإدمان على المتعة
كما أشرنا في السطور السابقة، هناك فرق كبير بين السعادة والمتعة، أهمها أن المتعة هي عبارة عن شعور مؤقت يأتي من عامل خارجي محدد، كتناول وجبة لذيذة، ممارسة الحب... بمعنى آخر، فإن المتعة تتعلق بالتجارب الإيجابية لحواسنا وحدوث الأشياء الجيدة.
وبالرغم من أن التجارب التي تنطوي على المتعة يمكن أن تمنحنا لحظات من السعادة، إلا أن هذه الأخيرة لا تدوم طويلاً، لأنها بطبيعتها تعتمد على الأحداث والتجارب الخارجية، ما يعني بأنه يتعيّن علينا أن نحافظ على التجارب الجيدة، أي الحصول على المزيد من الطعام، المزيد من المال، المزيد من الجنس... حتى نشعر بالمتعة.
نتيجة لذلك، يتولد لدى الكثير من الناس نوع من الإدمان على هذه التجارب الخارجية، بحيث يصبحون بحاجة إلى المزيد والمزيد من التجارب ليشعروا بسعادة قصيرة المدى.
"المتعة قصيرة المدى والسعادة تدوم طويلاً. المتعة أمر غريزي والسعادة أمر روحاني. المتعة هي الأخذ والسعادة هي العطاء. المتعة يمكن تحقيقها بامتلاك الماديات والسعادة لا يمكن تحقيقها بامتلاك الماديات. المتعة يخوضها المرء بمفرده والسعادة يخوضها مع فئات المجتمع"
أثناء بحثه عن الخصائص السامة والمسببة لإدمان السكر في كتابه Fat Chance، توصل الدكتور روبرت لاستيغ إلى اكتشاف مثير للقلق: "إن سعينا وراء السعادة يتم تخريبه بفعل ثقافة الإدمان والاكتئاب التي قد لا نتعافى منها أبداً"، مشيراً إلى أن الإفراط في المتعة يؤدي إلى الإدمان، سواء كانت متعة مادية أو سلوكية، في حين أنه لا يوجد ما يسمى "إدمان للسعادة المفرطة".
وفي هذا الصدد، ألقى لاستيغ اللوم على المجتمعات الحديثة وإدمانها على الدوبامين، وهو ناقل عصبي يساعد على التحكم بمراكز المكافأة والمتعة في الدماغ، وهناك بعض الأمور التي تزيد معدلات هذا الهرمون، من بينها: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، تناول السكّر واحتساء الكحول.
وبالتالي يمكن القول إنه مع كل "رشفة" من المشروب الكحولي المفضل، مع كل قطعة حلوى أو عند الحصول على إعجاب على فيسبوك، سيتحسّن مزاج المرء بشكل سريع، ولكن معدلات الدوبامين التي تبدو مرتفعة للوهلة الأولى، تقوم أيضاً بقمع السيروتونين في الدماغ، وهي المادة الكيميائية المسؤولة عن الشعور بالهدوء والرضا، بعبارة أخرى، فإن الانغماس في الأنشطة الممتعة يجعلنا أكثر تعاسة على المدى البعيد.
في حديثها مع موقع رصيف22، تحدثت الأخصائية في علم النفس وردة بو ضاهر، عن موجة الاكتئاب التي تسيطر على عالمنا اليوم، بسبب عوامل عديدة، من بينها السباق المحموم الذي تعيشه البشرية نحو الماديات وكسب المال: "نحن عايشين بزمن فيه كتير ضغوطات وأزمات، الدني كلها نوعاً ما موقفة، وفي ناس بضلن يحكوا عن إنجازات وفي سباق على المال بين الناس كأنو كل الكوكب بدو يصير مليونير... الكل كتير تعبان، في أشخاص بالعشرينات عاملين burnout (احتراق نفسي) كتير خطير".
وعمّا إذا كان المال قادراً على شراء السعادة، قالت وردة: "صحيح أن المال يمكن أن يسهّل حياة المرء ويشتري له الوقت والجهد، ولكنه لا يشتري السعادة على الإطلاق، لكون السعادة مرتبطة بأمور عديدة".
الانغماس في الأنشطة الممتعة يجعلنا أكثر تعاسة على المدى البعيد
وتحدثت بو ضاهر عن عالم السوشال ميديا الذي يعزّز مفاهيم عديدة، من بينها السعي وراء الكمال، الأمر الذي ينعكس سلباً على حياة المرء وقد يدمّره نفسياً، بخاصة حين يكتشف أنه مهما فعل، فإنه لن يتمكن من الوصول إلى الكمال والمثالية: "في عالم السوشال ميديا نرى دوماً الجانب الأفضل من الأمور، وعندما يقارن المرء نفسه بحياة المشاهير، ويلاحظ أن المثالية التي يسعى إليها هي بعيدة المنال، فعندها يغرق أكثر في الحزن واليأس".
وكشفت وردة أن الشعور بالمتعة الذي يختبره البعض قد يعزز لديه نوعاً من الإدمان: "عندما ننجح في الوصول إلى هدف ما وتكون هناك مكافأة بانتظارنا، فعندها نطمح لإعادة التجربة أو حتى تحقيق هدف أعلى بسبب الشعور بالمتعة".
وأضافت بو ضاهر أنه في بعض الأحيان عندما يضع المرء نصب عينيه هدفاً محدداً ويعمل من أجله، فأنه يصل إلى مرحلة يبدأ فيها بطرح العديد من الأسئلة على نفسه: ما هي السعادة؟ متى أشعر بها؟ ما هي معايير السعادة؟ هل أنا سعيد/ة ولكنني أجهل ذلك؟ مشيرة إلى أننا نلهث وراء السعادة من دون أن نكون على دراية كاملة بها، في حين أن المتعة أبسط لفهمها وتحديدها.
العناصر الأربعة
كيف نتوقف عن محاولة العثور على السعادة في الأمور التي "تخرّب" احتمالات تحقيقها؟
اقترح الدكتور روبرت لاستيغ أن يركّز الأفراد الذين يبحثون عن سعادة دائمة ومتينة على العناصر الأربعة التالية:
التواصل: إن أي اتصال بعيد عن التفاعل وجهاً لوجه لا يعتبر تواصلاً، بحسب لاستيغ، شارحاً ذلك بالقول: "البريد الإلكتروني ليس تواصلاً. فيسبوك ليس تواصلاً"، وأضاف قائلاً:" لديكم/نّ مجموعة من الخلايا العصبية في دماغكم/نّ، وعندما تتفاعلون/ن مع شخص ما بشكل شخصي، فأنكم/نّ تتبنون/ين مشاعر ذلك الشخص. هذا يولد الظاهرة التي نسميها التعاطف والذي يعد ضرورياً لإنتاج السيروتونين".
المساهمة: أن المساهمة التي تساعد على إطلاق السيروتونين يجب أن تكون لتحقيق مكاسب غير شخصية، أي أن تكون لصالح الأطفال، العائلة، الأصدقاء والعالم بأسره، أما كسب المال لوحده فلا يندرج ضمن خانة المساهمة.
ومع ذلك، يمكن الحصول على السعادة من خلال العمل، في حال كان صاحب العمل يلاحظ تأثير العمل الجيد على الآخرين، أمّا في حال لم يكن الأمر كذلك، فيمكن حينها زيادة معدلات السيروتونين في مجال المساهمة، عن طريق التطوع أو حتى التبرع للأعمال الخيرية.
البشرية باتت في سياق محموم مع المتعة، بحيث نستنزف طاقتنا ونحن نلهث وراء المتعة ومغريات الحياة وتجنّب الألم، ونأمل من خلال ذلك أن نشعر بالسعادة، ومع ذلك فإن السعادة العميقة تبقى حلماً يدغدغ حياة الكثيرين منّا
التأقلم: إن الحرمان من النوم يزيد من هرمون الكورتيزول ويسبب الاكتئاب، ولهذا السبب يجب إعطاء الأولوية لفترة النوم والابتعاد عن كل مصدر تشتيت: "الأطفال الذين يشحنون هواتفهم المحمولة في غرفهم يحصلون على 28 دقيقة أقل من النوم كل ليلة، مقارنة بمن يشحنون هواتفهم المحمولة خارج غرفهم"، وأضاف لاستيغ: "إذا كان هاتفكم/نّ الخلوي على مكتبكم/نّ، فسوف يستغرق الأمر ثلاثة أضعاف الوقت لإكمال الاختبار، لذا من الواضح أن وجود الهاتف بالقرب منكم/نّ ليلاً ليس جيداً للنوم".
بالإضافة إلى ذلك، تحدث د. لاستيغ أيضاً عن تعدّد المهام، الذي يصفه بأنه "عدو اليقظة": "يستطيع 2.8% فقط من الناس القيام بمهام متعددة. كل شخص آخر يقوم بتوحيد المهام بشكل متسلسل- الانتقال من مهمة إلى أخرى- يزيد من الكورتيزول ويسبب لنفسه الاكتئاب"، منوهاً بأهمية إجراء تمارين اليقظة الذهنية كجزء كبير من التأقلم، لأن هذه التمارين تخفف من هرمون الكورتيزول.
الطبخ: قد يكون الطبخ هو الخيار الأقل توقعاً، إلا أنه جزء أساسي من أي نمط حياة يركز على السعادة، بخاصة وأن هناك أطعمة تعزّز من الصحة النفسية بحسب ما أكده د. لاستيغ، على غرار التريبتوفان، وهو أندر حمض أميني في النظام الغذائي، موجود في البيض، وأحياناً في الدواجن، وربما بشكل أقل في الأسماك، وأحماض أوميغا 3 الدهنية، وهي مضادة للالتهابات.
بشكل عام، شدد لاستيغ على ضرورة الاستغناء عن الأطعمة المصنّعة، واصفاً إياها بأنها "نقيض الرضا"، لكونها منخفضة في التريبتوفان والأوميغا 3، في حين أنها تحتوي على نسبة عالية من الفركتوز، هذا وتحدث عن أهمية الطبخ لئلا يقع المرء رهينة صنّاع المواد الغذائية: "33% من الأميركيين لا يعرفون كيف يطبخون، وإذا كنتم/نّ لا تعرفون/ن كيف تطبخون/ن، فأنتم/نّ رهينة صناعة المواد الغذائية طوال حياتكم/نّ".
باختصار، هذه هي العناصر الأربعة الأساسية لبناء سعادة دائمة، وفق ما أكده د. روبرت لاستيغ بالقول: "هذه كل الأشياء التي علمتها والدتكم/نّ إياها، والتي مرّت على جانب الطريق، لأن الثقافة التكنولوجية القائمة على المكافأة قد ترسخت على مدار السنوات الأربعين الماضية".
ونظراً لكون احتضان التغيير ليس بالسرعة والسهولة، ينصح لاستيغ كل شخص يسعى وراء السعادة، بإيقاف تشغيل هاتفه لمجرد ساعة واحدة في اليوم، مفضلاً أن يكون ذلك أثناء الاستمتاع بوجبة مع إنسان آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...